

المقاومة والفداء
كلّما هممتُ أن أكتب عن الوطن، يأتيني وجه "إياد السعدي" من بين الركام، ويهتف في ذاكرتي صوت "نورس الفايز" وهو يهمس بالدعاء بين أنين الجرحى، لم يكن إياد مجرد رجل إسعاف، ولا كان نورس مصوراً عادياً، كلاهما كانا شاهدين على كرامة الإنسان حين تقف في وجه آلة الحرب.
في الأزقة الضيقة من مدينة اسمها الشهادة، حيث كانت الأنفاس تُستعار من الهواء البعيد، كان إياد يركض حاملاً حقيبته الحمراء، يركض كأنه يسبق القذيفة، لا لينجو، بل ليُنقذ، كان يقول دومًا: "نحن الأوكسجين الأخير لهذا المكان".
ما زلت أذكر يومها حين قُصفت العمارة التي كانت تؤوي خمسين روحًا، ساد الصمت، وظنّ الناس أن لا أحد بقي حيًا، لكن إياد أصرّ أن يدخل، كانت التعليمات العسكرية واضحة: لا تقتربوا، هناك تهديد بإعادة القصف، لكن إياد لم يكن يقرأ التهديدات، بل يقرأ نبضات الحياة.
اقترب من ركامٍ أعمى، وسمع صوتًا مكسورًا يقول: "لا تحاول، اخرج... اتركني"، لكنه ردّ، وابتسامة خافتة ترتجف على وجهه: "سأموت معك إن لم أستطع أن أعيشك من جديد".
لم يكن إياد يعرف الرجل، لم يعرف اسمه، ولا وجهه، لكن قلبه قرأ فيه الوطن، تلك اللحظة كانت نقطة الذروة في رحلةٍ طويلة من الترقي الروحي، حيث تصبح الرحمة مبدأ لا مشاعر، إياد لم يختر البطولة، بل اختار الإنسان.
وفي ركن آخر من المدينة، كان نورس يمسك كاميرته المرتجفة، يبحث عن الحياة ليصورها قبل أن تختفي، كان يتنقل بين الجثث، والبيوت المهدمة، يفتش عن نبض في صورة، وفي لحظة خاطفة، التفت إلى السماء، وهمس: "يا رب، إن متُّ الآن، فتقبّلني شهيدًا... سامحيني يا أمي، اخترت طريقًا لا عودة فيه، فقط لأساعد الناس".
ثم أتى القصف... اختفى الصوت. وانطفأت الصورة، لكن بقيت كلماته تحفر في ضميرنا معنى التضحية. ذلك المقطع القصير من تسجيل نورس كان كافيًا ليعيد صياغة مفاهيم الإحسان، والرحمة، والصدق، فلم يكن يصوّر موته فحسب، بل كان يكتب فصلاً من سفرٍ طويل عنوانه: كيف نُحبّ الوطن؟؟
وأنا أكتب هذه الحكاية، لا أرى إياد ونورس فحسب، بل أرى العشرات، المئات ممن كانوا ولا يزالون ينسجون من أجسادهم خيمة الحياة، أرى الأسير الذي ما زال يضحك رغم الظلمة، وأرى الجريح الذي لم ينكسر، واللاجئ الذي يحمل مفتاح بيته القديم كأنه يحمل القرآن... كل واحد منهم قصة، وكل قصة طلقة في وجه النسيان.
في فلسطين، لم تكن المقاومة بندقية فقط، كانت أيضًا يدًا تمتدّ من تحت الأنقاض، وصرخة تهتف في العتمة، وصورة تخلّد لحظة الانبعاث من الرماد، كادت أن تكون إنسانًا رغم كل ما يسلبك إنسانيتك.
كان إياد يعرف أن الموت يراقبه، لكنه كان يركض نحوه ليخدعه، وكان نورس يعرف أن الصورة الأخيرة ستكون له، فاختار أن يبتسم فيها للسماء.
قال إياد لصديقه في ذات ليلة: "أريد أن أكون رجلاً عاديًا، لكنني لا أستطيع أن أرى الناس يموتون وحدهم"، وردّ عليه نورس: "ونحن نصوّر، نحن لا نوثق الموت فقط، نحن نحاول أن نمنحه حياة أخرى، عبر ذاكرة العالم".
لكن العالم مشغول، مشغولٌ بإحصاء الخسائر، لا الأرواح، ومشغولٌ بخرائط المصالح لا جراح الأرض. حين مات إياد، لم يجدوا جسده كاملًا، لكنهم وجدوا يده تحت يد الرجل الذي أنقذه، وكأن القدر أراد أن يكتمل المشهد، أن يقول إن المخلصين لا يموتون وحدهم.
أما نورس، فصورته الأخيرة كانت أكثر من مجرد إطار، كانت وصية، كانت صرخة ضد التطبيع، ضد التهجير، ضد النسيان. في مدينة الشهداء، كل بيت منفى، وكل قصيدة طلقة، وكل دمعةٍ مرآةٌ لأمل لا ينطفئ، هنا، المقاومة ليست قرارًا سياسيًا، بل نبضًا شعبيًا، هي أن تُحبّ أرضك حدّ أن تموت لأجلها، وأن تعيش فيها رغم أنف الاحتلال.
في كلّ مرّةٍ يُهدم فيها بيت، يُزرع في القلب بيتٌ جديد من الحنين، وفي كل مرةٍ يُقصف فيها حي، تنبت زهرة في ذاكرة طفل لم يولد بعد. المقاومة ليست فقط في السلاح، بل في الحلم، في الأغنية، في الكاميرا، في اليد التي تضمّ طفلًا هرب من القصف، في المعلم الذي يكتب أسماء الشهداء على السبورة، في الأم التي تجهز ابنها للمدرسة وتقول له: "احفظ نشيد الوطن أولًا".
كانت أم إياد تقول عنه وهو صغير: "كان يركض لينقذ العصافير التي تقع من العش"، ولم تكن تدري أنّه سيكبر لينقذ البشر من بين الركام، وكان والد نورس يقول عنه: "كان لا ينام قبل أن يحفظ لقطة الغروب"، ولم يكن يعلم أنه سيغيب مع الغروب ذاته، تاركًا لنا ألف شمسٍ من الذكرى.
في بلادنا، نعيش على الحافة، لكن الحافة ليست للوقوع فقط، هي أيضًا للانطلاق. وهكذا انطلق إياد، وهكذا صعد نورس، ومعهما ترتفع أرواح كل الشهداء، وترتسم معالم وطن لن نراه إلا حين نصبح جديرين بكلّ هذا الدم.
حين تسير في الشارع، تشعر أن الأرصفة تحفظ أسماء الذين مرّوا من هنا وركضوا للنجدة، تشمّ رائحة الخبز المخلوط بعرق الأمهات اللواتي لا يعرفن لليأس بابًا، وكلّما ذهبتُ إلى بيت عزاء، وجدتني أكتب عن الحياة؛ لأنّ الشهداء لا يموتون، بل يتكاثرون في شرايين الكلمات.
أُقسم أنني كلّما سمعت تسجيل نورس، أحسستُ بأن قلبي يتحول إلى نبضٍ أكبر، وكلّما قرأت عن آخر لحظات إياد، شعرتُ بأنني ما زلت لم أبدأ في فهم معنى الرحمة. نحن لا نملك إلا الكلمة، ولكن الكلمة حين تخرج من قلب صادق، تصبح وطنًا، ونحن لا نملك إلا الحكاية، ولكن الحكاية حين تكون عنوانها التضحية، تصبح تاريخًا.
لهذا أكتب الآن، لأقول للعالم: هؤلاء هم أبناؤنا، منقذونا، شهودنا، أبناء الشمس، لأقول: نحن لا نكتب فقط لنبكي، بل لنقاوم، لنُخلّد، لنرفع رؤوسنا في وجه كلّ من ظنّ أن القصف يسكت الصوت. كل بيت منفى، لكن في كل منفى وطن يُبنى من جديد.
وكل شهيدٍ، هو بابٌ للسماء مفتوحٌ على الأرض، فلنحفظ أسماءهم، لنحمل قصصهم، لنرويها لأطفالنا، ولنبنِ بها معجم الحرية، وفي ختام هذا الحرف، أقول: لا تبحثوا عن الوطن في الخرائط، بل ابحثوا عنه في وجه إياد، وصوت نورس، وفي دمعة أمٍّ تضحك رغم كل شيء.
هنا تبدأ الحكاية... ولا تنتهي.
تستند القصة إلى وقائع حقيقية عاشها أبطال الدفاع المدني والإسعاف في قطاع غزة، مع تغيير الأسماء وبعض التفاصيل لتخدم الرؤية السردية، وتحاكي روح المقاومة والتمسك بالأرض والهوية في مواجهة القهر والاحتلال.