النشاط المعجمي بين العربية والإيطالية (ج1)
ضمن السياق الثقافي العربي الإيطالي، يلوح جليا مدى ارتهان تطور الحركة المعجمية بين العربية والإيطالية إلى أوضاع الدراسات بين اللغتين والثقافتين. ففي مستوى الدرس الأكاديمي والبحث العلمي، تبدو انشغالات الجانب العربي دون مستوى نظيره الإيطالي، من حيث الشمول والراهنية والعمق. حيث تتركز جلّ اهتمامات أقسام الدراسات الإيطالية في الجامعات العربية على المدخلين اللغوي والأدبي، اللذين غلبا على ما سواهما، وبُخست جوانب أخرى مهمة. ما أضفى على الدراسات الإيطالية -Italianistica- طابع العزلة وعدم المواكبة. ولم ينفتح الدرس الجامعي على مجالات رحبة، تلبي حاجات معرفية وعملية يتطلبها الواقع الثقافي.
هذا الانحصار الذي ميز أقسام الدراسات الإيطالية في الفضاء الجامعي العربي، قابله انفتاح أقسام الدراسات العربية والإسلامية في إيطاليا، سواء كان في مجال ما يسمّى بالاستعراب -Arabistica-، أو في مجال الإسلاميات -Islamistica-، على قضايا تسائل محيطها الاجتماعي، شملت الهجرة والاندماج، والإسلام في الغرب، والتعددية الثقافية؛ أو ضمن آفاق أرحب، امتدت إلى حقول السياسة والاجتماع والتاريخ والآثار والإسلاميات وغيرها.
فقد ألقت أوضاع الدراسات بين الجانبين بظلالها على الحركة المعجمية بين اللغتين. ولم نشهد بين الدارسين العرب للغة والآداب الإيطالية، ولا لدى نظرائهم في الاستعراب والإسلاميات في إيطاليا نزوعا نحو غور اللغتين، بقصد تطوير قواميس تلبي حاجات تخصصات معرفية، وبقي الأمر مقتصرا على القواميس المفرداتية لا غير. وحتى الشق الكاثوليكي من الكنيسة العربية، الذي يُفترض أن تربطه علاقة وطيدة باللغة الإيطالية، من خلال البعثات والدراسة والأبحاث في الجامعات الحبرية التابعة إلى حاضرة الفاتيكان، لم يخلف ذلك التواصل شغفا لديه لتطوير قواميس عربية إيطالية تمليها الحاجة.
أولا: أولى القواميس بين اللغتين
تبعاً لما توصلت إليه نتائج بحثنا، نرصد في مجال الدراسات العربية في إيطاليا اهتماما، بتصنيف القواميس ذات الصلة بالعربية، بما يفوق نظيره العربي، المنشغل باللغة والآداب الإيطالية. وقد لاح ذلك الاهتمام منذ فترة مبكرة نسبيا. يُعدُّ القاموس الإيطالي العربي "فابريكا مانيا" الأقدم في تاريخ القواميس التي عُنيت باللغتين. وقد جاء إعداد القاموس خلال العام 1636م، جراء حاجة ماسة في هيأة التبشير المسيحي التابعة إلى حاضرة الفاتيكان لأداة لغوية للغرض. فالقاموس لا يضم بين دفتيه متابعة ضافية لمفردات العربية، ولا لمرادفاتها في اللغة الإيطالية، بل هو تجميع مقتضب، على امتداد مائة صفحة، لما هو ضروري، بما يتيح لصاحبه التواصل الديني مع الناطقين بالعربية. بات هذا القاموس اليوم من التراث المعجمي، وهو متاح لعموم الدارسين على الشابكة.
