

السذاجة في لهيب الحرب

شعر : عزت گوشه گیر
عندما يُرَشُّ الدَّمُ
على الباب، على الجدار، على التربة، على الهواء،
تكون السذاجةُ
هي أن نرى فقط طَرَفَ أنوفنا.
سنينَ طويلةً في زنازين أبراج إمبراطوريّاتِ الخرسانة،
وراء الأبواب الموصَدة،
قُلوبُ البشر والمباني
مثل فراشاتٍ في شرانقَ
مُثَبَّتةٌ بدبابيسَ على خرائطَ جدرانٍ.
الإمبراطورياتُ
تعرِفُ جيدًا صوتَ كلِّ ساعةٍ،
لحظةَ شروق الشمس،
تواضعَ الغروب،
وغموضَ الليل،
وتعرِفُ كيفَ تحَقنِ بأيِّ دواءٍ
لتحوِّلُ الفراشاتَ إلى خفافيش.
عندما يُباع جوهرُ الإنسان الداخلي
بِحَفْنَةٍ من ذهبٍ،
بِسيارةٍ،
بِفيلا،
وبِدَلوٍ مملوءٍ بالكريمة والشوكولاتة،
فالإمبراطورياتُ تعلمُ
أنها بهذا الشكلَ
قد مزجتِ الخوفَ
بِرغبةِ الهيمنة.
يا للسذاجةِ أن نعتقدَ
أننا بحاجةٍ إلى مُنقِذٍ
لنرى طيرانَ الحمامِ،
أو نسمعَ زقزقةَ العصافيرِ،
أو نشمَّ عبقَ الياسمينِ الأزرقِ،
أو نُقبِّلَ شعرَ مَن نحبُّ،
أو نتذوَّقَ رغيفَ خبزٍ طازجٍ
في هواءٍ غيرِ مُحتلٍّ!
فنستندَ في راحةٍ زائفةٍ
إلى أكتافِ مَنْ
حلموا لسنواتٍ بدوسِ قصائدِ شعرائنا،
واغتصابِ بيتِ أسطورتنا،
والسيطرةِ على الجذورِ المدفونةِ في أعماقِ ترابنا.
ما هي الجذورُ؟
ما هي إلا لحمٌ ودمٌ وعظمٌ
لآبائنا وأمهاتنا وإخوتنا،
دمُ الأشجارِ والديناصوراتِ والكلابِ والقططِ،
دمُ الطيورِ،
الممتزجُ ببعضه،
في رطوبةِ سوائلِ أجسادهم
التي انتصرتْ على الغزاةِ في حروبِ القرونِ والألفيات،
أو هُزمتْ في مواجهتهم.
نحنُ نُمجِّدُ الذين صمدوا،
ونحفظُ دماءهم.
بتكريمِ حكمتهم وقوتهم نستمدُّ العزةَ.
لذلكَ نحفظُهم في الذاكرةِ دوماً،
ونردِّدُ:
"قويٌّ مَنْ كانَ عالماً، ♢ بالعلمِ يُشبَعُ القلبُ الفتى!"
أحياناً ننسى أن ناصرَ خسرو، شاعرَ القرنِ الخامس، قال:
"حينَ تمسكُ السيفَ، لا تستطيعُ قتلَ الناس...
رأى عيسى في الطريقِ قتيلاً مُلقىً،
فأُخذَتْهُ الدهشةُ، وَعضَّ على إصبعهِ،
وقال: ’مَنْ قتلتَ حتى تُقتَلَ هكذا بائساً؟
سيأتي مَنْ يقتلُ قاتلكَ!’"
أولئكَ الذينَ وقفوا على الأرضِ
قهرُوا ريحَ السلطةِ والعواصفَ
بأغصانهم وأوراقهم،
فهم يعرفونَ ما تعنيهِ الشجرةُ،
وما تعنيهِ الريحُ والعاصفةُ!
وقد طردوا الريحَ،
وطردوا العاصفةَ،
بقوةِ أغصانهم المكسورةِ.
يا لسذاجتنا!
نسينا أن نقرأَ الشعرَ،
شعرَ عظمائنا،
وشعرَ مجهولينا،
الذينَ شاركونا أفكارَهم ورحلاتِهم
بلا طلبِ مجدٍ أو ثناءٍ.
نسيناهم بسهولةٍ!
ونسينَا حِكَمَنا!
وما أعظمَ قولَكَ:
"ما الفرقُ بينَ الحميرِ والزعفرانِ؟!"
بدونِ الشعرِ،
الإنسانُ الجشعُ يمزقُ الآخرَ بلا رحمةٍ
لأجلِ رغيفِ خبزٍ،
أو طبقِ أرزٍ،
أو دلوِ كريمةٍ وشوكولاتةٍ،
أو أيِّ شيءٍ يتلهَّفُ عليه!
ما أفظعَ أن يمزقَ الإنسانُ الجشعُ صدرَ آخرَ،
وينتزعَ قلبَه من جسدِه،
ليأكلَه نيئاً،
فقط ليسمعَ
خطواتِ غرباءَ على أسفلتِ شوارعِ أرضٍ
رَضِعَ فيها الحليبَ
من ثديِ أمٍّ أرضعتْهُ،
أو شربَ حليبَ البقرِ والغنمِ والماعزِ
من زجاجةِ الرضاعةِ،
وتعلَّمَ المشيَ،
ونطقَ بلغاتٍ: "مرحباً.. سلاماً!"
مَنْ يُمْكِنُهُ أنْ يُفَتِّحَ ذراعيهِ
لِوُلاةِ الأمْرِ
الذينَ يُجيبونَ على تَحِيَّاتِهِ بِكَلِماتٍ غريبةٍ
بِاسْتِعلاءٍ: "سَلامٌ.. سَلامٌ!"
لِأَجْلِ رَغيفِ خُبزٍ،
أَوْ صَحنِ أرُزٍّ،
أَوْ دَلوٍ مِنْ كريمةٍ وَشوكولاتةٍ،
أَوْ فيلا،
أَوْ.. مَاذا أَعلَمُ! لِأَيِّ شَيءٍ يَهْفو قَلْبُهُ!
"فُرُوغ"ُ الحَيَّةُ الَّتي تَنامُ تَحْتَ التُّرابِ
قالَتْ قَبْلَ سِنينَ:
"أَنا أَعرِفُ أَسرارَ الفُصولِ،
وَأَفْهَمُ لُغَةَ اللَّحَظاتِ،
الْمُنْقِذُ نائِمٌ في القَبْرِ."
ما أَحْمَقَ الحَياةَ حينَ يَكونُ الإِنسانُ تابِعاً فَحَسْبُ،
ويَنتَظِرُ مُنْقِذاً
ليَكونَ صَوتَهُ الزَّائِفَ!
مَنْ هُوَ المُنْقِذُ؟
إِلّا ذاكَ الَّذي يَكونُ في اللِّسانِ صَديقاً،
وفي الفِعلِ،
يَحْبِكُ حَبْلَ المِشْنَقَةِ!
"فُرُوغ"ُ العَظيمةُ قالَتْ:
".. هَذا العالَمُ كَعُشِّ الأَفاعِي،
وَهُوَ مُمْتَلِئٌ بِأَصْواتِ خُطُواتِ قَوْمٍ
يُقَبِّلونَكَ بَينَما
يَحْبِكُونَ حَبْلَ إِعدامِكَ في أَذْهانِهِمْ!"
يا لِلسَّذاجَةِ أنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَستَطيعُ
أَنْ يُسْكِتَ أَصْواتَ كُلِّ أُولئكَ
تَحْتَ التُّرابِ وَفَوقَهُ،
كُلَّ أُولئكَ المَسْجونينَ خَلْفَ الأَبْوابِ المُوصَدَةِ،
كُلَّ الأَطْفالِ بِلا أَيْدٍ وَلا أَرْجُلٍ،
كُلَّ النِّساءِ وَالرِّجالِ وَالعُجُزِ،
كُلَّ الجِياعِ وَالمَشْدودينَ بِالبَرْدِ وَالحَرِّ،
المَلْدُوغينَ بِالعَقارِبِ وَالحَيَّاتِ،
أَنْ يَحْبِسَهُمْ في صُنْدوقٍ وَيُقْفِلَهُ بِإِحْكامٍ!
فَما هُوَ الصَّوْتُ إِذاً،
هذا الَّذي يَتَسَرَّبُ خارِجاً
ويَعْصِفُ في أَعْماقِ الرِّيحِ؟
وما هِيَ الأَحْلامُ؟
وما النَّوْمُ؟
وما الكَوابيسُ؟
وَالأَحْلامُ جانِباً،
ما البَصَرُ؟
ما التَّخَيُّلُ؟ ما الفَنُّ؟
ما الكَلِمَةُ؟ ما الغِناءُ؟ ما الأَلْحانُ؟
يا لِلسَّذاجَةِ أَنْ يُغَرِّقَ الإِنسانُ رَأْسَهُ في الثَّلْجِ
أَوِ التُّرابِ أَوِ الهَواءِ أَوِ الماءِ
لِكَيْ لا يَرَى الحَقيقَةَ!
ما قُدِّرَ أَنْ يَحْدُثَ،
سَيَحْدُثُ.
وَالصَّمْتُ وَالدَّهْشَةُ،
وَالصُّراخُ وَالاسْتِنْكارُ،
هِيَ بَدايَةُ رَدِّ فِعْلِ الإِنسانِ!
خِيارُ الضَّغْطِ،
وَالتَّشَتُّتُ وَالتَّرَكُّزُ،
وَانتِشارُ الحادِثَةِ،
قَانُونٌ فِيزِيَائِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ فِي حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ!
حِينَ يَحمَرُّ اللِّسَانُ فَجْأَةً،
تَتَفَرَّقُ الجُزَيئَاتُ المُتَرَاكِزَةُ،
فَتَنْتَشِرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ،
وَتُطرَدُ مِنْ نُقطَةٍ فِي العَالَمِ إِلَى نُقطَةٍ أُخرَى.
هَذَا هُوَ بِدَايَةُ التَّحَوُّلِ.
بِدَايَةُ الدَّمَارِ.
وَالدَّمَارُ لَا قَرْنَ لَهُ وَلَا ذَنَبَ!
الدَّمَارُ هُوَ الدَّمَارُ!
هُوَ أَنْ يُذْرِيَ اللِّسَانُ الأَحْمَرُ الأَخْضَرَ فِي الرِّيحِ!
هُوَ أَنْ تَصِيرَ رُوحُكَ بِلا قِيمَةٍ.
وَأَنْ لَا تَكُونَ أَنتَ سِوَى أَدَاةٍ!
أستطيعُ أن أتحدثَ ساعاتٍ
عن أناسٍ وقفوا منذ ألفياتٍ
أقوياءَ كأشجارِ السيكويا الألفية،
يترنّمونَ بالشِّعر.
ولكنّها قد تكونُ سذاجةً إن فتحتُ فمي لأتحدثَ عن المستقبل.
لا أرى المستقبلَ القريبَ سهلاً.
ويخبرني حدسي
أنّ في ثنايا جسدِ العالم،
هناكَ من يعيدُ ولادةَ "جنينِ الدين"،
ذاك الذي نُقِعَ لسنواتٍ في الخلِّ والملح.
وحروبٌ صليبيةٌ جديدةٌ في الطريق.
وفي هذه اللحظات،
يتضايقُ قلبي كصماماتِ القلبِ المتشنِّجة،
حزناً على قبيلتي،
على إخوتي وأخواتي، وأطفالِهم وأحفادِهم،
على كلِّ تلك العظامِ تحت التراب
التي كانت تمشي وتأكلُ وتتشاجرُ وتحبُّ قبلَ إعدامها...
على كلِّ تلك العيونِ التي مزَّقها الرصاصُ المعدني،
وتلك الوجوهِ الباسمةِ التي أذابها الحمض،
على كلِّ مَنْ هم قبيلتي..
وهنا، في هذا الجزء من العالم،
أشتاقُ أيضاً إلى ماركس،
إلى سيمون دي بوفوار ومارجريت أتوود،
وأسترجعُ فجأةً في ذهني روايةَ "حكاية الجارية".
إذا سلبوني عينيَ وأذنيَ ولساني وفضولي،
فما عسايَ أكونُ إلا جثةً شبهَ حيةٍ على التراب،
تحتضرُ كدجاجةٍ مذبوحة!
يا لسذاجةِ الظنِّ بأن "مارييت"،
صديقتي المسيحية الفلسطينية التي فقدت أخبارها منذ سنوات،
ربما تذكرني هذه الأيام!
إن تذكرتني حقاً،
فستغرقُ في شعورٍ متناقض.
ربما أخبرتها خلال صداقتنا التي دامت بضع سنوات،
قبل أكثر من عشرين عاماً،
أنّي حين كنتُ في الخامسة عشرة،
امرأةٌ فلسطينية مهاجرة
طلبت مني ماءً في طريق المدرسة،
لرضيعها الملفوف بخرقة سوداء،
في حرّ شهر مايو في خوزستان.
قالت: "ماء.. ماء"،
بشفتين يابستين كتربة الطريق المتشققة بين الأهواز والخرمشهر.
وربما أخبرتها أني في الأيام الأولى للحرب العراقية الإيرانية،
في شهري سبتمبر وأكتوبر،
تركتُ ابني الصغيرَ في أزقة طهران،
لأعالجَ جرحى الحرب في المستشفيات الميدانية بشادكان والأهواز.
كان ابني يناديني في الأزقة،
مرتعباً،
وحيداً،
مذعوراً.
كنت أسمع صوته تحت النخيلِ المقطوعة الرؤوس،
بين أصوات النساء والفتيات العربيات
اللاتي كنّ يخاطبنني بعيونهنّ بالعربية.
وربما أخبرتُ "مارييت"
أنّي كلما سمعتُ ابني ينادي: "ماما"،
أتناثرُ ألفَ قطعةٍ من شعوري بالذنب!
ربما أخبرتها...
دمُ عشتار يجري في عروقي
هدوءاً.. ذعراً..
وأحفادُها العربُ عبر ستة آلاف عامٍ
يتناغمونَ معَ قلبي.
يَحْتَلُّونَ تحتَ جفوني.. فوقَ عينَيَّ.
ربما أخبرتُها
كم أفهَمُ ألمَ كونها فلسطينية.
ولا أدري إن كانت في غزة أم في القدس،
حيّةً أم ميتةً.
لكنني أعلمُ أنني لم أخبرها
كيفَ علقَ ألمُ تلكَ المرأةِ الفلسطينيةِ المسلمةِ
في عظامي إلى الأبد.
لا أدري إن كانت أختي الكبرى
وأطفالُها وأحفادُها
أحياءٌ أم أموات.
ولا أدري إن كانت أختي الصغرى
حيّةٌ أم ميتة.
ولا أدري عن إخوتي الأربعة،
ولا عن كل أبناء العمِّ والخالةِ والعمةِ والخال،
ولا عن قبيلتي كلها،
ولا عن أصدقائي،
ولا عن جيراني،
ولا عن كل أناسِ الحاراتِ والشوارع،
ولا عن شعبي..
أحياءٌ هم أم أموات.
شعبي..
الذي اسمُ كلِّ فردٍ فيهَ: إيران.
التاسع عشر من يونيو عام 2025
الشاعرة : عزت گوشه گیر/ Ezzat Goushegir: كاتبة مسرحية، وقاصة، وناقدة سينمائية، وشاعرة. حصلت على شهادة في الكتابة المسرحية والأدب الدرامي من كلية الفنون الدرامية في طهران، وعلى درجة الماجستير في الفنون الجميلة من قسم المسرح بجامعة آيوا.نُشر لها حتى الآن أربعة عشر كتابًا باللغة الفارسية، من بينها مجموعات قصصية مثل: تلك المرأة، تلك الغرفة الصغيرة والحب، ووفجأة صرخ النمر: امرأة؛ وتلك المرأة التي ودّعت دون أن تقصد. كما نشرت مجموعة شعرية بعنوان الهجرة إلى الشمس، ومجموعتين من المسرحيات بعنوان التحوّل وحمل مريم.وقد قُدمت أعمالها المسرحية من قبل فرق مسرحية مختلفة، من بينها مسرحية حمل مريم التي فازت بجائزة "ريتشارد مايباوم"، وكذلك مسرحية من وراء الستائر (المستوحاة من حياة قرة العين)، والتي فازت بجائزة "نورمان فلتون".وحاليًا، تقوم عزت گوشهگیر بتدريس كتابة القصة والشعر الكلاسيكي في جامعة ديبول في شيكاجو – إلينوي.