السبت ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم نجاة بقاش

المنسي على عتبة الأوطان..

يَسْأَلُنِي الأول: لِما السَّرْدُ؟ لِما العِتَابُ؟.. تَأَمَّلْ جَيِّداً، ترى في مُقْلَتَيَّ مَنَاهِلَ العَذَابِ..

يَسْأَلُنِي: لِما الهِجْرَانُ.. لِما الغِيَابُ؟.. َتأمل جيدا ترى في الألم أغرب انتماء.. مَلامِحِي تَرْوِي مرارة التَّرْحَالِ.. صَنَعْتَ مِنّي رُكْنَ خَيْبَةٍ، أَهْذِي: "أَنَا المَنْسِيُّ على عتبة الأَوْطَانِ".. أنَا الغَرِيبُ الَّذِي اسْتَنْسَرَه الهجران.. وَأَنْتَ الوَطَنُ الَّذِي اسْتَعْذَبَ النِّسْيَانَ.. تَصْرُخُ الرُّوحُ في سَرَادِيبِ الأَعْمَاقِ.. تَبْحَثُ عن صَدَى صوت كان يَوْماً يَعَانِقُ الأنوار.. تَتَسَاقَطُ الأَيَّامُ حولي كَأَوْرَاقِ الأشجار.. لَمْ يَتَبَقَّ مني سِوَى طَيْفِ ذِكْرَىً.. يحكي الخذلان.. كُلُّ رُكْنٍ في مَعْبَدِي يَحْمِلُ وَشْماً.. من الزمن الجميل..َ وكُلُّ نَبْضَةِ قَلْبٍ تَنْعَى أَمَلاً وَلَّى، وهل مِنْ مُجِيبٍ..

يَا كَافِراً بِنَاصِيَةِ وُجُودِي.. هَاجَرْتُكَ قَهْراً.. أَبَى النِّسْيَانُ أن يَخُونَ عهودي.. بَنَيْتُ لَكَ في الفُؤَاد، صرحا شامخا مِنْ الوَفَاءٍ.. ما لي أرى في السرمدي كل هذا العذاب.. دمرت الأَسَاسَ، كَيْفَ لها ألا تفيض دموعي؟.. رَوَيْتُ أَرْضَكَ مِنْ دَمْعِي القَانِي.. عَسَى أَنْ تُزْهِرَ أيامك وأيامي.. فأَنْبَتَتْ أَشْوَاكاً غَرَسْتَهَا في خَاطِرِي.. قَسَمٌ زَرَعْنَاهُ في حَقْلِ الوَارِفِ والأَمَانِي.. رِيَاحُ الغَدْرِ العَاتِيَةِ اجْتَاحَتْهُ قَبْلَ الأَوَانِ.. تَرَكْتَنِي تائهة أُصَارِعُ وَحْشَةَ المَسَارِ.. الْتَهَمَتْنِي الغُرْبَةُ.. أصبحت عِظَامِي تَعْوِي مِنْ أَلَمِ العَذَابِ.. جَعَلْتَنِي أَحْمِلُ مَلَامِحَ تَشْبَهُ كُلَّ شَيْءٍ.. إلَّا أَنَّهَا لَا تُشْبِهُنِي في شَيْءٍ.. هَاجَرْتُ وَطَناً يَتَذَكَّرُ كُلَّ شَيْءٍ.. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُنِي في شَيْءٍ.. أَغَارُ حِينَ أَرَاكَ تَدَاعِبُ غَيْرِي بِنَظْرَةِ العاشق الولهان.. بينما تُلْقِي بذكرى الأصيل في طَيِّ النِّسْيَانِ.. أَموت حِينَ أَرَاكَ ترمي بمقاصدي في سلة الأزبال.. أغضب حينما أتذكر تلك الغارات.. قصفوني تحت الأنظار بالغازات.. قد أهوى.. قد أنسى.. قد تنسى.. التاريخ حافل.. حافظ لا ينسى..

أنا الصدق العاري.. تركت تلك السنون ورائي.. أنت الجفاء الذي.. يحْفَظُ سِيرَةَ مَنْ لَا يَنْتَمُونَ لِأَرْضِي.. أَنَا العَهْدُ.. وَالعَهْدُ أَنَا، وَإِنْ جَفَّتْ يَنَابِيعُ اللِّقَاءِ.. فَقَدْتَنِي في واضحة النهار.. لم أفقدك في ظلمة الدجى والحَيَاةِ.. ينتابني الشوق.. ينتابني الخوف.. يصيبني الولع لا يصيبني السلوان..

أصَابتني الولع والاغتراب.. لَمْ يُصِبْنِي السُّلْوَانُ بِلَمْسَةِ شِفَاءٍ..َ حِينَ يَصِيبُنِي الضَّجَرُ.. وَيصْبِحُ الانْتِمَاءِ صعب المَنَالِ.. تجِدُنِي أَكْفُرُ بِالقُبْحِ وَبِالجَمَالِ.. أكفر برَبِّ الأرض والسماء..

اطْمَئِنْ يَا قَاسِيَ القلب.. فَالعَزِيزُ رَغْمَ الهِجْرَانِ لَا يُلَامُ.. عَلَّمَنِي الاغْتِرَابُ أنه: لَا خَيْرَ في وَطَنٍ يَبِيعُ الوُدَّ في الأَسْوَاقِ.. وَيُلْقِي عَرْضَ الحَائِطِ نُبْلَ الأَنْسَابِ.. يَا وَطَناً بِالأَمْسِ غَنَّتْ مِنْ أَجْلِهِ شَقَائِقُ النُّعْمَانِ.. وَاليَوْمَ أَصْبَحْتَ تَخْتَبِئُ فِيهِ الشَّمْسُ وَرَاءَ سَتَائِرِ الأَوْحَالِ.. هَكَذَا تَكُونُ قَدْ أَلْقَيْتَ بِنَفْسِكَ خَارِجَ الأَزْمَانِ.. هَوَاءُ مُثْقَلٌ بِسَفَاسِفِ الأَحْوَالِ.. نَغَمَاتٌ مِلْؤُهَا آَهَاتٌ وَإِحْبَاطٌ.. وَحْدَهَا الرِّيَاحُ تعودني بانتظام.. تذكرني بالطير الوروار.. هكذا حالي.. حَالُ المُتَيَّمِ بِالأَوْطَانِ.. فَلَا السُّلْوَانُ زَارَنِي وَلَا النِّسْيَانُ أَكْرَمَنِي.. لَا تَسْأَلْنِي إذن لِما السَّرْدُ.. لِما الهذيان؟.. الإِجَابَةُ تَجِدُهَا في مَقْبَرَةِ النسيان.. حَيْثُ الخذلان هناك لا يلام..

يَسْأَلُنِي الثاني: من أنت؟ من أين أتيت؟.. تَأَمَّلْ جَيِّداً.. سوف ترى في الدمع جوابي.. أجر ذيول الخيبة ورائي.. أحمل ملامح وطن لا يشبهني.. تأمل جيدا، ترى في الحرمان انتمائي.. أنا ابنة وطن لا يتذكرني.. منبهر بغيري.. يفرح لغيري.. يحزن لغيري.. ينسى في الزحام ملامحي.. جئت من وطن لم يحفظ سيرة أجدادي.. يلقي في القمامة بأغلى صوري.. قد تصيبني الصبابة حد اليأس.. لكن كرامتي تبقى فوق كل اعتبار.. علمني درس الحياة أنه لا خير في وطن.. يبيع من يهواه في الأسواق.. يقذف عرض الحائط نبع أشعاري.. فيه، تختبئ الشمس خلف ستائر الفساد.. ويثقل الهواء بالأعباء.. أتيت من حيث الكل يتنكر لي.. وحدها الرياح تعرفني.. تتذكرني.. تداعبني في غربتي.. تراقصني.. كي نقاوم معا برودة الإعصار.. أتيت من حيث لا أنوي النظر ورائي.. أتيت من وطن لا يبالي بوجودي.. لم تنله دعواتي.. رغم ذلك، ما زلت أصلي.. من أجل الذكرى أصلي.. من أجلك أنت أصلي.. علي أجد فيك دفئا اسمه "وطني".. علي أجد فيك وجها -على الأقل يشبهني-.. هكذا أجد نفسي محاصرة بين الاثنين.. هذا حال المتيم بالأوكار.. هذا حال المنسي على عتبة الأوطان..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى