الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم زهرة بوسكين

بطولات من الصلب والترائب

الاسم... أحمد مع وقف المناداة به

هنا تسقط مملكة الأسماء والألقاب لتصبح الكنية مجرد أرقام فارغة دلالاتها وجوفاء معانيها..
رقم قيد أبله يرافق يومياتي...516

عشرون سنة من الأسر مرت وأنا أتوق لأعوام قادمة أسترجع فيها اسمي وأرضي وباقات الياسمين وعطر التراب وماتيسر من أحلام ليست مستحيلة..

هنا أفقدوني اسمي الجميل الذي كان يرن في المسامع ويقال أن جدي هو من اختاره لي بكل تبرك..أكاد أنساه لقلة استعماله إلا في زيارات متقطعة كانت لأمي رحمها الله أو لزوجتي الباقية على العهد تحاول أن ترمم مابقي من العمر والرؤيا.

للأسماء ترانيمها المشتهاة ولكن الأرقام المرصفة التي حفظتها لتصبح جزء من كنيتي أنا ورفاقي لها يوميات أسر وبطولات ومعاناة ترويها، لصيقة بهذه القضبان وبهذه الجدران وبالزنزانة الباردة وبصوت الحراس وبصوت الرفاق وبصوت السوط الذي ينهال على ظهري باسم العصيان، سنوات من العمر تمر وتتدرحرج على هاوية زمن يمضي وأنا الذي ماعاد الأسر ولا السوط ولا الماء والكهرباء تضعف من عزيمتي، وما استطاع التعذيب أن يقتل شعوري الفطري بعطر التراب حين أتوق إلى الحرية وأحلم بوطن أطال فيه النجوم وإن علت وألمس فيه القمر وإن غاب...

كبرت في زنازن عديدة شهدت نضالي وعانقت أفكاري وآزرتني في أحاديثي عن القضية.. منذ أن قبضوا علي بجبل المكبر في القدس، بعد تنفيذ عملية شارع 60، حين أطلقت الرصاص ورفاقي من كتائب شهداء الأقصى على مستوطنين وعلى دبابات اسرائيلية وفجرنا فيهم عبوات ناسفة.. الآن ليس بحوزتي السلاح لكن كلماتي أقوى رصاص أشهره في وجه الأسر والسجان والجدران والأعداء..

الزنزانة أعرف جدرانها وتعرفني تشهد على أحلامي وكتاباتي التي دونتها عليها مرة بحجر ومرة بقطعة فحم ومرات بدمي..أرسم من خلالها عطر الحرية وأتنفسه كي لاأختنق في ظلمة المكان

أنا الذي نشأت على دوي الرصاص وأصوات الطائرات المحلقة في الجو، كبرت بأعماقي نزعة تقاوم من أجل الحياة، كلما تحمل يداي حجرا ترمي به صهيونيا يدوس على تراب بلدي ومستوطنا يسرق من قدسه شغف المآذن..

جدران الزنزانة تخجل من آهاتي وتشهد وتئن عندما كان يدخل في جوف الليل الحارس الصهيوني ويجلس إلى جانبي وأنا نائم يحاول ان يتلمسني فأستيقظ مرتجفا أقاومه يلتفت إلى أيمن رفيقي في الزنزانة نهرول عكس وجهته.. نصرخ فيه نقاوم سلاحه ويستيقظ الرفاق وتعلو أصواتهم :"خنزير خنزير..."

يخرج ويلقي بي وأيمن في غرفة الويل والتعذيب متوعدا انه سيضع الأسلاك الكهربائية في خصينا وبأصبع واحد من أصابعه الخشنة سيضغط على الزر ليفقدنا ذكورتنا إلى الأبد ..

يخيم على تفكيري كابوس رهيب حين أدرك أن رجولتي مرتبطة بأصبع من أصابعه الخشنة وأن نسلي مهدد في أرضي .. ويضيق بي أفق الأمل بعد ثلاث مؤبدات تحاصرني وترسم نهايات مفتوحة..

يقول أيمن رفيقي الأسمر المرح: نحن أبناء هذه الأرض علينا أن نكون الكثرة والنسل الأبقى وإن طال الزمن بنا في أسر لايرحم

السر ياصديقي مقاومة بلا نهاية .. والمقاومة طيران بأجنحة مكسورة تغذيها أرواحنا الثائرة ولهيب ثورتها ينير أفقا سيطل علينا وقد نبلغه ذات تحليق ولو بأجنحتنا المكسورة وريشنا المنتوف

قلوبنا الصلبة لاتستسلم للوجع وإن تجذر..

في الظلام الحالك يطل وجه أمي التي عاشت تقاوم بالسلاح وبالنضال في كل مكان..إلى أن استشهدت برصاصة قناص..
أيمن رفيق الزنزانة يافع العمر والأحلام يعانق أمه في كل ليلة ليطمئن قلبه ويسكن الألم.. كلما لمحت السكينة في ملامحه أدرك أنه في حضن أمه.. وكثيرا مايفتح دفاتر قلبه ويهذي بما جاد به الكلام..هو الذي يردد دوما: "أنا بطل خرجت من بين الصلب والترائب".. ويسترسل في كلامه:

"حدثتني أمي حينها كيف هرَب والدي الأسير نطافه في قارورة بلاستيكية صغيرة

كان صديقه يملك قارورة زجاجية لونها بني فاتح، لكنه لم يستعملها خشية أن تنكسر ويسكب منها ماء الحياة، القارورة البلاستيكية الشفافة هربها أسعد وهو خارج من أسره وأخذها في ليلة حالكة إلى بيتنا.. سلمها لأمي: (الأمانة)..

وهي بدورها أخذتها وتوجهت عند نظمية القابلة التي تقوم بمهة تلقيح النساء بأنبوب حقنة تملؤه بماء الحياة وترفقه بآيات وأدعية ليكون القادم بطلا.."

حديث أيمن قطرة باردة وصلبة سقطت على قلبي.. وخزتني.. ايقظت فكرتي التي أبلورها وأنا الخائف المرتجف من أن ينقطع نسلي من أرضي وهو يكاد.. فإبني البكر استشهد طفلا في السنوات الأولى من أسري وابنتي الوحيدة التي بقيت تقاوم الزمن والعدو لأجل الأرض والبقاء وتزوجت من أسير لتمنحه أمل البقاء.. مازالت لم تلتق به إلا في أحلامها الوردية.. لكنها تصر على أن ترسم مابقي من العمر لهما.

سأقوم بنفس التهريب الذي أحفظ أبجدياته من رفاقي سيكون لي نسل حتى وان لم أحضن طفولتهم، حتى وان استعصت رؤيتهم حتى وإن لم ألمس أجسادهم الصغيرة التي ستكبر وتقاوم الفناء وتكون هي البقاء هي الأمل الذي يقتل السجان الرابض خلف القضبان الحديدية التي أكل صدؤها شبابي على مدار سنوات تتدحرج على كاهلي كصخرة سيزيف مخبأة في جيبة الوقت.

أربي الانتظار لزوجتي لأتفق معها على سر البقاء وحده الأمل يكبر ويزهر بين صقيع الجدران أمل في أن أراني في ابني القادم ذات غد قريب ولو من رحم المعاناة.. قد ترسم لي الأقدار لحظة لرؤيته وعناقه كما لم يعانقني أبي أبدا، لايهم كثيرا بقدر مايهمني أن يأتي إلى هذا العالم، أن يصل ماء الحياة ومعه شغفي وعطر التراب وصورة بلدي وشوق الحياة لأجل غد تشرق فيه الشمس من كل الجهات..

انا على يقين أنه سيكون البطل وسيحرص على أحلامه وارضه كما حرصت هذه الللية على استخراج ما تيسر من عبق الحياة لأهبه لقلب سينبض بي وبوطنه.. وضعته في الزجاجة الصغيرة التي أفرغتها من الدواء وغسلتها جيدا ورويت له الكثير من القصائد والحكايا أخبئها في ذاكرة ماء الحياة لتتجلى ذات غد بطلا لاتوقفه الجبال ولا الزنازن.

رفيقنا المقاوم الشيخ في زنزانة مجاورة روى لنا أن أولاده الأربعة هربهم من وراء القضبان لكنه نبهنا إلى أن السجان الصهيوني اذا وجد زجاجة لماء الحياة سيكسرها أو يسرقها.. لقد حاولوا مرة تلقيح نسائهم ليضمنوا بطولات نسلهم لكن النسل الرافض انقلب عليهم وصارت المظاهرات ضدهم وضد قوانينهم ولوائحهم لاتنتهي..

يضحك الشيخ الذي هرم في الأسر أو يكاد، ويقول أنه مجرد تخمين عابر.. لأنه شاهدٌ على حقب كثيرة لصراع الوجود واللاوجود.

"ستصل الأمانة لزوجتك بكل حرص" يقول الأسير محمود الذي أطلقوا سراحه هذا الصباح ليخرج ومعه ماء الحياة الذي يرسم حياة أخرى تخرج من بين الصلب والترائب أعيش بها ماسيأتي من أعوام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى