قراءة وارفة عميقة في لوحة عبد عابدي
في هذه اللوحة، لا يكتفي عبد عابدي بتقديم مشهد بصري ثابت؛ إنه يقدّم سيرة مكان وسيرة ذاكرة معًا. فمن اللحظة الأولى يشعر المتأمل أنّه أمام عالم يعرفه دون أن يزوره، وكأن الفنان يخاطب ذاكرة جماعية تلامس البيت الأول، الحارة الأولى، ورائحة الصباح الذي نبت فيه الوعي.
واجهة ليست واجهة… بل بوابة لزمن آخر
الجزء الأيسر من اللوحة يحتله باب معدني مُضلّع بظلال زرقاء – خضراء، لا يُغلق المشهد بل يفتحه. فهو ليس حاجزًا بل قنطرة خفية تحمل أثر اليد التي فتحته وأغلقته لسنوات. إنه باب تعب من الصمت لكنه لم يتخلَّ عن دوره في حماية الداخل.
إلى جانبه، نبات صغير في أصيص حجري، يبدو كما لو أنه يتشبث بالحياة وسط الخراب والبرد. النبات هنا ليس مجرد عنصر طبيعي، بل رمز للقدرة الفلسطينية الأزلية على النمو في كل تربة، حتى في التربة التي تحاول الذاكرة كتمها. أوراقه خضراء كأنها تستعيد نبض المكان الذي يحاول العالم نسيانه.
شرفة الغياب… وملابس تنتظر أصحابها
في الخلفية، تظهر شرفة قديمة، على درابزينها تُعلَّق مناشف وقطع قماش. هنا يلمع سرُّ عبد عابدي: يحضر الغائب دون أن يرسمه.
فالملابس المعلقة ليست تفاصيل منزلية، بل آثار بشر مرّوا، عاشوا، أكلوا وناموا واستيقظوا، ثم خرجوا — وربما لم يعودوا.
تعليق القماش على المشجب فعل يومي بسيط، ولكنه هنا يتحوّل إلى إعلان أن المكان لم يُهجر بعد، وأن الحياة ما زالت تتنفس ولو ببطء.
اللون… لغة الصبر والضوء
الألوان المائية التي يختارها عابدي تتراوح بين الأزرق العميق والبيج الدافئ.
الأزرق ليس لونًا باردًا هنا، بل لون الحماية، لون الجدار الذي يقاوم المطر والتقلب.
أما الدرجات الرملية في الخلفية فتمنح إحساسًا بالدفء، كأن الشمس تترك بصمتها على جدران البيت، شاهدة على مرور الأعوام.
هناك توازن بين المساحات الخشنة والتفاصيل الدقيقة، بين ما يُرى وما يُوشك أن يغيب، كأن الفنان يريد أن يقول:
حتى المشاهد الباهتة تحمي ذاكرتها، حتى الملامح المطموسة تحفظ أسماء أصحابها.
الضوء الذي لا يعلن نفسه
اللوحة مضاءة من الداخل لا من الخارج.
لا نرى مصدر الضوء، لكنه موجود، ينساب من خلف الجدران، من داخل البيوت، من وجدان المكان نفسه.
وهذا أحد مفاتيح قراءة العمل: النور ليس شيئًا يُرى، بل يُحسّ.
حوار صامت بين الجماد والحياة
الأصيص الحجري، الباب الصدئ قليلًا، الدرابزين الحديدي، كلها عناصر صامتة لكنها تتكلم معًا.
هذا الحوار يخلق نوعًا من الطمأنينة الهشّة: فالمكان يبدو ساكنًا، لكنه ليس خاليًا.
كأن اللوحة تقول:
الحياة ليست صاخبة دائمًا،
أحيانًا تسكن في أشياء صغيرة…
في نبات يمد أوراقه،
وفي فوطة تلتقط الريح،
وفي ظلّ باب مائل.
الذاكرة المرسومة
عبد عابدي معروف بقدرته على رسم الذاكرة الفلسطينية دون شعارات، ودون رفع الصوت.
هذه اللوحة مثال على ذلك: هدوءٌ يصرخ، وصمتٌ يتذكر.
البيت هنا ليس بيتًا بعينه… بل بيتٌ فلسطيني متروك/مأهول في آن واحد—
مكان رحل عنه أصحابه قسرًا أو طوعًا، لكنه يرفض الرحيل معهم.
خلاصة القراءة
هذه اللوحة ليست مجرد مشهد منزلي؛ إنها قصيدة مكان،
لوحة تُشبه تنهيدة طويلة خرجت من صدر الذاكرة،
وتعيد بناء العلاقة بين الإنسان وبيته،
بين الغياب وأثره،
وبين الحنين والأشياء الصغيرة التي لا تزال تقاوم النسيان