مع ذلك بدت الاهتمامات، من الجانب الإيطالي، بصناعة القواميس ذات الصلة بالعربية دائمة الحضور؛ وكان الحافز في ذلك، في البداية، دينيا بقصد دعم إرساليات التبشير. ما جعل مجمل القواميس الأولى التي عُنيت بالعربية ذات منزع ديني بارز. تلتها تحفزات الاستشراق الإيطالي، وما رافقه من توظيف الاستعمار الساعي لإيجاد موضع قدم في البلاد العربية إلى هذه الأدوات. وضمن هذا السياق يُعدّ "القاموس الإيطالي العربي"، الذي أنجزه أحد رجال الدين الفرنشيسكان، آثر أن يبقى اسمه خفيا، مثالا للقاموس المنجَز لغرض ديني جلي. وقد جاء ظهور القاموس في فترة لا تزال فيها هيمنة واضحة للكنيسة على مجال الدراسات العربية والإسلامية. حيث تطغى نزعة عقائدية على مضامين المفردات ودلالاتها وشروحاتها. رغم أن صاحب القاموس حاول إلحاق مجالات أخرى، وإيجاد أداة في الإيطالية تضاهي ما يوجد في لغات غربية. حوى القاموس متابعة ضافية للعربية، حيث بلغت صفحاته (1375 ص)، لم يحد فيه صاحبه عن الهدف المنشود. يورد الناشر في المقدمة، أنه مرّ زهاء أربعة قرون على صدور "فابريكا مانيا"، القاموس الإيطالي العربي الوحيد الذي أعدّه دومنيكو جرمانو، وهو ما يدعو لإيجاد قاموس جديد يلبي حاجة المستشرق الإيطالي. بات "القاموس الإيطالي العربي" من التراث المعجمي بين اللغتين. وهو اليوم تقريبا خارج الاستعمال بعد طبعته الأولى العائدة إلى العام 1878، وإن لا تزال نسخة منه معروضة لعموم القرّاء في دار الكتب الوطنية في روما. أقدمت مؤسسة ناصر للثقافة والدار العربية الإيطالية "اديتار" على إعادة نشره، بعد قرن بالضبط من طبعته الأولى، زاعمتين أن "هذا القاموس رغم طول الفترة التي انقضت على تأليفه ونشره لا يزال يُعدّ من أفضل الأعمال المتكاملة بين مجموعة القواميس العربية الإيطالية والإيطالية العربية... فليس في هذا القاموس من المفردات والمصطلحات ما استجدّ في اللغتين خلال المائة سنة الماضية من ألفاظ، غير أن هذا لا يعدّ عيبا أو نقصا فاضحا فيه، فاللغة العربية كاللغة الإيطالية كلتاهما ليست حديثة التكوين، بل هما مكتملتا الأصول والفروع حين وضع المؤلف قاموسه هذا، وليس المستجدّ لذلك بالذي يصعب التوصل إليه غالبا، فهو ليس غير فرع اشتق من أصل لغوي سابق سيعثر عليه الباحث وفي سهولة أو يهتدي إليه". هذا الادعاء عار من الصواب، ولنتصور أن قواميسنا الحالية تفتقد إلى الكلمات الناشئة طيلة قرن كيف ستكون حالها، فلم يكلف الناشر نفسه حتى عناء طبعه بحرف طباعة جديد وأنيق.
ومع تطلّع الاستعمار الإيطالي إلى البلاد العربية، أوْلى الاستشراق الإيطالي اهتماما بالدراسات العربية، بما شمل إنتاج القواميس التي اعتمدت في بنائها الفصحى والدارجة. على غرار قاموسي أوغو دي كاستل نوفو ورافائيلي دي توشي. وقد أُلحِق كلا القاموسين بقسم يشرح قواعد العربية بالإيطالية، وهو تقليد لا يزال ساريا من حيث تضمين القاموس بقسم للنحو العربي. وقد ترافق ذلك الاهتمام بالعربية مع ظهور قواميس اعتنت بالدارجة الليبية خاصة، جاءت أحيانا مدرَجة ضمن لغات أخرى على غرار الإريترية والأمهرية، كشأن قاموس آلوري وسرّانو، أو وردت على نحو مستقل واختلفت مضامينها من لهجة إلى أخرى، كما الشأن في مؤلف أنطونيو شيزارو الذي ركّز على "عربية طرابلس".
ثانيا: قواميس الحقبة الراهنة
منذ أن شهدت الدراسات العربية والإسلامية شيئا من التوسع في المؤسسات الجامعية الإيطالية، برزت حاجة ماسة إلى القاموس العربي الإيطالي وإلى الكتب التعليمية للعربية. بعد أن كانت الدراسات، في معظمها، منحصرة في المؤسسات الحبرية، وفي جامعتي "لاسابيينسا" في روما و"الأورينتالي" في نابولي، بين عدد محدود من الطلاب والدارسين. في أعقاب ذلك التطور الحاصل، ولا سيما خلال العشريتين الأخيرتين، حاول بعض من مدرّسي العربية، من الإيطاليين خصوصا ومن بعض العرب أيضا تفادي ذلك النقص. كانت المحاولات في مجملها فردية، عازها التعاون والتنسيق، ما وسم كثير من تلك القواميس بسمات التسرع والطابع التجاري.
القواميس العربية الإيطالية
القاموس العربي الإيطالي (ريناتو ترايني)
يُعدّ قاموس ترايني، الصادر عن "معهد الشرق" في روما سنة 1966، القاموس الأوسع انتشارا والأكثر اعتمادا بين الدارسين والمترجمين في المجال العربي في إيطاليا، منذ صدوره حتى اليوم. يخبر القاموس عن إلمام صاحبه بالصناعة المعجمية؛ وكما يقال كل قاموس هو وليد قواميس سابقة، يأتي قاموس ترايني مشبعا بتجارب من قبله، إضافة إلى تطلعه لتلبية حاجات لغوية ناشئة في عصره. كان غرض المؤلف الإحاطة بمنابت العربية المعاصرة في شتى شُعبها الغائرة في القدم، لذلك جاء القاموس حاويا لكلّ شاردة وواردة، شبيها بموسوعة لغوية (1763 ص). صحيح أن المفردات العربية قد شهدت تطورا، منذ ظهور ذلك القاموس، أي بعد مرور زهاء نصف قرن، علاوة على تسرب بعض النقص والقدامة إلى شروحاته، مع ذلك يبقى الأشمل والأوفر مادة في تلبية حاجة الدارس الإيطالي الساعي إلى الإلمام بالعربية.
وسعياً لجعل القاموس يسيرَ التناول، تم طبعه في السنوات الأخيرة في مجلد واحد، بعد أن كان موزعا على ثلاثة أجزاء؛ لكنّ ذلك لم يُضف على القاموس يسرا، فهو من النوع المكتبي أو المنزلي نظرا لِثقل وزنه. ما لا يجعله رفيقا ملازما للمترجم الإيطالي. وتبقى حاجة ملحة اليوم لتحويله إلى قاموس إلكتروني، يتجاوز مجرد مسحه ضوئيا، فضلا عن ضرورة دمج ما استجدّ من مصطلحات ومفردات، عرفتها العربية المعاصرة، بقصد جعله مواكبا للعصر.
قاموس اللغة العربية (إيروس بلديسيرا)
هو قاموس ثنائي اللغة، عربي إيطالي وإيطالي عربي. سعى فيه مؤلّفُه، أستاذ اللغة العربية في جامعة كافوسكاري في البندقية، إلى تغطية حاجة الطالب الجامعي اللغوية في مجالات مختلفة، أدبية واجتماعية وسياسية واقتصادية. يزعم صاحب القاموس في مقدمة عمله أن العربية تعوزها المصطلحات التقنية، وهي على حد قوله، عادة مصطلحات إنجليزية معرّبة حرفيا؛ برغم المجهودات المبذولة من قبل مجامع اللغة العربية للعثور على مرادفات، والتي عادة ما تأتي بنزوة جامحة، تمتح من تراث العربية الكلاسيكية.
يتوجه قاموس بلديسيرا إلى الطلاب الناطقين بالإيطالية وإلى الساعين إلى الإلمام بالعربية، وكذلك إلى المترجمين من كلتا الجهتين؛ وبالمثل إلى العرب الذين يتطلعون إلى إثراء لغتهم الإيطالية. اعتمد صاحبه في بنائه على المورد الإنجليزي العربي لمنير البعلبكي، وأكسفورد الإنجليزي العربي، كما استعان بالقاموس الإيطالي العربي لليبي خليفة محمد التليسي والكلمة لعصام لبنية. ومن العربية كان الاعتماد على القاموس العربي الإيطالي لريناتو ترايني، الذي سبق الحديث عنه، وعلى قاموس هانس ويهر -Hans Wehr, A Dictionary of Modern Written Arabic, 1976- هذا فضلا عن قواميس أخرى.
اعتمد بلديسيرا في انتقاء مادة قاموسه على معيار ورود الكلمة في الاستعمال الحديث، مع تضمين مجموعة من المفردات العتيقة، وإن قلّت استعمالاتها. هذا فضلا عن إيراد مصطلحات متعلقة بالدين الإسلامي، قدّر صاحب القاموس حاجة الدارس الإيطالي إليها. وتبعا لذلك وزّع بلديسيرا قاموسه على ثلاثة أقسام رئيسة: قسم إيطالي عربي، وقسم مختصر شمل قواعد العربية الأساسية للمبتدئين، بلغت زهاء خمسين صفحة، وقسم عربي إيطالي. القاموس ناشئ عن حاجة تعليمية لدى دارس اللغة العربية في إيطاليا، عايشها صاحب القاموس بموجب تدريسه مادتي اللغة والآداب العربية في الجامعة الإيطالية. فقاموسه بأقسامه الثلاثة يأتي استجابة إلى حاجة تعليمية ملموسة، وهو ما جعله من بين القواميس الأكثر رواجا في سوق القواميس الإيطالية العربية في إيطاليا. ولكن عادة ما يتجاوز الطلاب، الذين تخطوا مرحلة التكوين في العربية، إلى مستوى الترجمة الحِرفية والمهنية والإبداعية، هذا القاموس إلى قاموس ترايني الذي أشرنا إليه. ولا يشفع لهذا القاموس، على دقته في نقل المصطلح العربي إلى الإيطالية، ما تخللته من هنات في نقل ما ليس له نظير في الإيطالية، نضرب مثلا على ذلك، ترجم بلديسيرا كلمة "حنفي" بـ-pagano– و - idolatra –؛ و"حنفية" بـ-paganesimo- و -hanafismo-، ليأتي المدلول في الجانب الإيطالي بمعنى "وثني و"وثنية"، وهو خلط ناشئ عن عدم التنبه لمدلولي "حنفي" أي موال للمذهب الحنفي، و"حنيف" بمعنى مائل عن الباطل إلى الحق.
والبناء العام الذي اعتمده بلديسيرا في القاموس الرئيس المشار إليه، تابعه أيضا في القاموسين اللاحقين، أكان في العربي الوجيز أو في العربي الصغير. حيث ضمّ العربي الوجيز، وهو القاموس الأوسط في مجموعته، 704 صفحة، حوت 11000 مفردة إيطالية و 15000 مفردة عربية، هذا فضلا عن توضيحات نحوية و 245 جملة عربية، مترجمة إلى الإيطالية. أما العربي الصغير وهو قاموس جيب صغير الحجم، فقد ضم 720 صفحة، حوت 25000 مفردة وعبارة.
القاموس الإيطالي العربي الحديث (إلبيديو جانوتا)
تتمازج في بنية قاموس جانوتا، الصادر سنة 1964، الكلمات الإيطالية المترجَمة إلى العربية بالجمل القصيرة والمطوّلة. وقد انتقى صاحب القاموس مادته من مؤلفات كتّاب عرب، على غرار محمود تيمور، وطه حسين، والعقاد، والمازني، ومدكور، فضلا عن مقتطفات من مقالات واردة في الصحف والمجلات، كالأهرام، والمقطّم، والهلال، والمقتطف، ومجلة مجمع اللغة العربية. سعى القاموس، في قسم واسع منه، ليكون أنطولوجيا صغيرة لجمل مترجَمة مرفوقة بمفردات، ولهذا يشبه الكتاب في مبناه. وهو من زاوية عملية يحاول تلبية حاجة من تخطّوا المراحل الأولى في التعاطي مع العربية. ولم يأت القاموس متّبعا تقاليد المستعرِبين الإيطاليين في تأليف القواميس، بقصد مدّ يد العون للمترجم والدارس، وإنما سعى صاحبه إلى مدّ الدبلوماسي الإيطالي بأداة تمكنه من مقاربة الخطاب العربي المكتوب والمنطوق. صدر القاموس عن وزارة الشؤون الخارجية ولموظفيها لأول وهلة، قبل أن يجري تعميم ترويجه. مضى على تأليفه نصف قرن، مع ذلك يبقى القاموس قيد الاستعمال جراء الخاصية المميزة له، وجراء سلاسة العبارة العربية المنتقاة وحسن اختيار المرادف الإيطالي لها. تبلغ صفحات القاموس بجزئيه 960 صفحة من الحجم الكبير.
وعلى نحو تقييمي، تبقى القواميس الثلاثة المذكورة، لترايني وبلديسيرا وجانوتا، الأوفر حضورا بين مستعملي القواميس العربية الإيطالية في إيطاليا. وإن شهد قاموس الأخير نوعا من التراجع، جراء عدم تعهده بطبعات جديدة ومنقحة، على خلاف سابقيه.