الخميس ٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٣

تحولات السرد والسارد في«قصة عشق كنعانية»

عبد المجيد صديقي

يقوم الخطاب السردي في رواية "قصة عشق كنعانية" لصبحي فحماوي، شأنه في ذلك شأن كافة النصوص السردية، على ركيزتين أساسيتين، هما: السرد، الذي يعنى بخطاب الأفعال أو الأحداث، والعرض الذي يعنى بخطاب الأقوال. ولأنه كذلك، فهو"" يعني في معظم الدراسات التي عنيت به: "الكيفية التي تروى بها"، أو "طرق تشكيل الحكاية وأساليب عرضها." لهذا، نلاحظ أن "قصة عشق كنعانية" اهتمت ببنائها السردي لملامسة ما هو أسطوري في ثناياها، غير أن ذلك، يفترض، في سياقنا هذا، تجاوز محكي المتن الحكائي، إلى الكيفية التي صاغ بها السارد مادته الحكائية الخام.

وهكذا، يبدو تقديم المحكي السردي من خلال نزوع السارد إلى"تفتيت" التشكيل السردي، وتمزيق منطق الحبكة المحكمة، القائمة على التتابع والترابط بكل مستوياته"(بين الأحداث في ما بينها، أو بين الأحداث والشخصيات أو بين الشخصيات في ما بينها، أو بين الشخصيات والزمان والمكان) من خلال محور محدد أو محاور متعددة. "ومن ثم، فالرواية لا تتخذ من تقديم محكيها على نحو مترابط ومتتابع، بل من خلال تقنية التفتيت بصفته"" زحزحة التطابق بين النظام التتابعي للأحداث الموصوفة وبين نظام تواليها في الرواية "معمارا لها" وبعبارة أخرى، فنحن أمام رواية تقدم محكيها من خلال تقسيم هذا الأخير إلى أجزاء توزعت على خمسة وعشرين فصلا معنونا.

وينهض بالسرد في هذه الرواية بثلاثة رواة/ سراد، سارد أول يقوم ب"حكاية الحكاية"، أي حكاية قصة العشق الكنعاني، أو تحريرها وتدوينها، ويتمثل في عتبة التصدير التي لا يمكن إغفالها في قراءة النص، والتي وردت عبارة عن أقوال ومواقف مأخوذة من مؤلفات تاريخية (اختلاق إسرائيل القديمة، إسكات التاريخ الفلسطيني)، ودينية(القران الكريم)، وأدبية (الشعر والرواية)، تدور حول عمق جذور التاريخ الفلسطيني وأهمية إنتاجه روايته الخاصة التي تستعيد أصوات السكان الأصليين لأرض فلسطين والتي يتم إسكاتها في خضم اختلاق إسرائيل القديمة، كما يتجلى في الإهداء الذي يقدمه إلى ولده عمر بصفته مكتشف كهف عناة. وسارد ثان يمثله عمر، الباحث في علوم التاريخ والأحفورات والذي يجسد عشقه للمغاور والكهوف، التي ترمز إلى الرحم التي سكنها الأقدمون في الولوج إليها والتنقيب في متاهاتها، فكان له أن اكتشف كهف عناة، وهو يتكفل بسرد الفصل الأول المعنون بـ"مخطوطة كنعانية مذهلة" أورد بعده تاريخ 09/1/2009، قصد الإيهام بواقعية ما يسرد، كما تكفل بسرد الفصل الأخير الذي عنونه بـ"تعقيب"، فضلا عن التعليقات والتعقيبات التي وردت في حواشي بعض الصفحات بتوقيع عمر. وسارد ثالث يمثله صوت السارد الذي يسرد المخطوطة، فعمر مكتشف المغارة مجرد قارئ وناقل للمخطوطة التي حصل عليها مدفونة تحت الصخر في كهف عناة والتي تحكي عن" قصة عشق كنعانية". وهكذا إن حركة السرد انتقلت، حسب ما يبدو، من الواقعي (الفصل الأول) نحو الافتراضي( الفصول الموالية) رجوعا إلى الواقعي (الفصل الأخير).

اللغة السردية:

يجترح خطاب رواية" قصة عشق كنعانية" نسقه اللغوي السردي من خلال استثماره التجريب وسيلة لغوية جمالية تغاير الأنساق اللغوية السردية المألوفة. فلغة السرد، هنا، لا تكتفي بإنجاز وظيفتها التواصلية أو الإبلاغية، بل وتجنح، كذلك، إلى ما هو بلاغي مجازي، يعنى بالكلمات مثل عنايته بدلالاتها. وعلى صعيد الرقانة فقد عمد السارد إلى رقن أسماء الآلهة والشخصيات بخط مضغوط. ولذلك سبب رئيس، وهو أن النص الأسطوري المصوغ في قالب شعري يحضر مقوما مهيمنا على متن رواية" قصة عشق كنعانية"، بلغته الأسطورية القائمة على الرموز والإيحاءات والمعاني الشعرية والسردية، معا، المتولدة منها. إن الأسطورة، حسب" كلود ليفي ستراوس،"هي" وقائع يزعم أنها حدثت منذ زمن بعيد، لكن النمط الذي تصفه يكون بلا زمن، فهو يفسر الحاضر والماضي والمستقبل.(ويضيف بأن) جوهر الأسطورة لا يكمن في أسلوبها أو موسيقاها أو في بنيتها ولكن في القصة التي تحكيها، فالأسطورة لغة يتم تنشيطها عند مستوى مرتفع بشكل خاص وتتابع فيه المعاني بشكل يجعل الخلفية اللغوية لها في حالة حركة دائما."

كما نتابع السارد وهو يشير في تعقيب موقع باسمه على هامش الصفحة السادسة عشرة، في إحالة إلى مزجه بين الواقعية الوثائقية والواقعية الأسطورية، إلى أنه بعدما" تمعنت (دائرة الآثار الكنعانية الفينيقية الفلسطينية) في المخطوطات، وتأكدت من صحة الوثائق التي اكتشفتها، قامت بطباعتها في كتاب، تاركة بعض سطور وخرابيش كتبتها على هامش المخطوطات، ولكنها عدلت بعض الكلمات، فصارت مثلا كلمة (إل علي) تكتب (العلي) و(ال قدير) تكتب (القدير)، مع العلم أن إل هو إله الكنعانيين الأوحد آنذاك، والذي اتضح فيما بعد، ليصبح الل، ثم اكتمل بكلمة الله."
على سبيل الختم

هكذا تجسد رواية "قصة عشق كنعانية" كتابة سردية متميزة، تستند إلى رؤية فنية تهدف إلى إثارة الوعي العربي العام بأسئلة وتساؤلات تدفعه إلى إعادة اكتشافه عمق تاريخه وحضاراته بأدوات ومفاهيم جديدة، حتى يتجاوز التيه الذي يتخبط فيه بين بؤس الحاضر وخصوبة الماضي وضبابية المستقبل..ألم تقل عناة للسارد في حوارهما الافتراضي داخل مغارة النطوف:"أنا تائهة بين عناة الماضي، وعنة الحاضر، وعناء المستقبل."لهذا، فهي رواية لا تنقل الواقع أو تصفه أو تتعالى عليه، بل تروم تجديده وإسماع صوت إنسانه المقهور والمطمور والغريب في أرضه، والذي يناضل من أجل إعادة تشييد وسرد فضائه الروائي الخاص للماضي. ولذلك، فقد" خلقت القصة الرومانسية ـ يقول ميشيل زيرافا ـ لتأسيس علائق حياتية بين الأسطورة والتاريخ، وباتت وظيفة الرواية مقتصرة بالتالي على صياغة الروابط بين التاريخ والمثل (التي يجب تسميتها بالأساطير ضمن هذا المعنى.)"

عبد المجيد صديقي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى