الثلاثاء ٧ تموز (يوليو) ٢٠١٥
بقلم سعيد العلمي

الأشـقــر

كان القطار يسير الهوينا، فكأنه سائر على أقدام بشرية وليس على عجلات حديدية، لكنني كنت سعيدا ببطـئه، فقد كان يتيح لي تأمل المناظر الخلابة التي كانت تمر تباعا عـبر النافذة، بأحراش الصنوبر الكثيفة وبالهضاب الخضراء المرصعة بأشجار البلوط حـيـنا وبالزيتون حينا آخر وبضروب أخرى من الشجر والشجيرات ما عرفـتُ لها اسما. وأحيانا ما فاجأني أرنب بري يجري مذعورا لدى مرور القطار وتفجر زعيقه في هدأة الصباح ووسط تلك الطبيعة الوادعة.

كنت متوجها إلى بلدة سيغـوفـيا، في قلب قشتالة، وقد أصبحت من مدريد على مبعـدة كافية تقيني من شرور حرها المزهق للأنفاس وضـجـيـجها الذي لا يطاق وفـظاظة أهلها الذين جاؤوها من أنحاء اسبانيا تاركين في بلادهم الأصلية دماثة الخلق والتهذيب.

كنت تواقا للوصول الى سيغوفـيا شمالا وللتمتع بجوها الرقيق ونسماتها المنعـشة الكفيلة بتحويل حر أغسطس ذاك الى هواء عـليل ونسمات ربيعـية. وكنـتُ أتوقُ أيضا الى مراقبة غروب الشمس خلف الجبال المحيطة بتلك المدينة، فإن الله قد أبدع في صنع الغـروب فجعل منه آية من آيات الجمال، ولكـنه خـص غـروبَ سيغـوفـيا بروعة مُمَيـزة هي أسمى ما توصل اليه عز وجل في تصوير هـبوط الشمس خلف التلال والحقول.

وتذكرت زياراتي السابقة لسيغوفيا والتي تكررت طيلة السنوات الخمس الأخيرة وكنت أقضي فيها فـترات قصيرة ربما تمتـد لأقل من يـوم وربما لأسبوعـين عرفـتُ أثناءها لـطفَ أهل المدينة وإقبالهم على الغريـب بودّ واحـترام لم أعـهدهما في مدريد.

ومر القطار بعدد من القرى والمصايف التي يؤمها سكان العاصمة حال حلول القيظ، قبل أن نصل الى محطة سيغوفيا. وتـنفستُ الصعـداء وقد أصبحـت في مأمن من مدريد وروتين الحياة المملة فيها وفكرت بشوق بالأسبوعـين الذين كنت عازما على قضائهما في هذا المصيف الهادئ برفقة صديق عزيز.

وما أن وطأت قدماي رصيف المحطة حتى شاهدته ينتـظرني وكان قد سـبقـني إلى سيغوفيا بأيام قادما إليها من إشبيلية هاربا بدوره من حرها اللاهب.

وكان صديقي من العرب الذين آثروا منذ أن وصلوا إلى اسبانيا، قبل أكثر من عـقد من الزمان، العـمل بالتجارة، بدلا من مضيعة الوقت في الوظائف، فأصبح من رجال الأعـمال الموفقين في إشبيلية وامتلك من بين ما امتلك منزلا في سيغوفيا كنا نلتقي فيه في إجازات الصيف لقاءنا الوحيد على مدار السنة، ولم يكن ذلك مما يؤثـّرُ على صداقتنا بل كانت تزداد ثقة وتوطيدا عاما بعد عام. كنا قد تجاوزنا الثلاثين من العُـمر ومازلنا نحـتفـظ بعـزوبيّـتـنا وكانت لنا في الحياة فلسفة التقينا عليها فـتـفاهمنا، ملخصها " عش ودع غـيرك يعـيش".

وحال مغادرتنا للمحطة بسيارة صديقي يوسف انهال الواحد منا على صاحبه بالأسئلة عن أحواله وأخباره رغم أننا كنا نتحدث عبر الهاتف لعدة مرات على مدار السنة. ورحـنا نخطط للرحلات التي سنقوم بها الى الجبال والقرى المجاورة لسيغـوفيا والتي اشتهرت بجمال طبيعتها ومطاعـمها.

وصمم يوسف، كعادته كل صيف، على أن نـتـناول وجـبة الغـداء الأولى معا في مطعـم كانديدو الذائع الصيت والذي أشتهر بالخنزير المشوي، ولكننا بالطبع، كعادتنا، لم نتناول ذلك الطبق، لا لأسباب دينية وحسب بل لأن أكثر من عشر سنين من الإقامة في إسبانيا لم تكن كافية لانتزاع ذرة واحدة من التـقـزز الشديد الذي كنا نشعر به لدى رؤية ذلك الحيوان القذر الذي هو أشبه مايكون بفأر كبير. إن أقبح ما يمكن أن تقع عليه العين في سيغوفـيا هو منظر الخنازير الرضيعة مسلوخة ومعلقة من أفواهها في نوافد المطاعم العريقة وقد شطرت الى نصفين وشويت.

ومن مائدتنا في ذلك المطعم الذي تطل نوافذه على الأقواس الرومانية البديعة لقناة المياه المعلقة، دار بيني وبين يوسف حديث حميم بدأناه كما هي العادة بين كل صديقين يلتقيان بعد طول انقطاع، تذاكر الماضي وأيامه الحلوة ثم الاعتذار عن قلة المكاتبة أو عدمها أو قلة المكالمات الهاتفية. فلما انتهينا من هاتين المرحلتين رحنا نخطط - كما كنا نفعل في السنوات الأخيرة وعلى نفس هذه المائدة - لكيفية قضاء الوقت خلال الأسبوعـين المقبلين.

وبينما كنت استمع الى يوسف كنت افكر، وعـيناي عبر النافدة لا تتحولان عن المبنى الروماني الشاهق ذي الألفي سنة، في سرعة الزمان التي تجعل من السنة، بساعاتها وأيامها وشهورها، مجرد ومضة خاطفة، فقد بدا لي في تلك اللحظات وكأن جلستي الأخيرة مع يوسف في العام الماضي في نفس ذلك المكان قد حدثت لتوها. ولكن ما قيمة السنة الواحدة وأنت تنظر الى ألفيّ سنة منتصـبة أمام عـينيك وتفكر بكل ما تعاقب من أجيال وأحداث تحت تلك الأقواس الحجرية الصامتة.

وما ان انتهينا من طعامنا حتى قلت ليوسف:

 والآن ما رأيك بتناول القهوة عـند ميغـيل؟.

وميغيل هذا رجل ظريف يمتلك مقهى اعـتدنا على التردد عليه في إجازاتنا السابقة. وأعجـب يوسف بالفكرة وهـتـف قائلا:

 تقصد مقهى "التـنـبـل"؟. انها لفكرة ممتازة. مضى أسبوع كامل على وصولي إلى سيغـوفـيا ولم أذهب بعد لزيارته لأنني أفضل أن نذهب إليه سوية كالعادة... وأنت سيد العارفـين.

وجاءت عبارته الأخيرة التي أرفقها بغمزة من عينه اشارة الى ابـنـتيّ " التنبل " كما كنا نلقـبّه. فللرجل ابـنـتـيـن غاية في الـجمال لم تتجاوز الكبيرة فيهما التاسعة عشرمن العمر وكانت أخـتها تـصغـرها بسنة واحدة. والفتاتان تعملان في المقهى في خدمة الزبائن، بينما يتبادل والدهما أطراف الحديث مع زبائنه كأنه واحد منهم، مُوَجِّـها أوامره الى زوجـته وابنـتـيه كي تـُسرعـنّ في خـدمة هذا وحـمل المشروب لذاك. وكنا لذلك نسميه "بالتـنـبل" على سبيل الدعابة لا أكـثر، فـنحـن لم نشاهـده يوما يـخـدم رواد المقهى أو يُعـدّ لهم طعاما أو شرابا، وحُـجّـته في ذلك، كما قال لنا مرارا، أنه اشتـغـل منذ صباه وأنه وقد تـجاوز الخـمسين من العمر حق له أن يكتفي بإدارة المقهى. وكان يؤكد لنا ضاحكا كعادته أنه - وإن بدا أنه لايشتغل- يقوم بالمهمة الأكثر تعـقيدا في المقهى، ألا وهي إدارته وتسليةِ زبائـنه الذين يداومون على زيارة مقهاه للإستمتاع بأحاديثه والضحك لنكاته.

والواقع ان الحقيقة لم تكن بعـيدة عن منطِـقِه ذاك، فالرجـل عـرفـناه شعـلة من الحـياة والمرح والـظـرافة بحيث لايـُمَلّ مجـلسه. ولم يكن لي أو ليوسف أدنى مطمع بابنتيه فلقد كان بيننا وبينهما فارق في السن لم نكن ننساه، و كان تلميح يوسف للفتاتين مجرد مزاح برئ فلم تكن بنا حاجة الى نساء في إجازتنا تلك ونحن الأعزبان الذان ننشد البعد عـنهن ولوْ لأيام قليلة.

