الاثنين ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم عبد السلام دخان

الأمومة في الوعي الإنساني

تعد الأمومة تجربة عميقة في الوعي الإنساني، تتجاوز حدود البيولوجيا لتصبح مجالا للتأمل في الحياة والقيم والوجود. في الأمومة تلتقي الروح بالواقع، ويتجلى الفرد ضمن شبكة من العلاقات الإنسانية، ليصبح وجوده متصلا بما يحيط به من قيم وروابط. تتحول الأم إلى رمز للوصل بين الشخصي والجماعي، حيث يعكس دورها الانسجام بين الذات والمجتمع، بين التجربة الفردية والمسؤولية الاجتماعية، وبين الحرية والالتزام. تحمل الأم في رعايتها بعدا رمزيا يتجاوز الطبيعة البيولوجية، إذ يصبح كل فعل أمومي تجسيدا للقيم الإنسانية، وممارسة مستمرة للوعي الأخلاقي، وتجربة تعكس العمق الوجودي للكينونة الإنسانية. وعبر التاريخ الانساني تتجاوز الأمومة كونها وظيفة بيولوجية لتصبح عنصرا جوهريا في تكوين الذات، وصياغة القيم، وبناء المجتمعات، وفهم الإنسان في تفاعله مع الآخر.

تمثل الأمومة في الفلسفة اليونانية رمزا للترابط الاجتماعي والبنية المدنية، حيث تمارس ضمن شبكة من العلاقات تتجاوز الفردية لتصبح جزءا من البناء الاجتماعي العام. تشكل الأم في منظور افلاطون عنصرا أساسيا للانسجام الاجتماعي، وتجربة الأمومة عنده تتيح إعادة تنظيم التعدد البيولوجي والعاطفي بما يخدم وحدة المجتمع. ومنح أرسطو الأم دورا شخصيا وأخلاقيا، فهي حاضنة للفضيلة ومربية للقيم، ومشكلة لتوازن النفس الإنسانية، حيث تتناغم الرعاية العاطفية مع المسؤولية الأخلاقية لتصبح الأم جزءا فعالا في صناعة الإنسان الكامل. تتحول الأمومة في في الفلسفات الحديثة، إلى تجربة فردية ووجدانية تتجاوز حدود الوظيفة البيولوجية لتصبح فضاء للتفاعل العاطفي والأخلاقي. لدى جان جاك روسو، تصبح الأم رمزا للطبيعة والحنان، وتتجلى العلاقة بينها وبين طفلها في أبعاد أخلاقية وروحية دقيقة تعكس التواصل العميق بين القلب والوعي. في الفكر الوجودي، يرتبط دور الأم بالالتزام والمسؤولية، فتصبح الأمومة مرآة للتفاعل الإنساني مع الحرية والواجب، وتجربة للتوازن بين الذات ومسؤولياتها. أما الفلسفة العقلانية، كما لدى ديكارت وكانط، فتنظر إلى الأمومة كوسيلة لصقل العقل وبناء الضمير، حيث تتحول كل لحظة من الرعاية والحنان إلى فعل معرفي وأخلاقي، ما يجعل الأمومة مكونا في تشكيل الوعي ونقل القيم، وتجربة غنية لفهم الإنسان في عمقه المعرفي والوجداني والاجتماعي والأخلاقي.

وتعد الأمومة في التراث والفكر الإسلامي، مكونا يجمع بين الروح والقيم والتربية، فتتجلى الأم حاضنة للرحمة والعطاء، ومعلمة للإيمان والأخلاق، ومثالا حيا للمسؤولية والبر. تتحقق علاقتها بالطفل ضمن سياق متصل بالمعنى الروحي والتربوي، فتشكل الأم النواة الصلبة للأسرة، وينعكس حضورها واستقرارها على تماسك المجتمع وسيرورته. وعلى نحو مدهش وبليغ تعد الأمومة في مختلف التصورات فضاء رحبا للتأمل في الروابط الإنسانية، وفي بناء القيم، وفي شبكة العلاقات بين الفرد والمجتمع، كما تمثل وسيلة لفهم الطبيعة والرمزية، ومسارا لتشكيل الأخلاق وتنمية الوعي وضمان الاستمرارية البشرية. تتحول الأمومة ـ وفق هذا السياق- إلى تجربة متعددة المستويات، تتيح استكشاف العمق الوجودي للوعي الإنساني، وتجعلها رمزا للتواصل بين الذات والعالم، بين الحياة والوجود، وبين الشعور بالمسؤولية والإدراك الأخلاقي. في هذا الفضاء الممتد عبر الزمان والمكان، تتجلى الأمومة كأداة لفهم الإنسان وتأمل طبيعة العلاقات التي تشكل المجتمع وتجسد معنى الوجود الإنساني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى