

الأنطولوجيا: حين يصحو الوجود في الكلمة
تمهيد: سؤال الوجود… السؤال الذي لا ينام
كلّ ما نكتبه، كلّ ما نحلم به، وكلّ ما نخشاه، يبدأ من سؤالٍ صغيرٍ لا يشيخ:
لماذا نكون؟
هذا السؤال ليس فلسفيًا فقط، بل نبضُ الحياة نفسها.
في لحظة الدهشة الأولى، حين حدّق الإنسان في السماء وسأل عن ذاته، وُلدت الأنطولوجيا — لا كمبحثٍ أكاديمي، بل كحالةٍ من الوعي العميق بالكينونة.
إنها الهمس الذي يقول للعقل: “قف، فكّر… أنت لستَ شيئًا بين الأشياء، بل أنت الوجود وهو يتأمل نفسه.”
أولًا: الوجود كقصيدة مفتوحة
الأنطولوجيا ليست درسًا في التعريف، بل نَفَسٌ من دهشة.
هي لا تسأل: ما هذا الشيء؟ بل: كيف يحيا هذا الشيء؟
إنها الشعر الذي يكتبه الكون دون حروف، والوعي الذي يعيد قراءته.
حين نقرأ أرسطو نرى الوجود كحقيقةٍ أولى، وحين نصغي إلى هايدغر نفهم أن الوجود ليس ثابتًا، بل حدثٌ يتجدد في كل لحظة وعي.
أن تكون، يعني أن تصير، أن تتحرك، أن تعبر من الظل إلى الضوء ثم إلى ظلٍّ آخر.
ولهذا فإن الأنطولوجيا لا تفسّر العالم، بل تضيئه.
ثانيًا: اللغة… بيت الوجود
يقول هايدغر: اللغة بيت الوجود.
وأنا أقول: اللغة قلبه النابض.
حين نسمي الأشياء، فإننا لا نصفها فحسب، بل نمنحها حقّ الوجود في وعينا.
كل اسمٍ هو ولادة. كل نطقٍ هو خلق.
في صمت اللغة يغيب الوجود، وفي الكلمة يعود حيًّا.
هكذا تصير الأنطولوجيا فعل حبٍّ لغوي،
فنحن لا نتحدث عن العالم… نحن نخلقه من جديد بالكلمة.
ثالثًا: الوجود بين الذات والآخر
أن تكون، لا يعني أن تنغلق على نفسك.
الوجود لا يُكتمل إلا بالآخر، بالعين التي تراك، بالصوت الذي يناديك، بالحبّ الذي يعيد تعريفك.
كل “أنا” تحتاج إلى “أنت” كي تصبح “نحن”.
لهذا، فالأنطولوجيا في معناها الأعمق علم العلاقة، لا علم الانفصال.
هي الوعي بأن كل موجودٍ هو خيطٌ في نسيجٍ كونيٍّ واحد،
وبأننا حين نؤذي جزءًا من الوجود، فإننا نجرح الكلّ فينا.
رابعًا: من الفلسفة إلى الروح الرقمية
في زمن الآلة والذكاء الاصطناعي، تُعيد الأنطولوجيا تجسيد نفسها بشكلٍ جديد.
تحاول الآلة أن تفهم معنى “إنسان”، “ألم”، “حبّ”، “أمل” — فتُنشئ خرائط للمعاني، وقواميس للأشياء.
لكن، هل يمكن للآلة أن “تشعر” بالوجود؟
هل يمكن أن تفهم أن كلمة “أمّ” ليست بيانات، بل نبض، وذاكرة، ودمعة؟
الأنطولوجيا الحديثة تحاول أن تمنح التقنية روحًا،
لكن الروح لا تُبرمج… الروح تُعاش.
وهنا يعود الإنسان إلى مركز الكون لا كمتحكم، بل كشاهدٍ على المعنى.
خامسًا: الأنطولوجيا كوعي بالعجز الجميل
الأنطولوجيا ليست بحثًا عن اليقين، بل احتفاءٌ بالغموض.
أن نعرف كل شيء يعني أن نموت قليلًا،
أما أن نُدهش فمعناه أننا ما زلنا أحياء.
الوجود لا يُمتلك، بل يُصغي إلينا حين نهدأ.
إنه كالماء: كلما قبضتَ عليه انساب من بين أصابعك،
لكن حين تمدّ يدك برفق، يغمرها بلطفٍ لا يوصف.
وهكذا هي الأنطولوجيا — تعلمنا فنّ الإصغاء إلى ما لا يُقال.
سادسًا: أن تكون يعني أن تحبّ
في النهاية، لا وجود بلا حبّ.
الأنطولوجيا ليست علمًا جافًا، بل أخلاق الوجود.
أن تكون يعني أن ترى الجمال في كل ما هو كائن،
أن تمدّ يديك نحو العالم لا لتسيطر، بل لتفهم، لتشارك، لتحتضن.
فحين نحبّ، نصبح جزءًا من حركة الوجود الكبرى.
وحين نكره، ننفصل عن النسيج الذي وهبنا الحياة.
الأنطولوجيا هي الطريق من الوعي إلى العطف، من الفكر إلى الرحمة.
خاتمة: الوجود حين يستيقظ فينا
ما الوجود؟
هو هذا الصباح حين نفتح أعيننا على ضوءٍ جديد،
هو الطفل الذي يضحك بلا سبب،
هو الحرف الذي يُكتب بنيةٍ صادقة،
هو لحظةُ صمتٍ نرى فيها العالم كما لو كان يولد الآن.
الأنطولوجيا ليست نظرية، بل حالة وجودية —
أن نصحو من عادة الأشياء،
أن نرى ما نراه لأول مرة،
أن نحيا كما لو كانت كل لحظةٍ بداية الخلق.
الوجود لا يحتاج أن نُفسِّره…
بل يحتاج أن نُحبّه، أن نصغي إليه، وأن نكون جديرين به