السبت ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم عبد العزيز غوردو

السيد سنونو...

السيد سنونو...

كل شيء بدأ صبيحة أحد أيام فبراير الدافئة...

عندما طلعت علي طيور السنونو وهي ترمم أعشاشها التي رحلت عنها بداية الخريف الماضي. كنت أراقبها وهي تحمل في مناقيرها كريات ندية من الطين تضعها في مكانها من العش بإتقان شديد.

العش عند كوة صغيرة - بأعلى حجرتي - تمدني بالضوء... في الطابق التاسع.

في الواقع ليس هناك طابق تاسع في العمارة، فهي كلها من ثمان طوابق، لكن هناك حجرة بدورة مياه فوق السطح، وأنا أسميها الطابق التاسع... وأنا أسكنها...

أقطن إذن في الطابق التاسع!

فتحة العش ضيقة جدا، والطائر يرد جناحيه للخلف كالسهم... يستطيل ليدخل بمرونة عبر الفتحة الضيقة حاملا في منقاره أثاثه: قطعة من القش يدخلها ويغيب فترة قبل أن يخرج من جديد... يعود حاملا قطعة أثاث جديدة... أو كرية طين ندية... ترى هل هو نفس الطير كل مرة؟ سألت نفسي، وقلت: السنونو كالصينيين كلها تتشابه! أبيض وأسود... ترى ماذا يفعل الطير عندما يغيب في الداخل؟ سؤال آخر أثار فضولي، ثم تعاقبت الأسئلة المحيرة، وتكررت، حتى عدت لأَبسطها: هل طيور السنونو فعلا بيضاء وسوداء، أم أن ذلك محض اشتباه لأعيننا الساذجة؟

قررت أن أتجسس عليها، على عالمها السري بالداخل، لكن الكوة بحجرتي لم تكن لتسمح بذلك، لأن جزءا كبيرا من العش موجود أصلا في الزاوية الخارجية للغرفة، ولا يمس الكوة إلا جزء صغير منه، فاتخذت قرارا آخر: أن أنبش ثقبا إلى جانب الكوة وأغطيه بلوح صغير من الزجاج لأراقب ما يجري بالداخل، هذا ما رأيتهم يفعلونه مرة في عالم الحيوان في شريط تلفزيوني، فهل ستسعفني "تقنيات الإنتاج" التي أمتلكها على ذلك؟ على أي فقد اتخذت قراري وكفى...

كان علي كل مرة أن أنتظر رحيل الطير للشروع في العمل... ثم مواصلته وإنهائه بهدوء، وتؤدة، وصبر... مخافة أن ينهدم العش بالخارج... تطلب الأمر استعمال سكاكين المطبخ، ومفك براغي، ومثقاب كهربائي... تطلب الأمر أيضا بضعة أيام... مثل بطل فيلم "الهارب من ألكاتراز"... بضعة أيام لنبش ثقب صغير، لكن ما الضير في ذلك، فأنا عاطل من دون شغل رسمي، بعد أن فصلت عن العمل بتهمة الشغب، والمشاكسة، وعدم احترام رؤسائي... وتهم أخرى كان لها وزنها في ميزان سيئاتي: تعرف طعم المرارة الذي تحسه عندما تتحالف النقابات مع الحكومة ضدك أيها المسكين!؟

انتهى العمل الآن، الثقب الذي أحدثته بالجدار كان صغيرا، لكنه كاف لأن يسمح لي بالتجسس على العالم الداخلي بالعش... تخيلتني عالِم بيئة ينجز بحثا حول سلوكيات الطيور... سرت مزهوا بضع خطوات في الحجرة... ثم خرجت لمراقبة الفضاء الفسيح.

أسندت ظهري للجدار وجلست في انتظار موضوع دراستي...

لم يتأخر في القدوم... والدخول... ثم الخروج... عاد مرة أخرى، ومعه ثلاثة طيور جديدة... حامت جميعها حول العش... أما هو فرد جناحيه للخلف كالسهم وتسلل داخل العش...

في الحقيقة لست متأكدا من أنه نفسه الذي يدخل كل مرة... لم يطل انتظاري، فقد دخل خلفه طائر آخر... أما الآخران فظلا يحلقان حول العش في فضول، ثم التحق بهما طائر ثالث، فرابع، فخامس... بدأت كلها تدور حول العش، في سعادة، أو جنون، لست أدري... تبتعد، تأتي مسرعة كالسهام، تتوقف في الفراغ كأنما شدت بخيط، ترفرف، تتوقف عن الرفرفة وتنزلق مع الريح في انسياب... لكنها لا تتوقف أبدا، لا تحط على حبل، أو جدار، أو شجر... ترتجف أجنحتها، تضطرب... حتى يخيل إليك أنها تهوي نحو الأرض، بل تكاد تلامسها، وبحركة صغيرة من جناحها تغير اتجاهها تماما، ثم تحلق فجأة في عنان السماء حتى تتضاءل لكنها لا تتوقف عن الطيران... ألا تتعب؟

حدقت فيها عندما اقتربت مني، وخصوصا عندما كانت تريد الدخول إلى العش... اكتشفت أولى الإجابات عن أسئلتي، عن أبسط أسئلتي، تعلمت الآن أن لونها ليس أسودا، كما كان يخيل إلي، بل كحلي مخضر، اخضرارا قاتما براقا، وصدرها يميل للرمادي الفاتح، الفاتح جدا... ذيلها أيضا ليس متماثلا، فمنها من له ذيل أطول من الآخر... أما ذقنها فأحمر...

" "

" "

اليوم الموالي

استيقظت باكرا جدا، انتظرت مجيئها... نفس الحركات والسكنات، نفس المسار اليومي المضني، ألا تمل من الطيران؟ ألا تمل من ممارسة جنونها؟ أين باتت الليلة؟ فكرت في أن بعضها ربما جاورني هذا العش دون أن أنتبه إليه... لذلك ظللت طيلة النهار منشغلا بشيء واحد: انتظار المساء، حتى إنني أهملت نفسي، ونسيت طعامي... ظللت مركزا فقط على مجيء الليل لأعرف من يبيت في العش...

وأخيرا جاء المساء... تسلل الأول داخل العش... بعد برهة تسلل الثاني... لم أنتظر المزيد، أسرعت إلى زاوية الحجرة الخارجية... وضعت طاولة وفوقها كرسي قديم مهترئ، الواقع أن الطاولة لا تقل عنه اهتراء، ثم صعدت عليهما لأصل العش، وأنا أنتظر بين لحظة وأخرى أن تنكسر الطاولة أو تنخلع إحدى أرجل الكرسي فأنزلق... بسرعة أغلقت مدخل العش... ثم سحبت الطاولة والكرسي لداخل الغرفة، صعدت عليهما من جديد... أطللت من الكوة... لا شيء... ثم من الثقب المغطى بقطعة الزجاج... لا شيء تقريبا، العش شبه مظلم إلا من أشياء سوداء تتحرك بالداخل وسط الظلام...

نزلت، فتشت في علبة كرتون تحت السرير، أخرجت منها مصباح بطارية، أستعمله عادة عندما ينقطع النور، ثم عدت باتجاه العش، وجهت إليه المصباح، بعد أن أوقدت مصباح الحجرة حتى يتضاعف النور، اضطرب الطيران بالداخل... الآن بإمكاني رؤيتهما بوضوح...

اشتد اضطرابهما... لم يجدا مخرجا... والظلام أسدل عباءته بالخارج... ليس لهما خارج... لم يعد لهما خارج يمرحان فيه بجنون... لعلهما الآن يفكران كيف دخلا إلى هنا، كيف وصلا إلى هذا المأزق... تتصاعد أنفاسهما... ألاحظ ذلك جيدا، عبر الريش المنفوش... بل أكاد أسمع دقات القلبين الصغيرين تتسارع حتى لتكاد تنخلع من مكانها... والأعين تتحرك في محاجرها تائهة... حائرة...

أدركت أن علي أن أهدئ من روعها الآن... أطفأت مصباح الحجرة، ووجهت مصباح البطارية باتجاه مائل، بحيث لا يمس العش مباشرة... قلت في نفسي: حتى يستأنس الطائران بالتدريج. تركت المصباح معلقا بالكوة... وخرجت إلى السطح... تناولت عشائي (خبز+ زيتون+ شاي) في الظلام... بعد ساعة صعدت إلى العش – بطريقتي المعتادة – ونزعت قطعة القماش التي أغلقت بها مدخل العش... أسندت ظهري للجدار كعادتي وجلست أراقب ما يحصل: أن يخرج الطائران، أن يرحلا، أن يقسما ألا يعودا لهذا العش الملعون أبدا... انتظرت... أنا الآن الذي أضطرب... أنا الآن الذي يكاد قلبي ينخلع من مكانه... لكن لا شيء من هذا حدث... بعد ساعة أخرى دخلت إلى غرفتي ونمت...

" "

" "

خلال الأيام الموالية...

تعلمت المزيد عن طباع السنونو، عرفت مثلا أن الذكر يختبر العش مدة طويلة قبل أن يبدأ في إقناع الأنثى بأن تقبل به كعش... وكذكر... علمت أيضا أن زيارتها للعش أول مرة لا يعني قبولها به بيتا... وزوجا... وداخل العش تتواصل المفاوضات مدة طويلة، على ما يبدو، قبل أن توافق الزوجة على بيت الزوجية...

" "

" "

في صبيحة أحد الأيام... وأيام موالية... فوجئت بخمس بيضات تملأ العش، حيث بدت السيدة سنونو منهمكة في العمل على تفقيسه، وحيث بدا أن الطبيعة منحتها التخصص في ذلك، من دون مشاركة الذكر، لأنها تمتلك مكيف تدفئة طبيعي عند الصدر، وتحت الريش مباشرة، يمكنها من التحضين بصورة مثالية، كما أنها تقوم بتقليب البيض بمهارة شديدة... طوال هذه الفترة التي استمرت عدة أيام... تكلف الذكر بالحماية ومد الشريكة والصغار، بانتظام، بالطعام... قبل أن تبدأ الشريكة بالمساعدة في جلب الطعام... الصغار في البداية أقرب إلى الديدان منها إلى العصافير، وشهيتها مفتوحة أبدا... أما الأبوان فمنهمكان طول الوقت في ترتيب العش وتنظيفه... ومع الأيام بدأ الزغب الأخضر الكحلي في التكاثر لتغطية الأجسام البنفسجية شبه العارية سابقا... أما الفم فمفتوح على عادته، مستعد لابتلاع أي فريسة يحضرها الأبوان... وعندما تريد قضاء حاجتها تخرج مؤخرتها خارج العش...

مع نمو الصغار أصبح العش مكتظا، بحيث ضاق بيت العائلة... وبين الوجبات كان كل صغير يعمل على أخذ مساحة أكبر والوقوف على رجليه ورفرفة جناحيه...

" "

" "

بعد حوالي عشرين يوما على التفقيس... بدأ الصغار في مغادرة العش لمسافات قصيرة، لكنهم بقوا مجتمعين... وشيئا فشيئا بدؤوا في تعلم الطيران... القفز من مكان إلى مكان قريب... تحت مراقبة السيد والسيدة سنونو... استمرت هذه الحال عدة أيام... اندمجتُ خلالها تماما مع عائلتي الجديدة، حيث طالما نقلت خلسة قطعة قش إلى العش، أو يرقة إلى أحد الأفواه الشرهة، عندما يغيب الأبوان... أما علاقتي بالعالم الخارجي فأصبحت شبه مقطوعة، وللضرورة فقط، كقضاء بعض أعمال السخرة لمن يطلبها مني، مقابل دريهمات معدودة، أو زيارة الدكان، أسفل العمارة، للتسوق بالحد الأدنى من الضروريات... أما بقية وقتي فأقضيه معها، مع السيدة سنونو وبقية فراخها، بعد أن لاحظت في إحدى الأمسيات أن السيد سنونو لم يعد... لم يعد أيضا اثنان من الفراخ... ماذا حصل لهم بالخارج؟ سؤال لن أجد له جوابا أبدا... كل ما أذكره تلك الأمسية أن السيد سنونو واثنين من فراخه لم يعودوا، وأن السيدة سنونو باتت تحضن فراخها كالمجنونة... عندها اتخذت أخطر قرار في حياتي: لن تضيع مني السيدة سنونو، ولا بقية الفراخ... هذا عهد قطعته على نفسي... ولو اقتضى الحال أن أضع لي عشا إلى جوارها، وأن أنام إلى جوارها، وأن أطير إلى جوارها... جمعتُ قطعا خشبية من جهات مختلفة بالمدينة، بما فيها مزبلتها العمومية، وتوسلت قطعا أخرى من نجار أعرفه... اقتلعت المسامير من الخشب واحدا واحدا، قبل أن أعيد تركيبها، على طريقتي، من جديد... قلت في نفسي: عندما تكون المطرقة هي الأداة الوحيدة التي تمتلك، فلا غرابة أن ترى الأشياء كلها مسامير... حتى الناس مسامير... هكذا تعامل معي رؤسائي في العمل من دون شك؟

كثر القطع والطرق على سطح العمارة... اشتكاني سكانها إلى المالك... قالوا تصرفاتي غريبة مريبة، وبي مس من الجنون... لأني صنعت لي عشا، على منصة بجوار الكوة، عند أعلى حجرتي، وهذا شيء لا يفعله إلا المجانين... قال المالك علي أن أغادر العمارة عند نهاية الشهر... لكني أجبته بأني لا أستطيع المغادرة... فلمن سأترك عائلتي، لمن سأترك فراخي التي أفقست من بيضها قبل أيام؟ قلت له أن ينتظر على الأقل بضعة أيام أخرى حتى يكتمل نموها... لكنه رفض...

نمت تلك الليلة حزينا، مثل كلمة حب في قصيدة من جليد... من حديد... من صديد... وساوسي وأشجاني احترقت في مبخرة من نحاس... لتطرد الجن من رأسي... لتطرد النعاس... وفي الحلم كانت تمطر زخات خفيفة، وكنت أنا والسيدة سنونو نسير مختبئين تحت مظلتها الملونة... ارتعدَتْ قليلا إلى جانبي، فطلبتُ منها أن تحتمي داخل معطفي ففعلتْ... ارتعدتُ أنا عندما أحسست رأسها يميل على كتفي مثل "عصفورة" صغيرة تنام... في الصباح قالت لي السيدة سنونو: "هذا يوم آخر عليك أن تعيشه"، ثم أردفتْ:" لم لا تحاول أن تنام؟"... أجبتُ: "لكني قمت من النوم توا"...

قالت: لا شيء عاد كما كان... لا الناس عادوا ناسا ولا الجدران جدرانا... لا الحقول... لا المنازل... ولا الأحزان أحزانا... لا اليقظة... لا النوم... حتى الموت لم يعد كما كان...

قالت: سأبوح لك بسر لم أفشه من قبل...

كنت أعرف أنها قالت لي نفس الكلام مرات عديدة... منذ أن حللت مكان السيد سنونو وبدأت النوم إلى جوارها، كنت أعرف أيضا أنها قالت نفس الكلام لكل من تعرفه... أو لا تعرفه من عشاقها الكثيرين... ورغم ذلك تركتها تبوح...

قالت: "لم يعد هناك ما يفعل في هذا الوجود، على الإنسان أن ينتهي، أو يتحول إلى سنونو... " ثم صفقت جناحيها بقوة وطارت... اختفت في عنان السماء...

صعدتُ أعلى الجدار وناديتها... فلم تجب...

صرخت فلم تجب...

سقسقتُ لها فاستدارت...

سقسقتُ أكثر فأحسست الريش ينمو على جسدي...

سقسقتُ بقوة أكبر فتسارعت وتيرة نموه...

كان الجدار عاليا إلى ما لا نهاية... التفت إلى يميني فوجدته ممتدا إلى ما لا نهاية... وإلى ما لا نهاية امتد إلى يساري... اقتربت منه، لامسته، تحسسته، بدأت أتسلقه كالعنكبوت...

خطوة خطوة، ومع كل خطوة كان الريش يزداد نموا على ظهري، بالأسود، عفوا بالكحلي المخضر اللامع، والأبيض الرمادي على صدري، تمتد أجنحتي على كتفي، وذراعي تضمران... تتضاءلان... تختفيان...

حدث ذلك صبيحة أحد أيام سبتمبر، لم أنتبه إلا والعشرات، بل المئات، من طيور السنونو، تجتمع حولي: على الكابلات وأسلاك الكهرباء، وعلى أسطح المنازل طلبا للتدفئة، واستعدادا لموسم هجرة الخريف... ميزتُ فراخي الثلاثة بينها بصعوبة... فكلها تتشابه...

حطت السيدة سنونو بجواري فجأة وقالت: ماذا تنتظر، أنت قائدنا في رحلتنا الجديدة... كثرت السقسقة لتؤلف مقاطع من موسيقى شوبان... وكثر معها الريش على جسدي... والأزهار تناثرت مثل قطع الثلج متراقصة في هفهفة الريح... والناس في الأسفل يهرولون، هربا من زخات المطر الخريفية الخفيفة، بعضهم اختبأ تحت مظلات سوداء... بعضهم الآخر احتمى بالجرائد المطوية... والعشاق احتموا بقصائد الحب اليابانية:

"كانت تمطر يا حبيبتي،

لكني اتخذت من حبك مظلة!"

" "

وأنا، مزهو بالجناحين الذين نبتا على كتفي، مزهو برفيقتي، مزهو بقيادة الفريق... أريد أن أمتد مع الريح كثوب منشور على حبل غسيل... يريد أن ينفلت بامتداد الريح... علمت بأن الشرنقات تبحث عن غصن تتمسك به وتتدلى إلى الأسفل حتى تغير جلدها وتبرز أجنحتها...

أما أنا فقد برزت أجنحتي منذ مدة طويلة... وما علي الآن إلا نشرها والتحليق مع الطيور المهاجرة... نشرت جناحي، وانسبت من الطابق التاسع، مع الريح... مع الطيور المهاجرة... وأنا أحلم بالعودة إلى عشي عند بداية الربيع المقبل...

" "

" "


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى