الأربعاء ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
رأيٌ في اللّغة .. ١١
بقلم أيمن فضل عودة

جنيُ الفوائد وتحريرُ الفرائد من لغة الجرائد

لغة الجرائد، وصف لركيك اللغة وضعيفها، وما يعتريها من أخطاء لغوية نحوية وصرفية، عَنْونَ به الأستاذ العلامة إبراهيم ناصيف اليازجي سلسلة من المقالات كتبها قبل حوالي مئة وثلاثين سنة في مجلة الضياء المصرية، تتبّع من خلالها ما ظنّه أنه من أخطاء الكُتّاب واللّغويين والشعراء من العوام والخواص. وقد جُمعت هذه المقالات فيما بعد في كتاب خاص يحمل العنوان نفسه. وبهذا الوصف قرَن اليازجي لغة الجرائد بضعيف اللّغة ليصبح وصمة على جبين الجرائد والصحف، آنَ أنْ ننصفها ونحرّرها منه ولو بقدَر.

فعلى الرغم من كون كتب الخطأ والصواب قديمة قدم علوم اللغة، فقد كان الأستاذ اليازجي من روّاد جماعة التغليط والتخطيء والتضييق اللّغوي في العصر الحديث. إذ كان في عدّانه مِن أوائل مَن كتبوا في هذا المجال، ليخلُفَه فيما بعد آخرون ممن أخذوا عنه وأضافوا إليه.

وبهذا فقد ارتضى اليازجي لنفسه أن يركب هذا المـَوْر ويلِجَ في هذا الغَوْر، فأوغلَ وأغرقَ في تخطيء العبارات والألفاظ والأساليب، ليجعل الكثير منها من أوابد الكَلِم، وأخطاء القلَم، وهي في الحقيقة مسلّمة لا شِيَة فيها، ولا تحيد عن صحيح اللغة أو فصيح الكلام. ولم تقف اعتراضاته عند أقوال الكتاب المعاصرين، فما عتَّم أن طال بنقده كبار الأدباء، ونال بنقضه عظام الشعراء، لا سيما الجاهليين منهم؛ ولعل هذا ما يومئ إلى نهجه التزمتيّ المتهور. وقد كان هذا النهج وما فيه من خلل، سبب وقوعه في الخطأ والزلل، فكان بينه وبين الصواب في كثير مما ذهب إليه بُعد المشرقين وبعد المغربين، فلم يسلم هو بنفسه مما رمى به غيره، ليجد من يتصدى له كالأستاذ عبد الرحمن بن سلام البيروتي في كتابه «دفع الأوهام بقلم ابن سلام»، والأستاذ محمد سليم الجندي في كتابه «إصلاح الفاسد من لغة الجرائد». فقد صحّح هؤلاء العديد مما خطّأه اليازجي وما وقع فيه من وكْس وشَطَط، وأعادوه إلى عرينه من صحيح اللغة وفصيحها.

ومما لاحظته في نهج اليازجي أنه كثير الاتكال على السماع والنقل، دون بحث مستفيض وإعمال العقل؛ فوجدته ذات المرار يخطّئ ألفاظا بحجة عدم ورودها عن العرب، أو لأنها ندّت عن المعجمات وأُمّات المراجع في الأدب، أو خُيّل له كل هذا! وكأنه أحاط بما قالته العرب وحَوَته المعاجم والكتب، وأنّى له ذلك!؟

فأنّى له ذلك، وما انتهى إلينا مما قالت العرب إلا أقلّه، على حدّ قول أبي عمرو بن العلاء!؟ وأنّى له أن يخطّئ لفظة بحجة عدم ورودها في المعاجم؟ فهل حوت المعاجم كل ألفاظ العربية!؟ فتَراه كثيرا ما غلب عليه التهور بادعائه عدم ورود اللفظة في المعاجم أو لم تُسمع عن العرب، فإذا بها بعد الفحص والتحري في معجم كذا وقول هذا وذاك. ناهيك عن أن هذا المعيار للحكم على الألفاظ معيار واهٍ في كثير من أحايينه، وأقل ما يمكن أن يقال عنه إنه معيار غير قطعي وفيه الكثير من المجازفة. فإذا كان ورود الكلمة في المعاجم دليلا على صحتها فإن عدم ورودها في المعاجم لا يعني عدم صحتها، لأن المعاجم قد أغفلت الكثير من الألفاظ العربية؛ مما حدا ببعض اللغويين إلى تأليف معاجم ومؤلفات جديدة تستدرك على المعاجم القديمة كاللسان والتاج على الرغم من ضخامة هذه الأخيرة؛ ومن بين هذه المستدركات كتاب «الرأي الحاسم في الكلام الذي خلت منه المعاجم» لأمين ظاهر خير الله، وكذا معاجم جديدة لبعض المستشرقين مثل «مدّ القاموس» و«مستدرك المعجمات العربية».

كانت هذه بعض سمات نهج الأستاذ اليازجي في «لغة الجرائد»، ومن بين ما خطّأه الأستاذ اليازجي من لغة الجرائد كان التعبير: (ناهيك عن)، إذ قال فيه ما يلي: «ويقولون هو شاعر بليغ ناهيك عن شجاعته، أي فضلا عن شجاعته مثلا، ولا يستعمل ناهيك بهذا المعنى، إنما يقال: زيد رجل ناهيك من رجل، كما يقال: كافيك من رجل وحسبك من رجل، أي هو كاف لك؛ فكأنه ينهاك عن طلب غيره.» [لغة الجرائد 44-45]

وحسبنا ما ردّ به الأستاذ أحمد مختار على هذا التخطيء، حيث قال:

«الصواب والرتبة: -إِنَّه عالم فضلاً عن تواضعه [فصيحة]-إِنَّه عالم ناهيك عن تواضعه [صحيحة]-إِنَّه عالم بَلْهَ تواضعه [فصيحة مهملة]

التعليق: أوردت المعاجم التعبير «ناهيك من» في مثل: هو رجل ناهيك من رجل، بمعنى حسبك وكافيك، وفي المصباح: ناهيك بزيدٍ فارسًا كلمة تعجُّب واستعظام، ويمكن تصحيح الاستعمال المعاصر حملاً على المعنى الأصلي للتعبير، وهو: «ناهيك عن تواضعه»، وهو ما يفيده التعبير: «بله تواضعه» الذي يعني «اترك تواضعه»؛ فهو أمر معروف مُسلّم به من الكافة». [معجم الصواب اللغوي (1/ 746)]

قُلتُ: ما أجمل وما أسهل ما ذهب إليه الأستاذ أحمد مختار في تصويبه لهذا التعبير (ناهيك عن)، إذ أخذه على معناه الأصلي، الذي هو أوّل ما يتبادر للذّهن من النهي والأمر بترك الشيء، على معنى اسم الفعل (بَلْهَ)؛ وباكتسابه هذا المعنى الجديد لا ضرورة لتقييد التعبير بأحرف الجر (من) أو (الباء) كما أوردته المعاجم؛ لأن الفعل (نهى) يتعدى بحرف الجر (عن) أصلا، وناهيك من دليل على هذا، قول الله تعالى في الكتاب العزيز: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة 9). وأزيد قائلا: هذا هو النهج اللُّغوي السليم، أفق واسع وصدر رحب وجنوح إلى التيسير والتسهيل والتطوير والتوسيع واستيعاب الجديد، ما دام قد وُجد له توجيهٌ سديد. وحريّ بالجرائد والقائمين عليها أن تنهج هذا النهج؛ لتنفض عنها الكثير من الغبار الذي لطّخها به اليازجيّ منذ أكثر من قرن.

وعليه نستدرك على اليازجي ومن حذا حذوه لنقول: «قل: (ناهيك من) بمعنى حسبُك وكافيك، وقل: (ناهيك عن) بمعنى (بَلْه) أو ( دع واترك أمر كذا)؛ ولا خطأ!».

وليكن شعارُنا دائما: يسّروا ولا تعسّروا، وسّعوا ولا تضيّقوا، بشّروا ولا تنفّروا، ففوق كلّ ذي علم عليم!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى