السبت ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم عايدة نصرالله

السخرية وجمالية القُبح في روايات صبحي فحماوي

السخرية اصطلاحًا كما وردت في المصادر العربيّة: أحاطت الضبابيّة مصطلح «السخرية» كما ورد في القواميس سواء العربيّة أو الغربيّة منها، إذ تضمّن المفهوم معاني عديدة. فقد ورد في لسان العرب: سَخِرَ منه وبه سَخْرًا وسَخَرًا ومَسْخَرًا وسُخْرًا بالضم وسُخْرة وسِخْرِيًّا وسُخْرِيًّا وسُخْرِيّةً: هزئ به، ومنه. وتهزَّأ واستهزأ به ابن منظور، 1981.. ويرد عند حمزة عبد اللطيف رأي مشابه إذ يرى أنّ أحد أوجه السخرية هو «الاستهزاء مِن... والضحك من... بُغْية الانتقاص من الغير أو تحقيره أو تحطيمه وجعله مثار تندُّرِ وتفكُّهِ المرسِل من المرسل إليه . أمّا الفكاهة والتي من شأنها أن تثير أحيانا الضحك، ليست بالضرورة أن تكون ساخرة إذ ورد في «المعجم الأدبيّ» لصاحبه جبور عبد النور بأنّ الفكاهة هي «طرفة أو نادرة أو ملحة أو نكتة أو حكاية موجزة يسرد فيها الراوي حادثًا واقعيًّا أو متخيلا، فيثير إعجاب السامعين، ويبعث فيهم الجذل والضحك أحيانا»
وَوَرَدَ مفهوم النكتة في كتاب التعريفات للشريف الجرجانيّ أنّها: «مسألة لطيفة أُخرجت بدقّة نظر، وإمعان فكر، من نكَت رمحه بأرض إذا أثر فيها» .

أمّا الجاحظ، الذي ملك قوّة السخرية، فيقول في مقدمة كتاب البخلاء «ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء تبيّن حجّة طريفة، أو تعرّف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة، وأنت في ضحك منه إذا شئت، وفي لهو إذا قللت الجهد».

وقد دافع الجاحظ عن الضحك، بقوله: «ولو كان الضحك قبيحًا من الضاحك، لما قيل للزهرة والحبرة والحلي والقصر المبنيّ كأنّه يضحك ضحكًا... وهو (أي الضحك) شيء في أصل الطباع وفي أساس التركيب، لأنّ الضحك أول خير يظهر من الصبيّ وبه تطيب نفسه، وعليه يطيب شحمه ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوّته». كما أضاف الجاحظ: «ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمّي أولادها بالضحّاك وبسّام وبطلق وبطليق. وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ومزح وضحك الصالحون ومزحوا، وإذا مدحوا قالوا هو ضحوك السن وبسّام العشيّات.

كما أضاف الجاحظ: «وللضحك موضع وله مقدار، وللمزح موضع وله مقدار، متى جازهما أحد وقصر عنهما أحد، صار الفاضل خطلًا والتقصير نقصًا، فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر ولم يعيبوا المزح إلّا بقدر، ومتى أريد بالمزح النفع وبالضحك الشيء الذي جعل له الضحك صار المزح جدًّا والضحك وقارًا».

وعرفها محمد ناصر بوحجام: «طريقة فنيّة أدبيّة ذكيّة ولبقة في الإبانة عن مواقف وآراء ذات رؤية خاصة وبصبغة فنيّة متميّزة، وهي أسلوب نقديّ هادف في التعبير عن أفعال معيّنة كعدم الرضا بتناقضات الحياة وتصرّفات الناس وكشف الحسرة والمرارة بطريقة غير مباشرة، بعيدًا عن العاطفة الجامحة والانفعال الحادّ قصد الإصلاح والتقويم نحو الأحسن وطلبا للتنفيس عن آلام مكبوتة» (بوحجام، 2003، ص9).

ويشابه رأي الباحث شاكر عبد الحميد رأي بوحجام حيث يميل تعريفه إلى الدقة والشمول، ويتقاطع مع مفاهيم قريبة جدًّا من مصطلح السخرية حيث يقول: «السخرية نوع من التآلف الأدبي أو الخطاب الثقافيّ، الذي يقوم على أساس انتقاء الرذائل، والحماقات والنقائص الإنسانيّة فرديّة كانت أم جماعيّة، وكأنّها عمليّة رصد أو مراقبة لها، وتكون في أساليب خاصّة منها التهكم، أو الهزل، أو الإضحاك، كلّ ذلك في سبيل التخلص من خصال وخصائص سلبية». وقد يكون الإضحاك والتهكّم أو الهزل مضمونه الإضحاك.

وعرّف قاموس أكسفورد الإنجليزيّ الفكاهة بأنّها «تلك الخاصيّة المتعلّقة بالأفعال والكتابة والكلام... إلخ التي تستثير المتعة والمرح والمزاح» (عبد الحميد، ص14). وأمّا عبده حامد الهوال فضمّ الهجاء ضمن أنواع السخرية إذ يدّعي بأنّ «الهجاء الموجّه لشخص من الأشخاص بشكل مباشر كنمط من أنماط السخرية، إذن نستطيع التفريق بين الهجاء والسخرية بالقول إنّ الهجاء طريقة مباشرة في الهجوم على أشخاص غير مرغوب فيهم من قبل المرُسِل، واخترت المرسل لأنّ المقصود بتوجيه الهجاء أو السخرية إمّا كلاميًّا أو كتابيًّا. ومن في خضم معالجة الأمر كتابيًّا. وبهذا فإنّ السخرية هي طريقة غير مباشرة كما يمكن القول: «إنّ الهجاء مع فظاظته وخشونته يحمل نوعًا من السخرية، وعلى الرغم ممّا يبعثه أحيانًا في نفس المهجوّ من الضيق وتجسيمها والمبالغة في تصويرها إلى الدرجة التي تجعل المهجوّ غير ملائم للصورة الطبيعيّة التي يجب أن يكون عليها الكائن... إنها نوع من الضحك الكلاميّ، أو التصوير الذي يعتمد على العبارة البسيطة، أو على الصور الكلاميّة مع التركيز على النقاط المثيرة» (الهوال، 1982، ص16-17).

رأينا من خلال استعراض التعاريف والآراء المختلفة للباحثين العرب نوعًا من البلبلة ما زالت تشوب المصطلح حتّى اليوم كونه لا يتكئ على تعريف مطلق، شأنه شأن التطرق له في الأبحاث الغربيّة.

النظريّات الغربيّة

وتاريخيًّا يعتقد بريمير، وهو من أوائل الباحثين الذين بحثوا في السخرية وقد اعتمد على المؤرخين الذين نسبوا السخرية والضحك للفيلسوف اليونانيّ ديموقراطوس الذي عُرف بالفيلسوف الضاحك ربما بسبب ميله «للضحك والهزء من أصدقائه الأغبياء».

إلا أنّه في الأبحاث الأخيرة نرى تفريقًا بين الضحك وبين السخرية، ذلك أنّ الضحك هو صفة غريزيّة ليس شرطًا أن يكون ساخرًا، كما أنّ السخرية ليست شرطًا أن تسبّب الضحك. وهو ما يرتبط بمقولة السخرية المبكية، إذ أنّ السخرية هي أمر محكم أكثر من النكتة.

وحتّى القرن السابع أكّد كثير من الباحثين بأنّ وظيفة السخرية من العاهات هدفها بُغْينة الانتقاص من الغير أو تحقيره أو تحطيمه وجعله مثار تندُّرِ وتفكُّهِ المرسِل والمُرسَل إليه. إلّا أنّه وبفضل النظريّات الفلسفيّة التي اهتمت بمكانة الإنسان، فأصبح هذا النوع يُرى بعين الفلاسفة الإنسانيّين والأخلاقيّين كنوع قاسِ وجارح وغير طاهر بعين الفلسفة الإنسانية والتي تتطرق للضحك من ضعف الانسان.

وخلال القرن الماضي تغيرت صورة السخرية وأصبح المصطلح مطاطيًّا وذلك لأنّ المصطلح ضُمَّ تحت مظلّته الرحبة معانٍ متعددة تتطرّق لجميع أنواع الضحك مثل النكت، ستاند أب، كوميديا تلفزيونيّة، ستيرا سياسيّة، ممّا مكّن السخرية بهذا المعنى المفهوم أن تكون قاسية وعدائيّة كذلك ممكن أن تصاغ بصيغة لطيفة وفلسفيّة كأن تشكّل كتقنيّة فكريّة والتي بإمكانها استيعاب وتحمّل حالات ضاغطة بشكل محتمل أكثر .. ومن الممكن أن تهدف السخرية كما في الأدب وأجناس أخرى، مثل توظيفها لنقد شخص ما أو لمؤسسة أو للمجتمع عامّة بهدف التقويم..

وقد شغل مفهوم السخرية عددًا كبيرًا من مفكّري وباحثي مجالات فلسفيّة ونفسيّة وجماليّة مختلفة، وكذلك مختصون بعلم الاجتماع والسلوكيّات على مدى العصور، والذين بحثوا في طرق استخدامها وتأثير تقنيّاتها على المجتمع والحضارة. اعتبرت السخرية في كلّ الحضارات وخاصّة الغربيّة (كجانر) مرغوب به، وصفة خاصّة تميّز الذين يمتلكون القدرة على التأقلم مع الضغط الاجتماعيّ ومع الآخرين وهم غالبا أناس يتمتعون بصحة نفسيّة وجسديّة أكثر من غيرهم.

وقد أشار أرسطو في فلسفته عندما تكلّم عن الكوميديا والتراجيديّة إلى مصطلح الكاثرازيس، الذي يعني التفريغ والتطهير النفسيّ ، ويقارب أرسطو النظريّات النفسيّة الحديثة، إذ يؤكّد فرويد بأنّ السخرية بمعناها الضيق هي حاجة دفاعيّة وتطهيريّة للنفس، ولهذا ففي عرف فرويد؛ السخرية هي أحد التقنيّات التي تقلّل من الاكتئاب والضيق وتساعد في الصحة النفسيّة. وبناء على نظريّة فرويد وآخرين استفاد علماء نظريّة علم النفس الديناميكيّ الذين ادّعوا بأنّ السخرية تتيح للدوافع الغريزيّة مثل دوافع العداء والجنس المكبوتة في التحرر عن طريق الضحك وهذا يتضح في نكات الإيروتيكا. ففي البحث الحديث تبين بأنّ النكات الأيروتيكيّة الساخرة أو التي تنبع من شعور العداء للآخر من الممكن أن تحرّر تلك الغرائز المكبوتة، وخصص للنكتة كتابًا بعنوان «النكتة وارتباطها باللاوعي»، زعم فيه أنّ النكتة، مثل الحلم، تحاول إظهار محتويات اللاوعي المحظورة، ولهذا (مثل الحلم) يستخدم آليات التمويه. يجد فرويد صعوبة في تفسير النكات «البريئة»، أي تلك التي لا تحتوي على محتوى جنسيّ أو عدوانيّ، وهناك عدد غير قليل منها.

أما ويلسون وماكغي (1991) فيعتقدان بأن النكتة يمكن أن تكشف عن تصدّعات داخل المفاهيم من خلال أفكار تطرحها السخرية والتي من خلالها نستطيع فهم الواقع كما يجب أن نفهمه. ويؤيد ذلك كثير من علماء النفس أمثال ماسلو وفيلانت، والبورت ومارتن والذين أكّدوا بأنّ الشخصية الناضجة تتمتع بأسلوب معين من السخرية البعيد عن اللذع والتجريح والتي يشمل فكرة فلسفيّة أو رسالة من ورائه أو حتّى السخرية من الذات ليتسنّى التصالح معها أو مواجهتها وقت الضيق.
أمّا كوستلر 1964 فإنّه يفهم السخرية بأنّها عرض مشكلة على الإنسان حلُّها، وحلّ هذه المشكلة يتبع التفكير الإبداعيّ لأنّ «الغاية الكبرى من السخرية، تحقيق الوعي وإيجاد اليقظة، بعبارة أخرى السخرية تعبير للانتقادات المرّة بلغة عذبة فيها الكناية والضحك، تفرض التفكير، ولكنّ التفكير الإبداعيّ هو من يجد الطريق للربط بينهما، بشكل إبداعيّ ساخر».

نلاحظ أنَّ هناك شبهًا كبيرًا بين النظريّات الغربيّة والعربيّة بشأن تعريف السخرية، كما تقع أيضًا بلبلة بشأن التفرقة بين الفكاهة والسخرية. لكنّ أغلب الظنّ أنّ معظم النظريّات تتفق على أنّ السخرية تهدف إلى التقويم الاجتماعيّ-السياسيّ، على مستوى الفرد والجماعة، إلا أنّها تحتاج لقدرة إبداعيّة واستراتيجيّات خاصّة يمتلكها المبدع.

المنفر كوسيلة للسخرية

قد يتساءل القارئ: ما هي العلاقة بين السخرية والمنفر؟

إنّ المنفر في الأدب موضوع بحدّ ذاته يحتاج لدراسة في أدب صبحي فحماوي، وقد اخترت إدراجه في سياق السخرية، لأنّ هذا الروائي يستعمل أوصافًا لشخصيّات، وأماكن، تسودها النتانة، والمثيرة للاشمئزاز، وحتّى مشاهد متخيّلة مرعبة لا يصدقها القارئ وهي مشاهد غرائبيّة تنتهي نهايات تقلب كلّ الرعب إلى نكتة كما سنرى في رواية «عذبة». المنفر على أشكاله هو نوع من الإغراق في السخرية التي يتطلّبها موقف ما أو السخرية من شخصيّة ما.

إنّ موضوع المقزز أو المثير للقرف أدرج في الفنّ والأدب كأحد العناصر التفريغيّة بمعنى أنّ عرض المنفر يؤثّر بحدّة على المشاعر بحيث تثير مشاعر مختلفة، وفي سياق السخرية وخاصّة كيفما تظهر عند فحماويّ فالمنفر قد احتلّ كثيرّا من الأبحاث وخاصّة في نظريّة ماري دوغلاس وجوليا كريستيفا، والتي أطلقت عليه مصطلح (بائس- حقير)، وذلك يعني كلّ ما يخرج من الجسد من أشياء مقرفة تشمل الرائحة والريق والدم وكلّ السوائل التي تخرج من الجسد.

هذه الاستراتيجيّة في استعمال المنفر في الأدب وقعت تحت مصطلح آخر هو ما يسمى«جمالية القبح»؟

إنّ المقصود بجمالية القُبح في الأدب والفن، هو مقدار صياغته بنجاح بحيث يؤثّر في المتلقي، وهنا نتكلم عن جماليّة وصف وصياغة أدبيّة حتّى وإن كانت منفرة إلا أنّها على المستوى الأدبيّ قادرة على استفزاز المشاهد، وهنا يكمن مصطلح «الجمال» ولكنّه جمال منفر، أي أنّ الجمال يخصّ التقنيّة، مثلما نرى مثلّا لوحة لسلفادور دالي يخرج فيها من الجمجمة ديدان، فإنّ الجمال لا يكمن في الشعور اتجاه الصورة، وإنّما في الاتقان والتقنيّة لاستفزاز ذلك الشعور. وكما تقول فيروز في أغنيتها: (في واحد هوّ ومرته.. ولو! شو بشعة مرتو) ونحن نطرب لدى سماع هذه الأغنية، ونشعر بجمالية القبح.

تزخر كتابات فحماويّ باستحضار السوائل المنفرة والأشكال المتّصفة بالعاهات الناتجة ربما عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وإصابة كثير من أهلها بعاهات، ورأيت بأنّها تشكّل جزءًا لا يتجزّأ في تقنيّات الكاتب في إثارة السخرية المُرة وأحيانًا الإضحاك.. ففي اللهجة الدارجة الفلسطينيّة ، كأنّ يقال مثلا فلان «أبو ريالة» أي أنّ ريقه سائل. كما يدخل في باب المنفر أنّ يأتي الكاتب بالصفات الحيوانيّة وينسبها للإنسان، ممّا يجعل تلك الصفات تتضمن داخل «المنفر».

اوريل كالوني نشر كتابه عن المنفر 1929، فتطرّق لكلّ ما هو غير مألوف للإنسان هو منفر، شيء منفر مثل السمنة الزائدة، الأشياء السائلة، بصاق والريق، أشياء تدبق، رطوبة، عطب. بناء على ذلك فإنّ شعور النفور أو الاشمئزاز ردّ فعل فيزيائيّ، لا شعوريّ مذوّت بنا حسب التربية التي تلقيناها، وهي وسيلة دفاعيّة من خوفنا من التلوث أو التعرّض للنجاسة، لهذا نبتعد عن القمامة، أو مجاري البول، والتي يحسها الانسان عن طريق الحواسّ. فإنّ حاسّة الذوق، الشم، واللمس والتي تحسب كحواس أساسيّة لمصدر النفور، والابتعاد عن مصادر الأشياء المنفرة، والتي أحيانا تصل حد العدائية للآخر، مثلا يحدث ألّا يحتمل فرد معين رائحة «الفساء» وتجد من يعمل الفساء متعمدًا، فهذا نوع من التحرّش يصل حدّ العدائيّة له. وكرد فعل للمنفر او مثير الغثيان فهو رد فعل جسدي يظهر على تعابير الجسد أو بوسائل أخرى قد تؤدّي للقيء أو للهروب من مصدر النتانة. كما أنّ كالوني أضاف شعور الخوف وشعور الابتعاد من مصدر التهديد كجزء من نظريّة النفور، فنحن نتجنّب هجوم الذباب أو الحشرات ليس فقط أنّها منفرة وإنّما لأنّها تهدّد العبور لحدود جسدنا.

وتأتي عالمة الأنتروبولوجيا ماري دوغلاس بادّعاء مشابه في كتابها «الطُّهر والخطر» إذ تتطرّق للمقرف فتقارنه لمصطلح «وسخ»، ومع هذا فهي تتفق مع كالوني بأنّ مصطلح المنفر لا يمكن حصره في خانة واحدة وهو مصطلح يشوبه التشويش، لأنّه متعلّق بالمرجعيّة التربويّة، فما قد يثير التقزّز لدى شعب معيّن، قد لا يثير أيّ مشاعر لدى شعب آخر «مثلا هناك شعوب تأكل الضفدع، بينما مجرّد تخيّلها في الصحن قد يثير التقزّز لدينا». وتتطرّق دوغلاس لعنصر (المقزز-المنفر) كشعور سببه مادة حقيقيّة وعضويّة والتي تكون جزءًا من الجسد، مثل إفرازات الجسد، التي سبق أن ذكرناها إضافة لجروح مفتوحة وتشويهات خلقيّه، وحسب رؤيتها، فإنّ النفور يكمن في الخوف من العدوى ومن خطورة تلك السوائل.

وقد وظّف مصطلح المنفر في علم النفس ففكرة المنفر على يد الباحثة في علم النفس التحليلي وباحثة في السيميولوجيات جوليا كريستيفا في كتابها «قوّة الخوف» 1980 وقد ارتكزت كريستيفا على أفكار الكاتب الفرنسي جورج باطاي الذي تطرّق لمصطلح «بلا شكل أو بلا صورة» حيث اعتقد بأنّ «الشيء الذي لا صورة له لا يحترم نظام الأشياء لأنّ لكلّ شيء في العالم شكله ومكانه الخاصّ به في العالم، ولهذا فانّ الذين هم بلا صورة يحسبون أقل مكانة ومنفرين».
أمّا الباحثة النفسيّة التحليليّة والسيميولوجيّة جوليا كريستيفا فقد تأثرت من النظريّات التي سبقتها وأسّست المصطلح «الحقرة» أو المنفر ، والذي قصدت بأنّ الجسد يضطر لأن يتخلّص من السوائل والافرازات المضرّة، مثل العرق والبول وأيّ إفرازات قد تضرّ بالجسد إذا لم تخرج منه. وتعتقد كريستيفا بأنّ هذه السوائل والإفرازات هي جزء لا يتجزّأ من الجسد ولكنّها تمثل الآخر المنفر وبهذا تمثّل الفرق بين الذات/الأنا وبين الشيء /الآخر.

ولهذا فالجسد الذاتيّ مجبر على أن يتخلّص من الأخر المنفر لكي يكتسب جسدًا نقيًا، وله حدوده المعروفة، وفي الحقيقة اعتقاد كريستيفا هو أنّ التخلّص من البقايا وسيلة لتطور الذات والوعي بالفرق بين الأنا والآخر. فالأشياء المنفرة التي تخرج من الجسد هي شعور قويّ على المستوى الرمزيّ والسيميائيّ، وكذلك ترمز إلى شعور التمرّد على التهديد الخارجيّ الذي يحاول الابتعاد عنه، ولكن ربّما جاء هذا التهديد من الداخل.

إنّ نقاد الفنّ مثل هال فوستر تعاملوا مع المصطلح بما يتعلّق بأعمال فنيّة تثير النفور والتقزّز وهم من أدخلوا مصطلح الفنّ المنفر ، ولكنْ هناك باحثين مثل روازالين كراوس استعملت مصطلح لا صورة له والذي عرضته كمصطلح موازٍ للمنفر وهو ما سنجده في تصوير إحدى الشخصيّات في رواية «عذبة»، وما نسميها أحيانًا شخصيّات غرائبيّة.

مع هذا سنرى بأنّ صبحي فحماوي عندما يتكلّم عن الأماكن النتنة، ومجاري البول، والفساء، والضراط، والبصاق، فإنّ القارئ بدل من أن ينفر من الوصف فهو يضحك ضحكًا مرًّا، وذلك لأنّه يستعمل هذه الأوصاف ضمن قالب تناقضي وفي أسلوب يحفل بالمفارقة فتجعل القارئ يقف أمام موقف يثير به التفكير كما أسلفنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى