النشاط المعجمي بين العربية والإيطالية (ج3)
رابعا: أوضاع الترجمة بين اللغتين
على مدى تاريخ التواصل الثقافي بين العرب والإيطاليين، لم تتجاوز أعمال الترجمة بين العربية والإيطالية 660 عملا. وتكاد أعداد الأعمال المنجزة تتوزع بالتساوي بين اللسانين، 336 عملا من الجانب العربي و324 عملا من الجانب الإيطالي. ويمكن الرجوع بأولى أعمال الترجمة إلى العربية إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، في مصر وتونس، مع تلمس البلدين سبل اللحاق بركب التمدن. حيث نسجل ظهور أول قاموس إيطالي عربي في مصر خلال العام 1822، من إعداد القس السوري أنطون زخور رافائيل (1759-1831). وقد تم طبع القاموس في بولاق بتشجيع من محمد علي، تلته ترجمة من قبل أنطون زخور أيضا لكتاب "الأمير" لماكيافيلّي، صدرت تحت عنوان "الأمير في علم التاريخ والسياسة والتدبير".
وخلال الفترة نفسها شهدت الترجمة من الإيطالية في تونس شيئا من الاهتمام ضمن غرض محدد. حصل ذلك مع تأسيس مدرسة باردو الحربية (1840)، ثم في مرحلة لاحقة مع إنشاء المدرسة الصادقية (1875). حيث كان الحرص بالأساس على تعريب المصنّفات العسكرية والعلمية. بقيت منجزات المدرستين (في حدود أربعين عملا) مخطوطة في المكتبة الوطنية في تونس. ومن الطريف أن عمل الترجمة، في مدرسة باردو الحربية، كان يتولاه ثلاثة أطراف. يجري نقل المصنف بإشراف المدرس الإيطالي حينها، رفقة الضباط أو الطلاب التونسيين، ليتكفّل بالنص في مرحلة أخيرة شيخ زيتوني يقوّم عجمة اللسان وركاكة العبارة.
ولئن كانت الترجمة من الإيطالية في مستهلّها مهووسة باللّحاق بركب الحضارة، فقد بقيت العملية بطيئة ومتقطّعة على مدى عقود. ولم يشهد الأمر تحولا يذكر سوى في تاريخ قريب. فمثلا طيلة الفترة المتراوحة بين 1922 و 1972، أي على امتداد نصف قرن، لم ينجز العرب من أعمال الترجمة من الإيطالية سوى خمسين عملا، أي بمعدل نصّ مترجم سنويا. كانت الأعمال في مجملها أدبية، وتوزّعت بين الرواية والقصة والمسرحية. أما مع ثمانينيات القرن الماضي، فقد دبّ شيء من التحول، حيث تُرجم قرابة الأربعين عملا، أي بمعدل أربعة أعمال سنويا. وخلال العشرية الفارطة بين العام 2000 و 2010 تُرجم زهاء المئة وخمسين عملا.
وضمن تصنيف عام للأعمال المترجمة إلى العربية، فقد توزّعت الأعمال بين 246 عملا أدبيا، و 48 عملا مسرحيا، و 42 عملا في مجالات متنوّعة شملت العلوم الإنسانية والاجتماعية. وهي حصيلة متدنّية، لاسيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الجوار الجغرافي، والماضي الاستعماري، والثقل الحضاري، لبلد مثل إيطاليا عُدّ بوابة النهضة الأوروبية. علاوة أن تلك الأعمال لم يتكفّل بإنجازها الطرف العربي بمفرده بل ساهم في إنجازها الطرف الإيطالي أيضا، عبر مؤسّسة دانتي أليغياري المعنية بترويج الثقافة الإيطالية في الخارج، وعبر وحدة التعاون الثقافي في وزارة الخارجية الإيطالية، التي بعثت خلال العام 2000.
في سياق هذا التحول النسبي، لقيت ثلة محدودة من الكتاب الإيطاليين ترحيبا لدى المترجم العربي والقارئ العربي، في حين توارى شقّ واسع من الكتّاب يعدّون من خيرة المبدعين في الفكر الإيطالي. في ظل هذا الاهتمام المحدود، نال الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو نصيب الأسد من الترجمة، حيث شهدت أعماله 24 طبعة. تخطى بذلك ألبرتو مورافيا الذي لقي ترحيبا واسعا بين جمهور القراء، حيث بلغت طبعات رواياته 22 طبعة. وحاز المرتبة الثالثة لويجي بيرانديلو حيث بلغت أعداد نصوصه المترجمة 21 نصا. وبلغت أعمال أومبرتو إيكو المترجمة 10، وأنطونيو تابوكي8.
كما تشهد في الفترة الحالية أعمال إيكو رواجا، منذ ترجمة أعماله "اسم الوردة" و"بادولينو" و"كيف تعدّ رسالة دكتوراه". مع ذلك، ما فتئ التعويل، بين دور النشر العربية، على لغة وسيطة في الترجمة من الإيطالية. فكتاب جوفاني بوكاتشو الشهير "الديكاميرون"، نقل من الإسبانية، وكتاب أومبرتو إيكو "كيف تعدّ رسالة دكتوراه" نقل من الإسبانية، وكذلك بعض كتابات إيتالو كالفينو المنشورة في دار أزمنة الأردنية، مثل "آلة الأدب" الذي ترجمه حسام بدار من الإنجليزية، و"ماركوفالدو" الذي ترجمته منية سمارة من الإنجليزية. لعل آخر ما ترجم من الإيطالية عبر لغة وسيطة كتاب "لانهائية القوائم" لأومبرتو إيكو الصادر عن مشروع كلمة في أبو ظبي سنة 2013.
بقيت حركة الترجمة من الإيطالية بطيئة طيلة عقود، ومع إنشاء أولى أقسام تدريس اللغة والآداب الإيطالية، في عين شمس وحلوان في مصر، وفي جامعة منوبة في تونس، وفي دمشق في سوريا، تزايدت أعداد الدارسين للإيطالية. فمثلا بلغ العدد في تونس خلال العام الدراسي (2008-2009) 400 طالب بالصف الجامعي الأول. ولكن في هذا التحول كان للجامعة المصرية الدور الأبرز في دفع عملية الترجمة وفي تكوين جملة من المترجمين المقتدرين.
وعبر مسار نقل الأعمال من الإيطالية إلى العربية يمكن الحديث عن أعلام بارزين في المجال مثل: المصري حسن عثمان (1909-1973)، والأردني عيسى الناعوري (1918-1985)، والليبي خليفة التليسي (1930-2010). تَلَتْهم في وقت لاحق كوكبة من المترجمين مثل: سلامة سليمان، ومحب سعد إبراهيم، وسوزان إسكندر، وعامر الألفي من مصر؛ ثم ردفتهم مجموعة متماثلة في التكوين من مدرِّسي اللغة الإيطالية والأدب الإيطالي في الجامعات العربية، شغلتهم الترجمة، منهم الأساتذة عماد البغدادي، وسمير مرقص، وحسين محمود، وأماني حبشي، ووفاء عبدالرؤوف البيه من مصر، ومحمد المختاري من المغرب، وأحمد الصمعي من تونس. ولكن مع موجة الهجرة إلى إيطاليا، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، برز ثلّة من التراجمة يقيمون في إيطاليا، مثل الفلسطيني وسيم دهمش والعراقي عدنان علي والتونسي عزالدين عناية والمصري ناصر إسماعيل وآخرين.
هذا بشكل عام عن أوضاع الترجمة إلى العربية، أما الترجمة إلى الإيطالية فهي لا تختلف كثيرا من حيث انشغالاتها ومن حيث كثافة أنشطتها عن الترجمة إلى العربية. إذ تبرز الإحصائيات في الشأن أنه منذ مطلع القرن الفائت إلى حدود العام 1965، أُنجزت في إيطاليا خمس ترجمات يتيمة. حيث ترجم فرانشيسكو غابرييلي: "قصاصون من مصر" وكذلك "ظلمات وأشعة" لمي زيادة، وترجم أومبارتو ريتزيتانو "زينب" لمحمد حسنين هيكل و"الأيام" لطه حسين، وترجم أندريا زنزوتّو كتاب "سأهبك غزالة" للكاتب الجزائري مالك حداد. ثم بعيد ذلك التاريخ، حاول ريتزيتانو بعث سلسلة قصصية، بالتعاون مع "معهد الشرق" في روما وجامعة باليرمو، نشرت ضمنها ثلاث مجموعات من سوريا وتونس ومصر. ثم سرعان ما توقفت السلسلة، وكأن الوقت لم ينضج بعد للنشر العربي. ولكن علاوة على عدم تهيؤ القارئ الإيطالي، فقد كان نصيب وافر من الترجمات حرفيا وركيكا، وهو ما بقي ساريا حتى الراهن جراء التعويل في الترجمة على طلاب مبتدئين وليس على مترجمين محترفين أو مبدعين. فهناك مسؤولية علمية وأخلاقية للمترجم، وبتدمير وانتهاك دلالة النص في اللغة الأصلية، يتهاوى النص المترجم من عليائه ويفقد بهاءه، وهكذا لن تعود الترجمة سبيلا للتواصل بل مدعاة للتنفير.
يورد مؤلّف "الحضور العربي الإسلامي في المطبوعات الإيطالية" الصادر عن وزارة الثروة والأنشطة الثقافية في إيطاليا (2000)، أنه لم يُترجَم من المؤلفات العربية بين 1900 و 1988 سوى 29 عملا، وقد حصل التحول الحقيقي بين 1989 و 1999 بترجمة 112 عملا أدبيا، كما تُرجم 93 عملا أدبيا فرنكفونيا خلال الفترة نفسها. في حين بلغت الأعمال المسرحية التي تُرجمت إبان الفترة الممتدة بين 1900 و 1999 19 عملا مسرحيا، وحاز الشعر خلال الفترة نفسها 20 عملا. والواقع أن الجوائز العالمية، نوبل لمحفوظ (1988)، وغنكور لكل من بن جلون (1987) ومعلوف (1993)، قد حركت المياه الراكدة وساهمت مساهمة فعالة في لفت الانتباه نحو الأدب العربي، حيث بلغت أعداد النصوص العربية المترجمة إلى الإيطالية حتى موفى السنة المنصرمة 324 عملا. وبشكل أقل ساهمت القلاقل السياسية في تحفيز عمل الترجمة. فعشية اندلاع الثورة الجزائرية تُرجم نصّ يتيم "سأهبك غزالة" لمالك حداد، ثم عقب الثورة خبا ذلك البريق، ليُستأنف الاهتمام ثانية مع فترة النضال الفلسطيني المسلح بترجمة بعض الأعمال مثل "رجال في الشمس" (1985)، و"فلسطين: ثلاث قصص" (1985)، و"عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني؛ و"المتشائل" (1990) لإميل حبيبي. وفي سياق غلبة الترجمة الأدبية على ما سواها، يبقى الأديب المغربي الطاهر بن جلون الممثل الرئيس للأدب العربي في المخيال الإيطالي، فهو الأكثر ترجمة والأبرز حضورا في الإعلام.
قد يتساءل المرء عن أسباب إقلال العرب في الترجمة من الإيطالية؟ الحقيقة أن الإقلال حاصل مع كافة اللغات، ولكن من الإيطالية يأتي بشكل أبرز. وهناك أسباب عدة لعل أبرزها:
– الترجمة من الإيطالية وإلى الإيطالية تبقى أقلهن عناية، وكأن الجوار اللغوي لا معنى له. ففي دراسة منشورة لبسام بركه، يوضح أن الاعتمادات التي توجه نحو الترجمة من الإيطالية إلى العربية هي الأضعف.
– أنه يسود بين العرب عامة نقصٌ في الإلمام بما في إيطاليا وبما في حاضرة الفاتيكان من أنشطة فكرية وسياسية ودينية، وهو في حدّ ذاته حائل موضوعي يعيق الترجمة. وليس الأمر عائدا إلى قلّة المترجمين، كما يروّج أصحاب دور النشر، ممن دأبوا على اعتماد لغة وسيطة في نقل المنتوج الإيطالي.
– علاقة العربية بالإيطالية طيلة القرن الماضي وحتى الراهن هي علاقة أدبية. فجل مدرسي الآداب واللغة الإيطالية في الجامعة المصرية وفي الجامعة التونسية لهم تكوين أدبي. ومن يُعرفون بـ "Italianista"، أي المختصين في الحضارة واللغة الإيطالية، لم يشهدوا تنوعا في التكوين. وربما كان هذا الانحصار في الجانب الأدبي أحد الأسباب التي حجبت المخزون الثقافي الإيطالي.
– أن انتشار أقسام تدريس اللغة والآداب الإيطالية في بعض بلدان المغرب والمشرق، مثل قسم الإيطالية في جامعة منّوبة في تونس، أو قسم اللغة الإيطالية في جامعة محمد الخامس في الرباط، أو في جامعة بغداد، أو في جامعة صنعاء التي شهدت انطلاق تدريس الإيطالية خلال العام 2003، لم تضمن توفير المترجم الجيد والحرفي بعد. وهو أمر عائد بالأساس إلى ما شهدته الجامعات العربية خلال العقود السالفة من اهتزاز قوي أثر على خرّيجيها وعلى تحصيلهم العلمي.
– لكن في خضم هذا النقص العام في الترجمة من الإيطالية، فإننا لا نلغي أيضا ما لأدوات الترجمة، والتي منها القاموس، من تأثير سلبا وإيجابا على تحسين جودة الترجمة والرقي بها، أو كذلك في زيادة تعثرها، ولذا لزم إيلاء هذا المجال بعض الاهتمام بين اللغتين على أمل توفير أداة قاموسية ورقية وإلكترونية في مستوى تحديات الراهن.