وتوجهنا الى مقهى صديقنا ميغـيل سـيرا على الأقدام، وكلانا مستعـد بل ومـشتاق لاستقباله الحار والصاخب لنا كما يفعل في كل مرة نزوره بها فكأننا من صميم عائلته، ففي كل عودة لنا لمقهاه كان يشبعـنا عـناقا وربـتا على الأكتاف وصياحا يدعونا فيه إلى تناول ما نشاء من طعام أو شراب ثم يرفض أن يأخذ منا ولا بـيـزتا واحدة. وكان ينطلق ساردا عـلينا بالتفصيل كل ماشهدته سيـغـوفـيا من حوادث وحكايات أثناء غـيابـنا عـنها. وكان في انهماكه بالحديث لايدع لنا فرصة الكلام، وما كنا بحاجة اليه لأن حديثه كان ينقـلنا من ضحك إلى ضحك، فإذا استراح لحـظة يرشف أثناءها من قدح الكونياك أو النبيذ الذي لم يكن يفارق يده كنا نهبُّ لنسأله عن شخص ما أو عـن مكان ما أو عن حـادثة سمعـنا بها فيكون هذا بابا جديدا لحديث منه بارع الظرافة نضحك له حتى نكاد نخـتـنـق وهو يشاركنا الضحك بسعادة بادية على وجهه بينما لا يكف عن دعـوتنا لشرب هـذا وتـناول ذاك من أطعمة. وكنا لا نشاركه الا بشرب المرطبات أو القهوة، فـيفـشلُ المرة تلو الأخرى باقـناعـنا بتـناول قـدح من النبيذ أو الكونياك أو الويسكي أو غيره من عشرات المشروبات التي تـتـكدس زجاجاتها على رفوف المقهى. وكان إزاء فشله المتكرر ذاك يقول متأفـفا ومُداعـبا:

 إنكم يا معـشر العرب تريدون أن تعـيشوا ألف سنة. إشربوا فإن الإنسان منا لا بد وأنه مـيّـت من مرض ما أو من شئ ما. إنكما تـضيـّعـان عليكما فرصا لاتعـوّض من المتعة إذ ترفـضان دعوتي لكما المرة تلو المرة. غـيركما من الإسبان يـتـمـنى أن أدعـوه على كأس ويسكي واحد وأنتما هات يا شاي وهات يا قهوة. إن صداقـتـكما غـير مكلفة أبدا، بل تكاد تكون مجانا.
كان يعتاد أن يقول لنا هذه العـبارة وهو يغالب ضحكه، وكل من في القهوة مستمع لكلامه الذي كان ينطلق بصوت عال وصاخب، كعادة الإسبان في المقاهي.

وكان ميغيل اذا ما أنتهى من الحديث عن سيغوفيا وما حصل بها أثناء غيابنا شرع في سؤالنا عن أحوالنا وعن الحالة في مدريد وإشبيلية، وعن البلاد العـربية، حـتى اذا ما بدأ أحدنا بالاجابة على أسئلته انطلق هو بنفسه ليجـيـب عليها. فكان يسارع إلى صبِّ جام غضبه على مدريد وشعـبها وكـثرة سـياراتها وتلوّثِ هوائها ثم عـلى إشبيلية وحرها اللاهـب وضيـق شوارعها وكثرة لصوصها. ثم بعد ذلك كان يتناول الحالة في البلاد العربية، التي لم يزرها في حياته ويتطوع بدلا منا لندب حظ العرب بحكامهم وللتأكيد لنا، وكأنه لاعلم لنا بذلك، أن العرب لولا حكامهم لهزموا إسرائيل منذ البداية. وكان ميغـيل في ذروة حماسه العروبي يرفع عـقيرته مؤكدا لنا ولكل رواد المقهى ولزوجته وابنتيه أن العـرب هم أعـظم شعـوب العالم تاريخا وأنكدهم حاضرا، وأننا، أنا ويوسف، أعظم العرب نكدا لإصرارنا على عـدم الشرب وعدم أكل شرائح فخذ الخنزير المقدد الذي كان يقدمه لنا كأفخر ما تنطوي عليه جدران مقهاه فنعتذر له مرددين دوما:

 ولكن يا ميغـيل ألا تذكر أننا لا نأكل لحم الخنزير؟.

وتهب ابنتاه لتنبهاه من جديد، وسط اهتمام معـظم الزبائن المحملقين بنا نحن العربيين الرافضين لطبق من شرائح فخذ الخنزير لا يرفضه إسباني واحد من جنوب البلاد إلى شمالها مهما بلغ من البلاهة، إلى أننا مسلمون وإلى أن المسلمين لا يأكلون لحم الخنزير.

كان حديث ميغيل لا يُملّ أبدا وكان منطقه المرح يتدفـق بالكلمات الجريئة والجُمل الفكاهية والتشبيهات المضحكة والتعابير الظريفة التي تزدحم بها اللغة الاسبانية بشكل تكاد لا تجاريها فيه لغة أخرى.

كنتُ ويوسف نحث الخط نحو المقهى بشوق حقيقي لجلسة طويلة وممتعة مع ميغيل وعائلته. وقـلت ليوسف أثناء اقترابنا من المحل ونحـن نواصل تذاكر أحاديث ميغيل:

 وعندما ينتهي من كلامه فإنه يُجـفـف العـرق المتصـبـب من جبينه ويرشقـنا بنظرة ذات معنى مشيرا برأسه نحو ابنتيه وهما لاتفارقان مصطبة المقهى تملآن أقداح الزبائن وتخدمانهم، بمساعدة الأم التي تلازم المطبخ طيلة نهارها، بينما تستمعان معـنا إلى حديث أبيهما وتشاركانا الضحك وأحيانا الكلام، ثم يقول:

 هيه؟ ماذا تقولان؟ متى تـتم الخـطوبة ياعرب؟ أين سـتجدان أفـضل من كارمن ولوليتا أيها الأبلهين؟.
وتابع يوسف تذكر ذلك الموقف الذي تكرر عـدة مرات فقال:

 وكانت ابنتاه تتورد خدودهما خجلا عند سماع هذه العـبارات من أبيهما وتـنظران إليـنا ضاحكتين بينما ننظر اليهما بدورنا ونقول صاخبين كأنما بصوت واحد:

 ألا ترى الشيب وقد بدأ يتسلل الى رؤوسنا يا ميغيل؟ إبحث لهما عـن خـُطاب شباب. ثم ما الذي يضطرك الى تأبيد علاقـتـك برجـلـين نـكديْن لا يشربان الخمر ولا يأكلان لحم الخنزير؟.

وقلت ليوسف بلهجة جادة:

 الشئ الوحيد الذي يزعجني في هذا الرجل هو عـدم غـيرته عـلى زوجته وابنتيه وأنني ألاحـظ بعض رواد المقهى كيف يتحرشون بهن وكيف يرمقوهن بوقاحة على مرآى منه.

 معك حق. أحيانا أعـتقـد أنني أغار عليهـن أكثر من ميغـيل، فلا تـنسى أننا نعـرف البنتين مذ كانتا صغيرتين في نحو الرابعة عشر من العـمر.

ووصلنا الى المقهى. وكم كان عجبنا كبيرا. فلم تكن هناك ثمة مقاعد ولا طاولات تحت السنديانتين الضخمتين اللتين تنتصبان أمام بابه، حيث كنا نعـتاد الجلوس مع ميغـيل وعائلته في ساعات الليل المتأخرة وقد خلا المقهى من الرواد، نـنعَـمُ بالنسمات العـليلة ونطرب لحفيف أوراق الشجرتين المتمايلة مع النسيم. ومما ازددنا له عجـبا أن باب المقهى كان مغـلـقا والصمت مخـيّم عـلى المكان كما لو كان مقـبرة مهجورة. ونـظـر كل منا لصاحـبه وقد انـتـابـنا شعور كأنه خوف مفاجئ وضع نهاية لحديـثـنا المرح الذي بدأ بوصولي الى محـطة القـطار صباحا.

وسارع يوسف ليقول كأنما ليـطرد هذا الشعور:

 لربما أصبح العـم ميغـيل يقـلـد مقاهي مدريد فيغـلـق محـله يوما من أيام الأسبوع أو شهرا كاملا من أشهر الصيف.
ولكنني قـلت له مشيرا الى باب المقهى:

 إن الغـبار يغـطي الباب والقِـفل، وهـذا يعـني أن المقهى مغـلقٌ منذ مدة طويلة.

واتكأت على جذع احدى السنديانتين وقد أسقـط في يدي بينما اتكأ يوسف على جـذع الشجرة الأخرى وقد تملكته الحيرة أيضا. كان شوقـنا كبيرا للقـيا ميغـيل مما جعـل شعورنا بالإحـباط كبيرا أيضا في تلك اللحظات التي تملكـتـنا بها الحـيرة وألجَـمَ لسانـنا العَجَـب. وساد الصمت بيننا ونحن ننقل نظرنا ذات اليمين وذات الشمال لعـلنا نعـثـر على شيء نهـتـدي به الى سـرِّ إقفال المقهى وخـلوِّهِ من أصحابه.

كانت الشمس مازالت في عـنفوانها في تلك الساعة من المساء لكن النسمات الرقيقة كانت تـنساب تحـت الشجـرتين كعادتها فـكأنها تـقـطـُنُ هـناك دوما. وتـكلم يـوسف من جديد

فقال:

 ان أردت الصراحة يا عِـماد فإنني لا أخـفي عـليك قـلقي على ميغـيل وعائلته.

فنظرت إليه واجما لا أرد، فوجـدته مُطرقا الى الأرض يـُحـرك حـجرا صغـيرا بمقدمة حـذائه. وساد الصمت من جديـد ونحن لا نـتحرك من مكاننا ولا نفارقه كأنـنا ننـتـظـرُ أن يـحـدث شيء ينتشلنا مما كنا فـيه من حيرة.
ولكننا سرعان ما أدركنا أن بقاءنا هـناك لا يفيد شيئا فـفارقـنا مكانـنا صامتين وشرعـنا عائدين من حيـث أتينا. ولكن ما أن ابتـعـدنا بـضعة أمتار حتى سمعـنا صوتا ينادي:

 هيه... ماذا تريدون... أتريدون شيئا؟.

والتفتنا إلى مصدر الصوت فوجدنا رجلا مُسِـنا يقف عـلى شرفة مـنـزل فوق المقهى ويلوِّحُ لنا بيده، فـصرخـتُ به وقـد انفرجـت أساريرنا إذ تـذكـرنا عـند رؤيـته أن منـزل عائلة ميغـيل يوجد فوق المقهى:

 مساء الخير أيها الجـَد. أين أصحاب المقـهى؟.
فرد الرجل بهدوء:
 انني أسمعك جيدا، لا داعي لهذا الضجيج. ماذا تريد؟
فضقت به ذرعا وسألته بجـفاف:
 من أنت؟ نحن أصدقاء ميغـيل.
فرد متأففا ومتهكما في آن واحد:
 أصدقاء ميغـيل...أصدقاء ميغيل.
وصمتَ للحظات قبل أن يستطـرد قائلا:
 إنني أبـوه... نعم أنا والد ميغـيل.
وصمت الشيخ من جديد بينما تبادلتُ مع يوسف نظرة ارتياح لعـثورنا على من يكشف لنا عن السـرِّ الذي حيرنا. واذ بـيوسف يـقول لي وقد نفذ صبـرُه مِن العـجوز:
 أسنظل واقـفـين تحـت الشرفة كالبلهاء؟ اذا انـتـظرنا حتى يخبرنا بما جرى فلربما يموت قبل أن نعرف منه شيئا.

وصرخ يوسف بالشيخ:

 نحن اصدقاؤه أيها الجد، ولم نره منذ العام الماضي. لقـد حضرنا الى سيغوفيا لمقابلته فأين هو؟.
واذ بنا نرى امرأة تخرج الى الشرفة وتقول للشيخ كلاما لم نسمعه، فردَّ الشيخ عـليها بكل هدوء بأننا نسأل عن ميغيل. فـنظـرت السيدة إلينا مليـّا فعـرفـتـُها للـتـوّ وهـتـفتُ بيوسف:
 انها زوجة ميغـيل، أليس كذلك؟ إنها كايـتانا.
وارتسمت ابتسامة على شفتي المرأة وقد عرفـتـنا و قالت تـرحِّـب بنا بصوت عال:
 إصعدا، إصعدا، ماذا تفعلان في الشارع؟.
ثم وجهت نظـرة تأنيـب للشيخ هازة رأسها علامة عـلى استنكارها من تصرفه، فهتف بها الرجل:
 لا تنظري إليّ هكذا... كنتُ على وشك أن أدعـوهما للصعـود.

وصعدنا درجا ضـيـِّـقا دون أن نتبادل كلمة واحدة، فـقد كان تفكيرنا كله مُنـصَبٌّ على السر الكامن وراء إغلاق المحل. ووجدنا السيدة كايتانا زوجة ميغـيل تـنـتـظرُ على باب بـيتِها بالترحاب، و تعـمّدتُ عـندما صافحـتـها أن أتعـمق في عـينيها مستعجلا استشفاف الحقيقة، فوجدت فيهما حُـزنا لم أره من قبل. حـزنٌ صارت له جذور وكأنـما قد مرت عليه سنين مقيما في قلبها. وشعـرتُ بـيدٍ قـوية تعـتصِـرُ قـلبي وتلاشت ابتسامتي ونحن ندخل المنزل حيث كان الشيخ جالسا في غرفة استقبال متواضعة. وتبادلت نظرة مع يوسف فوجدته في حالة من التجهم وكأننا بصـدد تقديم عـزاء.

وما هي الا لحظات حتى كان أربعـتـنا جالسين نتبادل النظرات بصمت سرعان ما قطعـته السيدة كايتانا متحدثة للشيخ:

 ألا تذكـرهما أيها الجد؟ لقد رأيتهما في المقهى عدة مرات.
وردد العجوز وهو لا يحول نظره عـنا:
 الذاكرة لا تسعفني. ولكن مرحـبا بـكما.
وابتسمنا له شاكرين، ولكننا كنا على أحر من الجمر لمعرفة ما جرى لميغـيل ومقهاه. ولم يطق يوسف صبرا فسأل المرأة بدون تردد:
 وميغيل؟ أين هـو؟.
ولاحظـتُ إطراق الشيخ بينما سقطـت الابتسامة التي كانت آثارها ما زالت عالقة بشفتي كايتانا وهي تقول بحزم:
 في السجن.

وبهرنا الجواب...بهرنا لقصره ولفحواه. ولم يكن من الصعـب إدراك أن كايتانا كانت تثق بنا وكانت تريد أن تطلعـنا على الحقيقة بدون تلفيق. والواقع أنني كنت أتوقع خبرا أكثر مرارة من الذي سمعته منها. وبدا لي أن يوسف قد تـنبـّه من صدمة الخبر بسرعة اذ عاد فسألها بعد لحظة:

 وماذا فعل حتى يـُزجُّ به في السجن؟ لقد عهدناه رجلا مسالما و مستقيما!
وظلت المرأة صامتة ولاحظت أنها كانت تغالب دموعها فأوجست خيفة، وتـذكّرتُ ابنتـيْها فسألتها عنهما دون سابق تفكير، محاولا انقاذ الموقف، فإذ بي لم افعل سوى أن زدته سوءا حيث أجهشت المرأة بالبكاء، غـيرَ أنها ما لبثت أن تمالكت نفسها ومسحت دموعها. ونظرتُ إلى يوسف فوجدته وقد امتقع وجهه وهو يرى بكاء كايتانا والتجهم الشديد الذي كسا وجه الشيخ وهو لا ينبسُ بكلمة.
 لقد قـتلَ رجُـلا.
هكذا جاءنا جوابها اذ تمالكت نفسها لحظة. وشعرت بأحشائي تنقبض بشدة من هول ما سمعت ، بينما همهم يوسف وهو لا يكاد يصدق ما سمع:
 تقولين أنه قتل رجلا؟. ميغيل يقتل رجلا؟ هذا غير معقول.
ولكنها هزت رأسها علامة الايجاب تأكيدا لكلامها واستطردت تقول:
 نعم، ميغيل، انكما تعرفان كم كان مسالما ورحب الصدر، ولكنه قتل.
واذ بالشيخ يهتف دون سابق انذار:
 حكموا عليه بالسجن لخمسة عشر عاما، ولكنه فعل ما كان يتحتم فعله.

ولاحظت احمرارا طرأ على عيني الشيخ وهو يقاوم دمعه أيضا. وشعرت أننا دخلنا البيت لندس أصابعنا في جرح أهله. واجتاحتني رغبة بالنهوض ومغادرة المكان دون الانتظار لسماع أية كلمة أخرى.
ولكن...والفتاتين؟ وهممت بسؤال كايتانا عن ابنتيها، ولكن توارد الخواطر بيني وبين يوسف كان على أشده في تلك اللحظات، فاذ به يسبقني بسؤال الأم عن كارمن ولوليتا، فأجابته السيدة وهي مازالت تقاوم دموعها وتتلعثم بالكلام:
 أرجوكما المعذرة. ولكنني مذ رأيتكما الآن وأنا لا أستطيع مقاومة التفكير بالحال السعيد الذي كانت عليه حياتنا خلال زيارتكما الأخيرة لنا في العام الماضي. كيف تتغير الحياة من جنة الى جحيم بهذه السهولة !!. كيف تتحول بطرفة عين من أحلا الحلو الى أمر المر... بلا تحذير ولا مقدمات... أيا ليت الحياة تعود الى الوراء سنة واحدة فقط.

وهنا أجهشت المرأة بالبكاء بحرقة من جديد اذ لم تعد قادرة على السيطرة على أعصابها. وتبادلت مع يوسف نظرة حيرة وجدتني أقول بعدها في محاولة للتهوين على تلك السيدة:

 الزمان ياسنيورا كايتانا لايعود الى الوراء ولا لحظة واحدة، فدعي الماضي للماضي وتأملي من المستقبل كل خير بارادة الله.
قلت ذلك دون اقتناع، واذ بالشيخ يهز رأسه بالنفي مسلطا علي نظرة معبرة عن يأسه قبل أن يقول بصوت متحشرج:
 الخير كله ذهب مع الماضي... الماضي هو الخير، أما المستقبل فليس فيه ما يرتجى.
فتصدى له يوسف قائلا له بنبرة صارمة:

 كل زمن مضى نعتبره أفضل من الزمن الحاضر ومن المستقبل. هذه طبيعة الانسان أيها الجد. فلربما نقاسي الأمرين حتى اذا ما مر زمن المقاساة وطوته السنين التفتنا اليه بشوق وحنين، كما لو كان أسعد أيامنا ولم نقدر سعادة يومنا الحاضر التي ما كنا لنحلم بها في زمن المعاناة. كل ذلك لا لشيء الا لأن سنوات الماضي أبعد عن موتنا من حاضرنا ولأن الماضي زمن طفولة أو شباب أو أحلام. لماذا تقول أن لا أمل في المستقبل؟ اتراك من يقرر مستقبل هذه العائلة أو مستقبل أي انسان آخر أو حتى مستقبلك أنت؟!. لا أحد منا أيها الجد يعرف ما تخبئه لنا الهنيهة المقبلة من خير أو شر.

كانت المرأة تستمع ليوسف وقد كفت عن البكاء تماما، وكان كلامه على مايبدو قد وقع عليها بردا وسلاما. ولاحظ يوسف ارتياحها لحديثه ولكنه كف عن الكلام اذ بدأ يفقد زمام أعصابه إزاء ذلك الشيخ المستسلم الذي كان اما صامتا كالقبر أو متحدثا ليوهن من عزيمة تلك المسكينة.

وساد صمت عميق بينما تعلقت نظرات كايتانا بيوسف كأنها تستحثه على متابعة الكلام. ولكن صاحبي ظل مطبق الفم، وكانت هذه طبيعته عندما تتوتر أعصابه، وكنت أشعر أنه كان أيضا يتمنى مغادرة ذلك المنزل فورا ولكنني كنت موقنا في ذات الوقت أنه يتحرق شوقا لمعرفة ما حصل لهذه العائلة... لهؤلاء الأصدقاء.

وطرحت على المرأة سؤالا كنت متأكدا من أن يوسف كان يعلكه بعصبية في تلك اللحظات:

 سينيورا كايتانا. لماذا لاتسردي علينا القصة من أولها؟ هذا اذا كنت تعتبرينا من أصدقائك.
وردت كايتانا علي بهدوء بعد أن تمكنت تماما من حبس دموعها:
 بل أنتم من أصدقائنا القليلين. كانت لنا قائمة طويلة من الأصدقاء قبل أن يزج بزوجي في السجن. وكان بعضهم يبدو لنا الأخ الذي لم تلده أمنا. أما الآن، وقد أصبح ميغيل في السجن وأقفل المقهى فقد انفضوا عنا جميعا. كان ميغيل يفخر دائما بأنه محبوب كثيرا وأن له عشرات من الأصدقاء. كان الكثيرون منهم يظهرون له وجه الصداقة من أجل أن يدعوهم مجانا لتناول قدح نبيذ تلو الآخر.

وقاطعها يوسف قائلا بصوت خفيض كأنه يحدث نفسه:

 انه رجل طيب والناس يحبونه ويأنسون له بسرعة.

وفعلا بدأت كايتانا بسرد القصة التي أودت بزوجها الى السجن وأدت الى خراب بيتها السعيد فقالت:

 بدأ كل شيء بعد زيارتكما الأخيرة لسيغوفيا بأيام. كان الخريف على الأبواب ونسائم الليل قد صار فيها شيء من البرد مما جعل رواد المقهى يأوون الى بيوتهم في ساعة مبكرة الا شخصين أو ثلاثة. كانت الساعة ليلا وكنت أستعد مع زوجي لاقفال المقهى وجرد حسابات ذلك اليوم من العمل، بينما كانت البنتان تعدان العشاء في المطبخ وتتجاذبان اطراف الحديث بمرح كعهدكما بهما، فللاثنتين مرح أبيهما واقباله على الحياة. وفجأة إنشق ستار الخرز الذي يتدلى على باب المحل وأطل منه رجل لا يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر وربما أقل من ذلك...أشقر طويل القامة أزرق العينين. وكما تعلمان ففي اسبانيا يضرب المثل في جمال الرجل الأشقر الطويل القامة الأزرق العينين، ولعل السبب في ذلك أننا شعب معظمه أسمر قصير القامة نوعا وغامق العينين. وألقى الرجل علينا السلام بكل أدب، ولاحظنا فورا لكنته الأجنبية. وهممت باخبار الرجل بأن المقهى كان مغلقا اذ لم أرتح له منذ وقع نظري عليه، ولكن ميغيل الطيب استوقفني ورحب بالغريب وسأله ان كان يريد أن يتناول شيئا. وطلب الأشقر فنجان قهوة وقد بدأ على وجهه قلق شديد. وما أن قدم له ميغيل القهوة حتى بادره الرجل قائلا أنه قد وصل لتوه الى سيغوفيا بالقطار وأنه لم يجد في المحطة أية سيارة أجره وأن هاتف مقهى المحطة كان معطلا. ولم تكن المرة الأولى التي نستمع بها إلى مثل تلك الحالة، فنحن على بعد أمتار قليلة من محطة القطار. وسارع زوجي وقد فهم غرضه الى اعطائه دليل الهاتف فأخذ الرجل يقلب صفحاته بحماس باحثا عن ارقام الفنادق وهو لا يكف عن شكر ميغيل، فالمحطة كما تعلمان بعيدة عن وسط المدينة وكل ما يحيط بها هو ظلام دامس في مثل تلك الساعة من الليل. وشعرت أن زوجي كان يريد أن يعرض على الأشقر أن يؤجره غرفة في احدى الشقتين اللتين اشتريناهما في ذلك الصيف وحولناهما الى مايشبه النزل الصغير. وقاطعتها لأول مرة، لمجرد أن أقول:

 لقد حدثنا ميغيل عن مشروعه ذاك ودعانا لزيارة الشقتين الواقعتين في المبنى الجديد الملاصق لهذا المبنى.
واستأنفت حديثها قائلة:

 أصبح تأجير غرف هاتين الشقتين مصدر رزقنا الوحيد الى حين أن أتمكن من فتح المقهى من جديد. كان ميغيل يعرف أنه من العسير العثور على غرفة شاغرة في اي فندق من الفنادق التي تعلن عن نفسها في دليل الهاتف والتي لاتتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. وفعلا، فما أن اتصل الغريب هاتفيا بفندقين حتى بدأ حماسه يتلاشى. ولما كان يهم بالاتصال بالفندق الثالث عرض عليه زوجي أن يؤجره غرفة من غرفنا. وتم الاتفاق بسرعة وخرج ميغيل مع الغريب ليريه غرفته وأثناء غيابهما انصرف آخر زبائن المقهى بينما كانت كارمن ولوليتا قد انتهيتا من إعداد مائدة العشاء لنا. ومرت دقائق قليلة عاد بها زوجي ومعه ذلك الرجل الذي بدا لنا أنه أصبح خلال تلك الدقائق من أعز أصدقائه. وانتحى بي ميغيل جانبا وقال لي في زهو وفرح أن الغرفة نالت اعجاب ذلك الأجنبي الذي كان من الواضح أنه ينتمي الى الطبقة الغنية. وأخبرني أن اسمه رينيه وأنه فرنسي وأنه سيتناول طعام العشاء معنا بعد أن الح عليه زوجي بالدعوة، وهو ما أزعجني أيما ازعاج، ولكنني لم أفعل سوى أن ابتسمت للغريب مرحبة به.

وصمتت كايتانا لحظة انتهزها الشيخ ليردد بحنق وقد تفتحت جروحه باستماعه للرواية من جديد: - الفرنسيون لاخير فيهم. انهم لا يحبون الاسبان اطلاقا ويعتقدون أنهم متفوقون علينا في كل شيء.

ولما لم نعلق بأية كلمة اذ كانت نظراتنا معلقة بكايتانا، استطردت المرأة تقول:

 لم أضحك في حياتي كما ضحكت أثناء ذلك العشاء. فلقد كان رينيه سريع النكتة وصاحب ظرافة فريدة، اضافة الى أنه كان يكلمنا بلغة اسبانية ركيكة نوعا مما كان يثير ضحك البنتين عليه كلما ارتكب خطأ ظريفا سواء بالمعاني أم بالنطق. والحق أنه سرعان ما استحوذ على اهتمامنا وعلى ثقة ميغيل الذي كان يستمع اليه بشغف وهو الذي لايستمع الى أحد في مثل هذه المجالس التي اعتاد فيها ألا يترك مجالا لحديث غيره. كان الفرنسي مثقفا واسع التجربة في الحياة، يعرف أوروبا بأسرها وبلدانا كثيرة في افريقيا وآسيا، مما جعلنا جميعا آذانا صاغية لحديثه الشيق ذاك، لاسيما كارمن ولوليتا. وأذكر تماما أنه لم يعكر صفو تلك الجلسة سوى نقطة واحدة اصطدم بها ميغيل مع رينيه، وكاد الخلاف بينهما أن يحتد، فقد كانا شبه ثملين بعد كل ما تناولاه من نبيذ على العشاء،
وتدخل الشيخ من جديد مرددا وهو يهز رأسه:
 آه. أذكر ذلك. موضوع العرب.
وردت عليه كايتانا بحنان:
 ولكنك لم تكن معنا على العشاء أيها الجد. لقد كنت تغط بالنوم في تلك الساعة المتأخرة.
 نعم. نعم. ولكنك رويت لي ذلك عدة مرات.
وكنت ويوسف قد تشوقنا بشكل خاص لمعرفة نقطة الخلاف تلك بين ميغيل وضيفه والتي قال الشيخ أنها تتعلق بالعرب. فنظرت الى كايتانا استحثها على مواصلة الحديث فسارعت تقول:
 في سياق حديثه عن زياراته الى بلدان كثيرة أساء رينيه الحديث عن العرب ووصفهم بالهمجية وغير ذلك من الألفاظ المشينة. وواقع الأمر أن ميغيل تغاضى عن ذلك في أول الأمر، ولكن رينيه عاد يلح في استهزائه من العرب عله ينتزع ضحكنا واعجابنا كما اعتاد منذ بدء الجلسة، الا أننا جميعا بقينا واجمين مما أثار عجبه. واذ به يتحول عن منطق الهزل ليشتم العرب هكذا صراحة وبشكل جدي. وهنا سأله ميغيل باحتداد عن سبب كراهيته للعرب، فحار الفرنسي جوابا واكتفى بتكرار نعوته القبيحة للعرب حتى قال له ميغيل بشيء من الحنق ولكن دون أن يفقد أعصابه: -" انكم يا معشر الفرنسيين تكرهون نصف العالم وتحتقرون النصف الآخر. أنا سأقول لك لماذا تكرهون العرب، لأنهم هزموكم في الجزائر وأخرجوكم من ديارهم بعد أن استعمرتموها لأكثر من مئة عام، كما أخرجوكم من المغرب ومن تونس و من بلدان عربية أخرى، ولم يمض على كل هذا سوى سنوات قليلة يارينيه. هذا أحد الاسباب لكراهيتك لهم. أتريد مني أن أسرد لك المزيد منها؟".

كانت كايتانا تتكلم مقلدة طريقة كلام زوجها حتى أضفت على السؤال الأخير شيئا من الحدة والغضب. ولم تتوقف بل تابعت كلامها قائلة:

 ودهش رينيه أشد الدهشة وهو يستمع الى ميغيل وسأله وقد لاحظ غضبه عن سر معرفته تلك بهذه الناحية من تاريخ فرنسا. فرد عليه ميغيل بأنها فصول من تاريخ العرب أولا قبل أن تكون من تاريخ فرنسا، وأنه عاصرها، فلا غرابة في ان يذكرها. وأضاف زوجي بعد ذلك عبارة لاأنساها بدا أنها أزعجت رينيه وجرحت غروره:
 " ألا إعلم يا ضيفنا أنك لست الوحيد هنا الذي يعرف العالم. والفارق بيننا وبينك أنك مضطر للسفر من بلد لآخر للتعرف على الناس أما نحن هنا، في هذه المدينة التاريخية وفي هذا المقهى، فان العالم ببلدانه كلها يأتينا زائرا، كما اتيتنا أنت الفرنسي وغيرك من الفرنسيين، ولم نزر نحن فرنسا قط. فرنسا هي التي تزورنا. وكذلك العرب، ولي منهم أصدقاء أعتز بهم ويحبونني ويحبون عائلتي هذه ولا أقبل منك أن تشتم أصدقائي ".

ولم يطق يوسف سوى أن هتف متأثرا:

 ميغيل رجل نبيل. نعم الصديق ميغيل.
ورد عليه الشيخ:
 قلت لكم أن الفرنسيين لاخير فيهم. انهم لا يحبون الاسبان اطلاقا. لاتنسوا أن نابليون احتلنا لزمن طويل. ولكننا طردناه شر طرده.
قال العجوز كلماته الأخيره هذه بحماس شديد ملوحا بقبضته في الهواء.
وابتسمت كايتانا لقول حماها وهتفت به بصوت عال كعادتها كلما كلمته لضعف سمعه:
 لقد حدث ذلك قبل ميلادك بنحو مئة عام أيها الجد.

ثم استطردت تقول:

 ولكن لنعد الى تلك الليلة. لقد أدى ذلك النقاش بين ميغيل والفرنسي الى فتور واضح في الحديث الذي دار بيننا وبين رينيه بعد ذلك والذي لم يستمر سوى لدقائق نهض بعضها الأشقر مستأذنا وانصرف الى غرفته. وكان لذلك العشاء أثر لم ألاحظه حتى أشرفت السهرة على نهايتها. فان رينيه الجميل الطلعة.. الطويل القامة.. صاحب النكتة.. الرجل المجرب الذي يكاد يعرف الدنيا بأسرها... المثقف الذي يتكلم ثلاث لغات... والغني صاحب الثروة، هذا الرجل لم يكن قد استحوذ على اهتمامنا جميعا وحسب، بل كان أيضا قد بهر كارمن ولوليتا وسحرهما بشخصيته. وكيف لا وهما معتادتين على معاملة نوع من الناس ليس في حياتهم ما يثير أو يدهش. أضف الى ذلك أنهما كانتا في سن خطرة كل أمر مثير يتبدى فيها رائعا وكل مدهش ممتازا، هكذا دون تمحيص ولا تحليل. انها سن الحب الذي يكون القلب فيه مفتوحا على مصراعيه لأول طارق كائنا من كان. ولقد أوجست خيفة وتشاءمت اذ لاحظت نظرات ابنتي معلقة برينيه. وتلاشى مرحي في تلك الليلة قبل أن ينشب النقاش بين ميغيل ورينيه اذ لمحته يوجه نظرات لا تخلو من معاني لابنتي الكبيرة كارمن فأصبحت على أحر من الجمر مستعجلة نهاية ذلك العشاء المنحوس الذي كان بداية كل مصائبنا اللاحقة.

وانصرف رينيه الى غرفته بعد أن حيانا واحدا واحدا مستخدما مرحه المعتاد كي يؤكد أن خلافه الأخير مع ميغيل لم يخلف في نفسه أي أثر سيء. وأراد ميغيل أن يرافق رينيه حتى غرفته ليبرهن له بدوره على أنه لم يكن مستاءا منه وأن كل شيء يسير على ما يرام. لكن الفرنسي أصر على أن يبقى زوجي معنا، وتصافح الرجلان مجددا وابتسامة عريضة تعلو شفتي كل منهما. وما أن خرج الأشقر من باب المقهى حتى وجدت ميغيل ينظر الي بصمت وفي عينيه ارتسمت علامة سؤال كبيرة لم أدر كنهها ولكنها أثارت في نفسي هواجس جمة. ونظرت الى كارمن ولوليتا فوجدتهما منهمكتين في تنظيف المائدة والمطبخ وقد تلاشت فرحتهما وكف ضحكهما.

وفي صباح اليوم التالي فتحنا المقهى الساعة السابعة كالعادة، وأذكر أن الجو كان رائعا والسماء زرقاء صافية حتى بدا لي وكأن هواجس الليلة السابقة قد مضت عليها عهود طويله فلم يكن لها في نفسي في تلك اللحظات من أثر. ولم ألاحظ على زوجي أدنى انزعاج فقد كان مقبلا على الصباح بنشاط ومرح، كما عرفته دائما. أما البنتان فكانتا بعد في الفراش، كعادتهما في تلك الساعة من أيام الصيف.

ومضى الصباح هادئا وديعا حتى ساعة الضحى، فاذا برينيه يدخل المقهى مشرق الوجه، يحيينا بأعلى صوته، فاستقبلناه بدورنا أحسن استقبال. وتناول الأشقر طعام الفطور برفقة ميغيل ودار بينهما حديث علا فيه ضحكهما من جديد. ولا أدري لماذا كنا نعامل رينيه معاملة تختلف عن معاملتنا لباقي الزبائن، فمنذ اللحظة الأولى عامله زوجي معاملة الصديق، ولعل ذلك يعود الى نزعته الطبيعية في اغداق الصداقة على غير الاسبان لمشاركته لهم مشاعر البعد عن أوطانهم وعائلاتهم، كما قال لي ذات مرة.

وما أن انتهيا من تناول الفطور حتى سمعت ميغيل يقول لجليسه بصوت عال مشيرا الي:
 من الأفضل أن تستشير أمها، فمن ناحيتي لا مانع.

واذ بي والأشقر يتجه نحوي قائلا لي بثقة كاملة وكأنني من أعز أقربائه.

 سينيورا كايتنا، أريد أن أتجول في سيغوفيا لأتعرف جيدا على هذه المدينة الشهيرة. ولكنني لا أود أن أفعل ذلك لوحدي وقد أصبح لي بكم أصدقاء طيبون في هذا البلد. فهل تسمحي للآنسة كارمن بمرافقتي لتريني مدينتها؟.
وتبادلت نظرة خاطفة مع زوجي لم ألاحظ بها على وجهه أي علامة انزعاج، ولم أجد وسيلة ولا جرأة لرفض طلبه، وكنت أود أن أرفضه، ولكن أنى لي أن أقابل كل ذلك اللطف بالرفض !. ولم أجد مفرا من السماح له باصطحاب كارمن، ولم أخف علامات الامتعاض التي كانت بادية على وجهي بصراحة، ولكنه تجاهلها. وأخبرته أن كارمن لن تتأخر بالنزول الى المقهى فأجاب بأنه ذاهب لاستئجار سيارة للتجول بالمدينة وما حولها من قرى وأنه لن يتأخر بالعودة لمرافقة كارمن.

وهنا هب الشيخ كما لو استيقظ فزعا من نوم عميق وقال هاتفا بصوته الأجش:

 هنا كانت الغلطة. غلطتك وغلطة ابني ميغيل. فان كان هو أحمق فكيف تتركين أنت ابنتك ترافق غريبا في سيارة؟. هكذا بدأت الفاجعة التي دمرت عائلتنا.

وصمتت كايتانا ازاء فورة الشيخ وقد نكست رأسها اذ تملكها حزن عميق وهي تقترب بروايتها الى اللحظة الحاسمة. ووجدتني ازاء حزنها أتوجه للشيخ قائلا له بهدوء:
 هذا كلام سهل أن يقال الآن أيها الجد، ولكن من عنده علم الغيب من بين البشر؟.
ورجوت كايتانا أن تواصل حديثها بينما رأيت يوسف واجما لايرمش له جفن بانتظار معرفة بقية ما حدث.

واستأنفت المرأة حديثها فقالت:

 حال انصراف الأشقر صعدت الى هنا وأخبرت كارمن بأن الفرنسي يريد أن ترافقه في جولته في أنحاء سيغوفيا، فرأيت في عينيها فرحة عارمة حاولت دون جدوى أن تخفيها عني. وكما تفعل أي أم في مثل هذا الموقف أسديت لها النصائح وحذرتها منه حيث لم نكن نعرف عنه الا القليل، هذا اضافة الى أنه يكاد يضاعفها عمرا. وواقع الأمر انه لو كان شابا صغير السن مثلها لما تركناها تذهب معه، فان الرجل الناضج يوحي بثقة وحكمة كثيرا ما تكونا مجرد سراب. وبعد قليل عاد الرجل وطلب منا بطريقة ظريفة وصاخبه أن نخرج لنلقي نظرة على السيارة التي استأجرها. وخرجت مع زوجي وكارمن الى باب المقهى، بل ولحق بنا بعض الزبائن من أصدقائنا، فاذ برينيه قد استأجر سيارة فخمة، أبدينا اعجابنا بها، فقال بزهو على مسمع من الزبائن أن جمال كارمن يستحق سيارة أفخم من تلك بكثير. ولكننا لم ننزعج لتلميحاته تلك لأنها صدرت عنه بلهجة بدت طبيعية وبريئة. وكنت ألاحظ أن ابنتي كارمن كانت في تلك اللحظات في غاية السعادة، كطفلة تلقت لتوها لعبة جديدة.

وأذكر أن ابنتي الحبيبة كارمن قبلتني قبلة سريعة كعادتها ثم قبلت والدها واختها لوليتا قبل أن تصعد الى السيارة والسعادة تلتمع في عينيها ببراءة الأطفال. كانت في الثامنة عشر من عمرها آنذاك. ولم استطع مقاومة سؤال ألح علي بقوة في تلك اللحظة وحاولت طرده من ذهني دون جدوى: " اترى وقعت كارمن في حب رينيه !! ياالهي !". لم أكن أريد مجرد التفكير باحتمال مثل هذا... فالحب في مثل سنها أعمى وأهوج وتخشى عواقبه. وكنت أعلم علم اليقين أن ذلك الرجل كان من نوع الرجال الذين تقع الفتيات في حبهم بسهولة... رجل وسيم ومثقف وغني... وأشياء أخرى لم نكن نعرفها عنه بعد... وشعرت بقلبي يهوي الى قدمي... ترى أية أشياء تلك التي لم نكن نعرفها عنه؟... ونظرت الى ابنتي وهي جالسة في المقعد الأمامي من السيارة وشعرها الطويل الأسود مسدول على ظهرها. وشعرت برغبة جامحة ومفاجئة بسؤال ذلك الغريب عن كل ما كنا نجهله عنه... ولكن !!.

وتوقفت كايتانا عن الكلام للحظات وهي في أوج انفعالها، وقد علت أنفاسها وضجت في صدرها كما لو كانت تمر بكابوس مخيف. ثم لم تلبث ان واصلت حديثها ازاء صمتنا المطبق، فقالت مطرقة الى الأرض كسيرة الجناح:
 وانطلقت السيارة انطلاقا عنيفا أعطاني للتو معلومة جديدة عن نوع الرجل القابع خلف مقودها، فتسارعت نبضات قلبي وكدت أطلق ساقي للريح لألحق بها... لألحق بابنتي الحبيبة. ولكنني لم أبد حراكا وظللت أتأمل السيارة حتى اختفت عن نظري.

وصمتت المرأة من جديد. كان من الواضح أنها كانت تغالب دمعا سخينا تود أن تذرفه لترتاح قليلا ولكن وجودنا كان يدفعها لمزيد من المقاومة. أما الشيخ فكان مطرقا بدوره الى الأرض لايفتأ يهز رأسه أسفا وحسره ازاء تلك الذكريات المرة.

ورفعت كايتانا رأسها ونظرت الينا مليا بعينين محمرتين قبل أن تقول برباطة جأش تدربت عليها طيلة السنة التي مرت على ذلك الحدث:

 أتعلمان ياسنيور يوسف وياسنيور عماد؟. لعلكما لن تصدقا ما سأقوله لكما، فهو شيء يصعب تصديقه، لكنه هو الحقيقة المرة بعينها. كانت تلك آخر مرة رأيت فيها ابنتي كارمن... لم أرها بعد ذلك أبدا... ولا أعتقد أنني سأراها.
وهتف يوسف من فرط المفاجأة:

 كيف؟! غير معقول !.

ولزمت بدوري الصمت عل كايتانا تقدم لنا تفسيرا لما حصل. وبالفعل تابعت المرأة كلامها والدموع قد بدأت تلتمع في عينيها:

 هذا ما حصل وبكل بساطة. عندما استدرت مع ميغيل لدخول المقهى بعد انصراف رينيه وكارمن وجدنا لوليتا واقفة بالباب شاردة النظر، فصرخ بها ميغيل مرحا:

 ما بك يا لوليتا؟ لا تحزني ياصغيرتي فانها أكبر منك بسنة كاملة... ولعلك بعد سنة تجدين لك خطيبا أفضل من هذا.
وما زال صوته يرن في أذني مرددا تلك الكلمات بدعابة ومرح. ولكن من يدري؟ لعله لم يكن يشعر بأي سعادة في تلك اللحظات فكان يبدي مرحه ذاك ليزيح عني بعض ما كان يعتريني من قلق بين. إنني لم أتوصل قط لمعرفة شعوره الحقيقي في تلك الساعة من الصباح. ولما رأتنا لوليتا نقترب منها استدارت ودخلت المقهى دون أدنى تعليق على مزاح والدها مما أثار في نفسي ألف علامة استفهام جديدة. وضاعف سهوم وجهها من قلقي فدلفت الى المقهى لأعد الدقائق بانتظار عودة كارمن ولأتابع بكل جوارحي عقربي الساعة في دورانهما.

ولكن كارمن لم تعد. واخذ قلقنا نحن الثلاثة يطفو على سطح وجوهنا عندما مالت الشمس للمغيب، فسيغوفيا بلدة صغيرة لا تتطلب زيارة معالمها وما حولها من قرى كل تلك الساعات التي كانت قد مرت منذ خروجها مع الغريب صباحا. وأخذ ميغيل يذرع المقهى جيئة وذهابا، فلا يكاد يبتعد عن الباب الخارجي حتى يعود اليه و يجوس الشارع بنظره عله يرى سيارة رينيه. ولاحظ بعض زبائننا قلقنا ذاك وسألنا أكثر من واحد منهم عن كارمن، فلم يكن غيابها عن المقهى عادي في تلك الساعة من المساء، وصمت زبون شهد في الصباح مغادرتها مع الفرنسي، وشكرته بنظراتي على صمته ذاك بينما كنت أقول للسائلين أن كارمن ذهبت لزيارة صديقة لها متوعكة صحيا. وبدت لوليتا أشدنا قلقا وتوترا، وكانت قد قضت النهار في صمت وانهماك بأي عمل كنت أوصيها به أو كانت تختلقه هي بنفسها.

وحل الليل ونحن لانكاد نصدق. أقبل الليل ولم تعد كارمن. لربما كانت تلك أول مرة يخلو فيها البيت من كارمن بعد حلول الليل. وكان ذلك بحد ذاته أمرا خطيرا بالنسبة لنا. ولم نكن نعلم في تلك اللحظات أننا كنا على عتبة أيام وشهور مشؤومة كابدنا شؤمها فيما بعد دقيقة بدقيقة.

ورغم قلقنا الشديد، كان لايزال لدى كل منا شعاع أمل يتمسك به، وكنا جميعا على يقين بأن كارمن السمراء النقية.. الوردة اليانعة، ستظهر بالباب بين لحظة وأخرى. لكن شيئا من ذلك لم يحصل. ولما لم يعد لدينا أدنى شك بأن أمرا غير عادي قد حصل لكارمن، وكانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ليلا عندما انطلقت مع زوجي الى مخفر الشرطة وأخبرنا الضابط هناك عما حصل وكلانا يرتجف من شدة التوتر. وبعد أن أجبنا على اسئلة الضابط، طلب منا أن نعود الى البيت وأن نترك الموضوع في يده، وهكذا فعلنا.

وبعد نحو ثلاث ساعات جاء الضابط الى البيت وطلب منا أن نريه غرفة رينيه ففتحنا له باب الغرفة ودخلنا معه، وكم كانت مفاجأتنا كبيرة اذ لم نعثر بها على شيء من متاع رينيه وهو ما فجر مخاوفنا تفجيرا فأجهشت أبكي اذ أدركت كل شيء في غمضة عين. كان ذلك الوغد قد حمل معه كل متاعه صباحا، أي أنه خطط لكل شيء مسبقا. وطلب منا الضابط أن نعطيه أوصاف رينيه وصورة لكارمن ثم انصرف على أن يتصل بنا حال توفر أية معلومات عنهما.
ولم يغمض لنا جفن طيلة الليل. وحاول ميغيل أن يعرف من لوليتا ان كانت على علم بأي شيء يساعدنا على العثور على أختها، ولكنها ظلت صامتة وواجمة لا ترد. وفي الصباح الباكر جاء الضابط وطلب من لوليتا أن تصطحبه الى المخفر. ولم تمض ساعة حتى عادت لوليتا وأخبرتنا أن الضابط يطلب مقابلتنا. وفي المخفر، وبعد أن حاول الضابط أن يهدأ من روعنا، فاجأنا بقوله أن كارمن قد فرت مع الفرنسي بمحض ارادتها وأنها ستتصل بنا بعد زواجها به. وكانت صدمتنا مفجعة. وسألنا الضابط، ونحن لا نصدق ما نسمعه منه، كيف يمكن ان يكون الفرنسي وابنتنا قد توصلا لمثل هذا القرار ولم يكن قد مضى على لقائهما سوى ساعات معدودة، وهل من المعقول أن يكون الحب قد اشتعل بقلبيهما وبهذه القوة من أول لقاء؟! وكيف توصلا الى ذلك الاتفاق وهما لم يلتقيا الا على مائدة العشاء ولم يتبادلا سوى بضع كلمات؟!. فأجابنا الضابط بأن لوليتا كانت على علم بكل شيء وأنها قد أخبرته عندما استجوبها بأن رينيه قد مرر لكارمن خلسة أثناء العشاء ورقة طلب بها أن تقابله عند باب العمارة الملاصقة للمقهى بعد أن ننام جميعا. واستجابت كارمن لطلبه، اذ كانت قد وقعت في حبه بجنون. وقال لنا الضابط أنه من المؤكد أن كارمن اعتقدت بأنه لاضير في لقياه على باب المبنى، وأنها ستكون مقابلة بريئة ومغامرة عابرة. وأخبرت كارمن أختها بأنها ستقابل رينيه وظلت الصغيرة تنتظرها على أحر من الجمر حتى عادت قبيل انبلاج الصبح لتخبر لوليتا بأنها عازمة على الفرار مع الفرنسي. وحاولت لوليتا بكل قواها أن تثنيها عن عزمها دونما فائدة وأخبرتها كارمن أن رينيه قد أصبح كل شيء في حياتها، وانها قضت الليلة معه في غرفته وأنه جعل منها امرأة وأنها لاتطيق فراقه لحظة واحدة. وقالت كارمن لأختها أنها تفضل أن تختفي من حياتنا لفترة قصيرة ريثما تعود المياه الى مجاريها بزواجها من رينيه.

صمتت المرأة للحظات اذ وصلت االى هذا الحد من روايتها، لكن أحدا منا لم ينبس بكلمة اذ أصبحنا نعي فداحة مصاب هذه العائلة، فتابعت حديثها تقول بصوتها الحزين الذي ألفناه مذ دخلنا بيتها:

 خرجت مع زوجي من المخفر واجمين، وظللنا صامتين حتى وصلنا المقهى. وهناك أخبر زوجي الزبائن بأنه سيغلق المحل ورجاهم الخروج فغادروه جميعا دون احتجاج ودون أسئلة اذ كان بعضهم يشعر بأن مشكلتنا كبيرة فلم يسبق لميغيل أبدا أن أقدم على طرد الزبائن. وحال خروجهم واغلاق أبواب المحل أخذ زوجي بيد لوليتا وصعد بها الى هنا وضربها ضربا مبرحا حتى سمع صراخها أهل الحي، ولولا أنني انتشلتها من بين يديه لقتلها ضربا. وأجهش ميغيل بالبكاء بعد ذلك كطفل صغير فما رأيته في حياتي يبكي بتلك المرارة والحرقة. وكان في بكائه لا يكف عن القاء اللوم على نفسه مرددا أن لوليتا لاشأن لها بما حصل وأنه هو المذنب الوحيد. وفي الوقت الذي كنت فيه بأمس الحاجة لمن يواسيني كنت أحاول مواساة زوجي فلما فشلت في ذلك أجهشت باكية معه ومع لوليتا.

وفي مساء ذلك اليوم جاءنا الضابط بنتائج جديدة توصل اليها في تحرياته. وأول ما طرحه علينا كالصاعقة قوله أن رينيه لم يكن برينيه، وأن ذلك كان واحدا من أسمائه المستعارة. وقال لنا الضابط أن ذلك الرجل هو في الواقع مجرم يعمل في خدمة عصابة دولية للاتجار بالرقيق الأبيض وانه مطلوب من الشرطة في عدة بلدان أوروبية. وأضاف على مسامعنا التي لم تكن تطيق المزيد من تلك الحقائق الفظيعة أن لديه معلومات تؤكد أن ذلك المجرم وكارمن قد اجتازا الحدود الى فرنسا وأن الشرطة هناك قد نشطت في البحث عنهما.

وقبل أن يعود الضابط من حيث أتى حاول أن يخفف عنا مصابنا فقال لنا بلهجة المواسي:

 ليست كارمن أول ضحية تقع في براثن هذا المجرم. ان سجله حافل بمثل هذه الجرائم.

وما أن انصرف الضابط حتى هب زوجي قائلا لي أن أعد له فورا حقيبة سفر. كان قد عقد العزم على الرحيل فورا الى فرنسا للبحث عن كارمن لينقذها قبل فوات الأوان، ولم يكن هناك من سبيل لثنيه عن عزمه رغم أنه كان يعرف مثلي أن مهمته شبه مستحيلة. وكنت أرى في عينيه نية أخرى لم أجرؤ ولاحتى على سؤاله عنها خوفا من سماع الجواب المحتوم. لم يكن زوجي عازما على انقاذ ابنتنا وحسب، بل كانت لديه أيضا رغبة جامحة بالانتقام من رينيه. وفي اليوم التالي سافر ميغيل وأنا لا أدري في قرارة نفس ان كان علي أن أمنعه أم أن أشجعه على السفر، فلقد كنت أريد استرداد ابنتي بأي ثمن، ولكنني كنت أخاف من عواقب تلك المطاردة.
و هنا لم يتمالك يوسف سوى أن يسأل كايتانا بلهفة:
 وهل عثر على الوغد؟.
فهب الشيخ يجيبه مستخدما مقولة اسبانية شعبية:
 بل كان من الأسهل العثور على ابرة في مخزن قش.
وقالت كايتانا ترد على يوسف وتستأنف رواية ما حدث وصوتها يزداد حشرجة واختناقا:
 كلا. رغم أنه مكث في فرنسا لثلاثة شهور كاملة، ورغم أن عددا من معارفه الاسبان ساعدوه في البحث عن رينيه وكارمن، ولكن دون جدوى. وكان يزودنا بأخباره أولا بأول. وقبيل عودته الى سيغوفيا تسلمت منه رسالة مع صديق قادم من فرنسا. كانت تلك رسالة مشؤومة طلب مني ميغيل فيها أن لا أريها لابنتنا لوليتا خوفا عليها من الاصابة بانهيار نفسي لو هي قرأتها. في تلك الرسالة أخبرني ميغيل أنه تأكد من أن كارمن تعمل في أحد المواخير القذرة في باريس وأنه لم يستطع اطلاقا الوصول اليها لعلمها بأنه كان يبحث عنها. وطلب مني زوجي في رسالته أن أحاول كل جهدي نسيان كارمن فكأنها لم توجد قط، مهما كلفني ذلك من ألم. وقال لي أيضا أن اللعين رينيه معروف في الأوساط المنحطة، ولكنه لم يعثر له على أثر.
ولكن تحريات زوجي في باريس لم تذهب سدى، وياليتها ذهبت سدى، فقد علم هناك أن رينيه موجود في البرتغال وأنه سيسافر الى اسبانيا من جديد.
أتعلمان سبب زيارته الجديدة لاسبانيا؟ لقد كان يبحث عن فريسة جديدة لمواخيره الفرنسية. أو تعلمان على من وقع اختياره هذه المرة؟.
وصمتت كايتانا وهي تنظر الينا ونحن في حالة من الذهول ازاء كل ما سمعناه. ولكن ذهولنا أصبح أضعاف الأضعاف عندما قالت المرأة، ازاء صمتنا:

 لوليتا. نعم، عاد الوغد ليفعل بلوليتا ما فعله بكارمن.
وتبادلت مع يوسف نظرة استنكار وقد تملكتنا دهشة شديدة. وردد يوسف بغضب:
 كيف يمكن أن يوجد على وجه الأرض بشر بهذه الوقاحة !!.
وتابعت كايتانا تقول وقد اكتسب حديثها سرعة وصوتها علوا في انعكاس جلي لتوتر أعصابها وهي تستذكر تلك اللحظات التعسة من حياتها:
 نعم. لقد عاد رينيه ليقضي أيضا على ابنتي لوليتا التي لم يعد لي غيرها في هذه الحياة. كان يعلم جيدا أن كلتا البنتين، كارمن ولوليتا، قد فتنتا بشخصيته الزائفة. فبعد يومين فقط من تسلمي تلك الرسالة من ميغيل لاحظت تجهما مفاجئا حل بوجه لوليتا وسيطر على تقاسيمه. وأثار تجهمها قلقا عميقا بي. ولا أخفيكما أنني كنت أشك طيلة غياب أبيها بأنها كانت على اتصال باختها، بطريقة ما، ولكن ثبت لي بعد ذلك أن اعتقادي ذاك لم يكن في محله، وأبت البنت باديء الأمر أن تخبرنني عن سبب ذلك التجهم الذي طرأ عليها. صحيح أن القلق كان حليفنا منذ أن عبر الأشقر عتبة المقهى لأول مرة، ولكن قلق لوليتا ذاك كان جديدا وغريبا.
والحق أن لوليتا كانت قد تحولت من طفلة الى امرأة عاقلة خلال الشهور التي تغيب خلالها ميغيل عن البيت، وهي نتيجة حتمية للمعاناة والألم النفسي الذين كنا نكابدهما. لقد صقلت تلك الأحداث المشؤومة شخصيتها وشحذت عقلها، وهو ما لم يكن يعرفه الأشقر اللعين ولاخطر له ببال.

ولكنني تمكنت في النهاية من معرفة سبب قلقها: كانت قد تلقت صباح ذلك اليوم مكالمة من رينيه أخبرها فيها أن أختها تريد مقابلتها. ولما سألته عن أختها ولماذا لا تحدثها بنفسها قال لها أن كارمن مصابة ببحة قوية تجعل من العسير عليها التحدث عبر الهاتف، وطلب من لوليتا أن تنتظرهما عند قلعة سيغوفيا وحدد لها موعدا لذلك. وذهبت لوليتا بعد ذلك بنحو ساعة الىالساحة التي تعرفانها خارج القلعة وهي تطمع حقا بمقابلة أختها. لكن الأشقر كان بانتظارها بمفرده. وسألته ابنتي بفتور عن أختها فقال لها أنها تنتظرهما في مدريد لأنها تخشى المجيء الى سيغوفيا حيث لها معارف كثيرون يمكن أن تصادف أحدهم فيخبر والدها. لكن لوليتا رفضت مرافقته الى مدريد رغم الحاحه عليها ولجوءه لكل فنون الاقناع التي يتقنها مع الفتيات الساذجات. ولم تكن ابنتي بالفتاة الساذجة، وكانت تعلم بالضبط لأي صنف من الأوغاد كان ينتمي ذلك الفرنسي. كانت لوليتا، دون علم مني، قد قرأت رسالة أبيها، الأمر الذي جعلها بعيدة كل البعد عن مخالب ذلك الوحش، وكان حذرها منه على أشده فلم تذكر له أي شيء عن مطاردة أبيها له اذ بدا لها أنه لم يكن على علم بها.

كان رينيه الذي أغوى كثيرا من الفتيات قد وقع في شباك صغيرتي لوليتا، فقد أقنعته بأنها ستذهب الى مدريد في اليوم التالي لمقابلة أختها. كانت ابنتي الصغيرة قد أدركت نواياه الحقيقية وعدم مرافقة كارمن له في رحلته تلك لاسبانيا. ولم يخطر ببال الصياد بأنه وقع ضحية لعصفورة مهيضة الجناحين، فأعطاها عنوان الفندق الذي كان ينزل فيه في مدريد لتقابله هناك في اليوم التالي. وانصرف الأشقر مطمئنا الى أنه سيظفر بلوليتا على انفراد في مدريد حيث لا تعرف أحدا.
أما ابنتي فعادت الى البيت وهي في الحالة التي وصفتها لكما من التجهم وهي لاتعرف ماذا تفعل، حتى أخبرتني بكل شيء.

والمصائب أيها الصديقين لا تحل فرادى، بل مجتمعة. وهذا ما حصل في ذلك اليوم. فبينما كنت أهم بالخروج مع ابنتي لإبلاغ ضابط الشرطة بعودة الأشـقـر طـُرق باب المنزل فلما فتحته وجدت زوجي أمامي.وكان لقاءا سعيدا لا أنساه ماعـشت، فـلم نكن قد افـترقـنا ولا مرّة واحدة منذ زواجنا قبل ذلك بعـشرين عاما.

ولكنني كنت أشعـر أن تلك اللحظات لم تكن سوى صحوة الموت لسعادة آفلة. وصبرتُ حتى اليوم التالي فأخبرتُ ميغيل بأمر الأشقـر، فجُنّ جُـنونه وفـُـتحت كل جراحه مرة واحدة وراح يصرخ كمن فـقد عـقله:

" ألهذه الدرجة كنت طـيبا مع الناس... ألهذه الدرجة اعتقدوا أنني كـنتُ غـبـيا ". ثم لما هدء روعه شيئا ما، واعتقد الآن أنه إنما تصنع الهدوء حتى نصدق كلامه، قال لنا أنه سيذهـبُ لمقابلة رينيه عـلّه يتفق معه على تمهيد لـقاء مع كارمن مقابل أن ننسى جميعا الماضي. وألح عليّ وعـلى لوليتا عـدَم إبلاغ الشرطة كي لا تعـرقل هذا الإتفاق. ثم ودّعـنا وانصرف.
أما بقية القصة فإنكما تتوقعـانها. لقد ذهب ميغـيل إلى الفندق الذي كان الأشقـر نازلا فـيه، ولما قابله وجها لوجه أشبعه ضربا ثم طعـنه عدة مرات بسكين كبيرة اشتراها في مدريد لهذا الغرض.

وساد صمت جديد حـتى سألتها عن لوليتا اذ لفت نظري عدم وجودها معنا، فقالت كايتانا وقد استردت عيناها بعض بريقهما:

 لا عليكما. انها بخير. لقد ذهبت لمدريد لتـُعِـدّ بعـض الأوراق الرسمية الخاصة بالتحاقها بالجامعة هناك. ألم أقل لكما أن لوليتا أصبحت عاقلة وواعـية.

وتـنفسنا الصعـداء.

ولما خرجـنا من ذلك البيت لم نتمالك سوى أن نلقي نظرة حزينة على ذلك المقهى وبابه المغلق وقد غـطاه الغـبار. وخيل إلي في تلك اللحظات سماع ضجيج الزبائن ورنين الكؤوس والفناجين والملاعـق، وصوت ميغـيل يضحك ملء شدقـيه، يداعـب هذا ويلاطـف ذاك ويتـناقـش مع رواد المقهى بشؤون كرة القدم، ويصيح من حين الى حين:
 يا كارمن.. قهوة بالحليب للسيد أنطونيو.

فأرى فتاة على عتبة الشباب تسارع لإعداد القهوة مستجيبة لنداء أبيها، وابتسامة عريضة تعلو شفتيها وهي تداعـب بكلام مرح أختا لها أصغر منها سنا تقضي معـظم وقـتها شاردة الذهن، فتسارع هذه الى نافذة صغـيرة تطل على مطـبخ كبير وتصرخ بأمها أن تأمر كارمن بالكف عن الهزو منها، فتضحك الأم الطيبة وتقول بصوت عال مداعـبة بدورها ابنتها الصغرى:

 يا لوليتا متى ستصبحين كبيرة وعاقلة؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى