الاثنين ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم أيمن فضل عودة

رأيٌ في اللّغة..«9»

أسماء الجهات منسوبة ومجرّدة.. قل: شرق المدينة وشرقيّها ...

لغط ما بعده لغط وقفت عليه بين أقوال النقاد والأدباء في مسألة استعمال أسماء الجهات الأربع (شرق/ غرب/ شمال/ جنوب) ودلالتِها عند الإضافة، أي عند قولنا، مثلا: «شرق المدينة» أو «شرقيّ المدينة»؛ وذلك على النحو التالي، والذي نقصر الحديث فيه على كلمة (شرق) تمثيلا واختصارا:

أ: منهم من يرى وجوب الاقتصار على استعمالها منسوبة، أي متصلة بياء النسب (شرقيّ المدينة)، مثل الأستاذ محمد علي النجار في محاضراته «الأخطاء اللغوية الشائعة».

ب: منهم من يرى وجوب الاقتصار على استعمالها مجردة من ياء النسبة (شرق المدينة)، كالأستاذ أسعد داغر في كتابه «تذكرة الكاتب». ويظهر تأييد لهذا عند محمد العدناني في كتابه «معجم الأخطاء الشائعة».

ج: منهم من يحجّر دلالة المنسوب منها (شرقيّ المدينة) على ما يقع خارج ما أُضيفت إليه، كالمدينة في مثالنا هذا.
د: منهم من يريد تحجير دلالة المنسوب منها (شرقي ّالمدينة) على ما يقع داخل المضاف إليه (المدينة)، ليحجّر دلالة المجرد منها (شرق المدينة) على ما يقع خارج المضاف إليه. وممن نحا هذا النحو كان الأستاذ عارف حجّاوي إذ يقول: «جنوبَ وجنوبيَّ: (تقع دِرعا جنوبَ دمشق)، أي إلى الجنوب من دمشق، و (يقع حيّ الحجر الأسود جَنُوبيَّ دمشق) أي في الجزء الجنوبيّ من دمشق نفسها». [ اللغة العالية، (ص 80)]. وقد رأيت الأستاذ الحجّاوي يروّج لهذا التقييد اللّغوي عبر منصاته في وسائل الإعلام، ويريد من الصحافيين اتباع هذا الرأي وكأنه رأي قطعيٌ مسلّمٌ به، لا جدال ولا حديث فيه؛ وهو ليس كذلك!

هذه هي أربعة آراء من التحجير اللّغوي، وما هي إلا تحجير واسع، فلا أدري لماذا هذا النزوع إلى التّحكم باللغة، وهي في طبيعتها أبيّة وعصيّة عن كل هذا الجمود؟ ولماذا كل هذا وعندنا رأي خامس يجنح إلى التوسيع والتيسير!؟ إذ لم يكن مجمع اللغة المصري بمعزل عن هذا النقاش واصطراع الرأي فيه، فقد بتّت فيه لجنة الألفاظ والأساليب التابعة للمجمع منذ منتصف القرن الفائت، لتخرج لنا برأي خامس يوائم طبيعة اللغة ومرونتها، ونراه الرأي الأمثل من بين كل هذه الآراء، حيث جاء:

«مدلول نحو قولهم: شرق كذا و شرقي كذا: يرى يعض النقاد أن استعمال أسماء الجهات منسوبة يدل على المكان الخارج عما أضيف إليه اسم الجهة. وقد درست اللجنة هذا وانتهت إلى أنه لا فرق في استعمال المنسوب من أسماء الجهات بين كونه جزءا من المضاف إليه وكونه خارجا عنه؛ وأن المدار في تعيين ذلك إنما هو على القرينة وسياق الكلام». [ كتاب الألفاظ والأساليب، ج1، ص 164]

وقد كان اعتماد اللجنة في قرارها هذا على بحث للأستاذ الشيخ عطية الصوالحي، خلص فيه إلى أنه: «لا فرق بين المنسوب وغير المنسوب من أسماء الجهات. وعلى هذا يصح أن يقال: البحر المتوسط شماليّ مصر أو شمالها، والسودان جنوبيّها أو جنوبها، كما يقال: دمياط شماليّ مصر أو شمالَها، وأسوان جنوبيّها أو جنوبَها. دون تفرقة بين ما هو خارج عن حدود المضاف إليه وما هو داخل فيه».

ومما ساقه الشيخ الصوالحي من شواهد على احتمال دلالة المنسوب من أسماء الجهات على ما هو خارج المضاف إليه وداخله، قول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (مريم 17)، إذ عرض أقوال بعض المفسرين لـ (مكانا شرقيا) أنه يعني شرقيّ بيت المقدس أو شرقيّ دارها، وليس في أقوالهم ما يقطع في كون هذا المكان داخل بيت المقدس أو داخل دارها أو خارجا عنهما. ومن أهم هذه الأقوال قول النيسبوري في تفسيره: «الانتباذ: افتعال من النبذ، أي: الطرح، كأنها ألقت نفسها إلى جانب، معتزلة عن الناس في مكان يلي شرقيّ بيت المقدس، أو شرق دارها.» [ ينظر: كتاب الألفاظ والأساليب، ج1، ص 164-168)]

وعلى الرغم من تباين الرأي بين أعضاء المجمع نفسه في هذا الصدد، حيث كان مما ترشّح من مناقشات المؤتمر استحسان بعض أعضائه تخصيص المنسوب من أسماء الجهات (شرقيّ المدينة) بما يدخل في المضاف إليه، وتخصيص غير المنسوب منها (شرق المدينة) بما هو خارج عما أضيفت له؛ فإنّ هذا لم يَثْنِ لجنة الألفاظ والأساليب بمن فيها من أساتيذ اللغة وفحولها المـُـقرَمين وأدبائها المـُفْلِقين عن قرارها الذي اتخذته. ليكون هذا القرار عُمدة ما ذهب إليه أساتذة اللغة الآخرون، كالأستاذ إميل بديع يعقوب، فخلاصة قوله في هذا الشأن هو ما خلصت إليه اللجنة في قرارها. [ينظر: معجم الخطأ والصواب في اللغة، (ص 106-108)]

وكذلك الأستاذ أحمد مختار في معاجمه، حيث قال:

1: جَنوبيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى جَنوب: "تقع أسوان جَنوبيّ مصر: في داخل مصر من الجَنوب- تقع السودان جَنوبيّ مصر. [معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 402)]

2: «الصواب والرتبة: -تقع أسوان جنوب مصر [فصيحة]- تقع أسوان جنوبيّ مصر [فصيحة]. التعليق: يرى كثير من اللغويين جواز استعمال أسماء الجهات المنسوبة في الدلالة على المكان الداخل في المضاف إليه والخارج عنه، وأن المدار في تعيين ذلك إنما هو على القرينة وسياق الكلام.» [معجم الصواب اللغوي (1/ 301)]
استدراك..

لذا، نستدرك على أصحاب الآراء الأربعة الأولى؛ لما فيها من تقييد وتضييق وتحكّم باللغة، آخذين بالرأي الخامس على نهج التوسيع والتيسير، ونقول: قل: «شرقيّ المدينة» قاصدا خارجها أو داخلها، وقل: «شرق المدينة» على هذه المعاني نفسها، ولتكنْ القرائن دليلا على القصد. والله من وراء كلّ قصد!

وليكنْ شعارنا دائما: وسّعوا ولا تضيّقوا، يسّروا ولا تعسّروا، بشّروا ولا تنفّروا؛ ففوق كلّ ذي علم عليم!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى