الاثنين ٤ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم أيمن فضل عودة

رأيٌ في اللّغة.. «10»

أسماء الجهات منسوبة ومجردة.. قل: شرق المدينة وشرقيّها ... (جزء 2)

خلصنا في مقالنا السابق إلى ترجيح الرأي القائل، بأن لا فرق بين أسماء الجهات منسوبة أي: متصلة بياء النسب (شرقيّ المدينة)، ومجردة منها (شرق المدينة)، من حيث الدلالة إلى ما هو داخل أو خارج ما أضيفت إليه؛ وذلك بناء على ما أقرّته لجنة الألفاظ والأساليب التابعة لمجمع اللغة العربية المصري وذهب إليه كثير من العلماء. فعند قولك (شرقيّ المدينة) أو (شرق المدينة) قد يكون القصد منه داخل المدينة أو خارجها على حدٍّ سواء، والتعويل في تحديد الأمر يكون على القرائن وسياق الكلام. وهذا ما نعبّر عنه بأنه الرأي الأول في هذا المقال.

وأما الرأي الثاني فهو ما كان من بين الآراء المرجوحة في هذا الشأن، وهو ذهاب البعض إلى استحسان تقييد معنى المنسوب من أسماء الجهات بما هو داخل ما أضيفت إليه، وتقييد دلالة المجرد منها بما هو خارج عما أضيفت إليه؛ فعند قولك (شرقيّ المدينة) يكون القصد داخل المدينة وعند قولك (شرق المدينة) يكون القصد خارجها. وقد رأينا أن في هذا الرأي تحجير واسع وتحكّمًا باللغة، على غير طبيعتها من المرونة والسّعة في التعبير، فنقول للقائل به كقول رسول الله ﷺ: «لقد حجّرت واسعًا» أو «لقد تَحجّرتَ واسعا» كما في رواية أخرى؛ ولذا رجّحنا عليه الرأي السابق.

ومما يدعم ما ذهبنا إليه في ترجيح الرأي الأول، هو ورود استعمال أسماء الجهات، منسوبة ومجردة، متساوية في الدلالة، منذ عصور الاحتجاج وما بعدها. نذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر:

أ: ما جاء عن الجاحظ من القرن الثاني الهجري: « أنشدني ابنُ الأعرابيِّ لرجلٍ من بني قُريع يَرْثي عينَه ويذكر طبيبًا:

لقد طُفتُ شرقيّ البلادِ وغَرْبَها ... فأعْيا عَليَّ الطبُّ والمتطَبِّبُ» [الحيوان (2/ 141، بترقيم الشاملة آليا)]

ب: ما جاء في وصف جبل «يَلَمْلَم» الواقع خارج مكة بما هو منسوب وغير منسوب من أسماء الجهات، كما يلي:

«يَلَمْلَم... وَقَالَ ابْن حزم هُو«َ جنوب مَكَّة وَمِنْه إِلَى مَكَّة ثَلَاثُونَ ميلًا.» [عمدة القاري شرح صحيح البخاري (2/ 219)] لمؤلفه بدر الدين العينى المتوفى سنة 855هـ.

«وَأَمَّا يَلَمْلَمُ فَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ وَهُوَ مَكَانٌ جَنُوبِيّ مَكَّةَ » [البحر الرائق شرح كنز الدقائق (6/ 375-376)] لمؤلفه زين الدين نجيم المصري المتوفى سنة 970هـ.

ومما جاء منسوبا دالا على ما هو خارج المضاف إليه، أو مجردا دالا على ما هو داخل المضاف إليه؛ على غير ما يستحسنه أصحاب الرأي الثاني، ما يلي:

أ: « لِأَنَّ الْكَعْبَةَ غَرْبِيّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ بِالضَّرُورَةِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ شَرْقِيّهَا...» [في البحر المحيط في التفسير (2/ 11)] لأبي حيان الأندلسي المتوفى سنة 745ه.

ب: «وبلاد الْمغرب الْبِلَاد الْوَاقِعَة فِي شمال إفريقية فِي غربي مصر وَهِي ليبيا وتونس والجزائر ومراكش ومملكة الْمغرب الْيَوْم الْجُزْء الْوَاقِع فِي أقْصَى بِلَاد الْمغرب فِي غربي الجزائر» [المعجم الوسيط (2/ 647)]

ج: «(أناضول أناطول) مَعْنَاهَا الشرق وَتطلق الْآن على الْأَرَاضِي الْوَاقِعَة شَرْقي الْبَحْر الْمُتَوَسّط» [المعجم الوسيط (1/ 28)]
د: «وَيَوْم ذِي قار يَوْم لبني شَيبَان وَقعت حوادثه فِي بطحاء جنوبي الْكُوفَة من أَرض الْعرَاق.» [المعجم الوسيط (2/ 766)]
وغيرها من الأمثلة، التي تدل على أن المنسوب وغير المنسوب من أسماء الجهات لها ذات الدلالة، وتؤكد صحة الرأي الأول.

وكان مما وقع بين يديَّ مقال لأحد علمائنا الأفاضل يذهب فيه مذهب العدّ والإحصاء، للوقوف على ورود هذه التراكيب والأسماء- أسماء الجهات منسوبة وغير منسوبة- كمًّا وكيفًا ومعنًى، ليخلص فيه إلى دعم الرأي الثاني من التحجير والتضييف الآنف الذكر، وذلك بنتائج أغلبية تقريبية وغير قطعية، وبنسب مئوية لا تفي بأي قناعة عقلية منطقية ولا طمأنينة قلبية، جاء التقريب فيها فيما يأبى التقريب. هذا إضافة إلى ما وقفتُ عليه في هذا الإحصاء من ثغرات ومواضع لا تسلم من الطعن والنقد والنقض. ولولا ضيق الوقت والمقام لعددتها وبلغت فيها حد الإتمام.

فمن بينها، أنه لمـّا وجد المنسوب من أسماء الجهات في عصور الاحتجاج يغلب استعماله متصلا اتصالا مكانيا بما أضيف له؛ قرر بناء على هذا المعيار من الاتصال المكاني بأنها تعني داخل ما أضيفت إليه. بينما وعلى الرغم من ورود المجرد من أسماء الجهات في عصور الاحتجاج، فيما يقارب نصف استعمالاته، مندرجا تحت نفس هذا المعيار أي: وروده متصلا اتصالا مكانيا بما أضيف له، نجده يرتضي لنفسه أن يحجّر معناها ودلالتها على خارج المضاف إليه. هذا ناهيك عن أنه في حديثه عن الاتصال المكاني لم يكلّف نفسه عناء البحث والتحديد، هل كان هذا الاتصال المكاني خارج أو داخل المضاف إليه، أو على الأقل لم يصرح بشيء من هذا، رغم أن هذا هو المـِحَكّ الذي يجب أن يبنى عليه البحث كله وليس مجرد الاتصال. ولكل هذا قلت: ما هذا العبث!؟ وما هذا التناقض والتضارب المنطقي!؟ وما هذا السقم المنهجي واللاعلمي؟

كما أنني أرى أن هكذا إحصاء، لــِما فاتنا من اللغة من استقراء، ولــِما في هذه التراكيب من استحالة الحصر والاستقصاء، سيبقى بعيدا عن حد الاستيفاء؛ مما يجعله مهمة مستحيلة ومعضلة لا أبا حسن لها ولحلها.

وقد علّق أحد الإخوة الأفاضل على مقالي السابق، مرجحا الرأي الثاني لـِما فيه من جعل اللغة العربية لغة علمية وأكثر انتظاما. قلت: أعلمية على أسس لا علمية ولا منطقية!؟ فإذا كان الجنوح إلى الرأي الثاني لهذه النية، فالأجدر أن يكون النهج الذي يُبنى عليه هذا الرأي، مبنيا على أسس علمية ومنطقية، لا بهذه الفوضى واللاعلمية.

فماذا لنا ولكل هذه الإحصاءات والإحصائيات ما دام قد تبدّى لنا جليا وثبت عندنا قطعيا، استعمال المنسوب والمجرد من هذه الأسماء، للدلالة على ما هو خارج وداخل المضاف إليه على حدٍّ سواء!؟ فهذا هو الثابت القطعي الذي لا مُشاحّة فيه!!

وتساءلتُ: ما دام أصحاب الرأي الثاني قد ذهبوا إليه على سبيل الاستحسان، في محاولة لتمييز الدلالة والتعبير، فكيف لنا أن نُخضع فهم النصوص القديمة والحديثة كلها لمثل هكذا استحسان، وهي لم تكن تسير ولم تكن تخضع لاستحسان كهذا من قبل، ولم يكن هذا الاستحسان مما اصطلح عليه السابقون في دلالة هذه التعابير!؟ أوليس من شأن هذا الرأي أن يحدث بلبلة في فهم هذه النصوص، خاصة عند من لم تقرع سمعه الآراء الأخرى في هذا الصدد!؟

استدراك:

لذا نعيد الاستدراك على أصحاب الرأي الثاني، لما فيه من تقييد وتضييق وتحكّم باللغة، آخذين بالرأي الأول على نهج التوسيع والتيسير، ونقول: قل: «شرقيّ المدينة» قاصدا خارجها أو داخلها، وقل: «شرق المدينة» على نفس هذه المعاني، ولتكنْ القرائن دليلا على القصد. والله من وراء كل قصد!

وليكن شعارنا دائما: وسّعوا ولا تضيّقوا، يسّروا ولا تعسّروا، بشّروا ولا تنفّروا؛ ففوق كلّ ذي علم عليم!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى