«حاملة الصوت» للشاعرة رانية مرجية
قراءة أدبية تحليلية معمقة لقصيدة «حاملة الصوت» للشاعرة رانية مرجية.
"حاملة الصوت": تشريح الصمت
وبزوغ الحق
تُعدّ قصيدة "حاملة الصوت" للشاعرة رانية مرجية نصًّا شعريًّا كثيفًا وعميقًا، يتجاوز حدود السرد الشخصي ليلامس جوهر العلاقة بين السلطة، والخوف، والحقيقة المكبوتة. إنها ليست مجرد شهادة فردية على اكتشاف الذات، بل هي تدوين لفعل المقاومة الروحي والاجتماعي الذي يبدأ من لحظة رفض الصمت المفروض.
تستخدم الشاعرة لغة صافية ومكثفة، أقرب إلى الرمزية الفلسفية، لتبني مدينة من المشاعر والأفكار حيث يُصبح الصوت هو العملة الأكثر قيمة والأكثر خطورة.
الصمت كهيكل نجاة وقيد
تُفتتح القصيدة بلحظة اعتراف صادقة تُشعل فتيل النزاع المركزي: "لم أكن أبحث عن صوتي، / كنت أبحث عمّا / يُخفى حين نتعلّم / أن النجاة / في الصمت." هذا الافتتاح يضع القارئ مباشرة في قلب المدينة الخائفة، تلك التي "تربّي أبناءها/ على خفض الرأس". هنا، يتم تشريح الصمت ليس كحالة سكون، بل كنظام تعليمي وثقافي قسري؛ إنه ثمن البقاء.
يتحول الحديث إلى "فعل شجاعة"، وهو ما يعني ضمنًا أن النظام السائد قد جرّد التواصل الحر من طبيعته ليحوّله إلى عمل بطولي خارج عن المألوف. وفي المقابل، يغدو "الاستماع جريمة مؤجَّلة"، ما يشير إلى أن حتى تقبّل الحقيقة الوافدة من الآخر هو مشاركة محتملة في "الجرم" المتمثل في كسر قاعدة الصمت.
تعمّق الشاعرة في تجربة الإدراك الباطني التي سبقت القدرة على التعبير، فهي "تسمع قبل أن تفهم" و"تشعر بالارتجافة قبل أن تعرف اسمها".
هذه المرحلة تشير إلى أن الحقيقة هي طاقة كامنة، تهزّ الكيان البشري في الصدر، لكنها تُحجز وتُخنق بسبب غياب "الفم" الآمن الذي يجرؤ على إخراجها.
دفن الخوف وتأجيل الحياة
تنتقل القصيدة إلى رمزية الحجر والدفن: "تحت الحجر، / حيث دفنوا الخوف / وسمّوه حكمة". هذا المقطع من أجمل وأقسى ما في القصيدة، فهو يفكك العلاقة بين الخوف الاجتماعي والسلطة المعرفية.
المجتمع لا يدفن الخوف فحسب، بل يمنحه اسمًا زائفًا ومرموقًا هو "الحكمة"، ليصبح الامتثال للخوف فضيلة تُورّث. في هذا المناخ، يظهر "الطفل" رمزًا للبراءة المتوقفة والنمو المؤجل. هذا الطفل هو الصوت الأصيل، الهوية غير المشوهة، الذي اختار أن "يؤجّل نموّه / كي لا يُخيف الكبار"، مما يدل على تضحية الذات الفردية من أجل الحفاظ على استقرار ووهم الجماعة.
تأخذ الأصوات في القصيدة شكلاً تسلسليًا ومراقبًا، يمثل مراحل الوعي المختلفة:
* صوتٌ أول:
"وُلد بلا شاهد" - هو صوت أصيل وحيد لم يجد من يحتضنه أو يصدقه.
* صوتٌ ثانٍ:
"تراكم حتى صار / مدينةً من حزن" - هو تراكم الخيبات والأصوات المكتومة التي تحولت إلى ثقل جماعي.
* صوتٌ ثالث:
"اختار الصمت / كي يحمي من يحب" - هو صوت التنازل النبيل أو الحماية العائلية التي تُفضّل السلامة على الحقيقة.
حاملة الصوت:
فعل "أنا هنا" الهادئ
أما الصوت الرابع، فهو اللحظة الفارقة في النص. إنه ليس صوت ثورة صاخبة أو مطالبة بالثأر، بل صوتٌ جاء "بهدوءٍ أقسى من الصراخ: / أنا هنا". هذا الهدوء لا يعني الضعف، بل يمثل قوة اليقين والامتلاء بالوجود. إنه الهدوء الذي يأتي بعد استنفاذ كل أشكال الانتظار والتضحية، ليؤكد الوجود كحقيقة لا يمكن نكرانها.
تعرّف الشاعرة نفسها بأنها ليست "بطلة" ولا "منقذة"، بل "امرأةً صغيرة / لم تتعلّم / كيف تتجاهل الوجع". هذا التواضع هو مصدر القوة الحقيقية؛ فالعملية ليست بحثًا عن المجد، بل هي استجابة إنسانية طبيعية لـ"الوجع" الذي لا يمكن تحمّله. فتحُ الصوت يُصوَّر بجمالية فائقة على أنه فتح لـ"نافذة / في بيتٍ خاف طويلًا / من الضوء". إنها استعارة للانتقال من الظلمة النفسية والاجتماعية إلى النور، ليس بإسقاط الجدران (الثورة العنيفة)، بل بتحويل جوهر العلاقة معها.
التحرر والاعتراف
تُختتم القصيدة برسالة أمل وتحول عميق. لم تسقط الجدران، لكن "الصمت / فقد قدسيته". هذا هو الانتصار الحقيقي: تآكل سلطة الصمت كقيمة عليا. تتعلم المدينة أن "ما يُدفن خوفًا / يعود يومًا / مطالبًا بالاعتراف". الاعتراف هو الغاية، وهو نقطة التحول التي تحرر كل من الحامل والمحمول.
في الختام..
يُشهد على تحرر الطفل المؤجل، الذي يمشي بين الناس "لا كظلّ / ولا كاتهام، / بل كحقٍّ / استعاد اسمه". لم يعد الصوت المكبوت شبحًا يطارد المدينة (ظل)، ولا هو سيف يُشهَر لمحاسبتها (اتهام)، بل هو حق طبيعي استردّ شرعيته. النتيجة النهائية ليست الدمار، بل التعلم: "حين نسمع الحقيقة / كما هي، / لا تُدمَّر المدن… / بل / تتعلّم / كيف تتنفّس.
" الحقيقة ليست قوة هدم، بل هي شرط للتنفس واستمرار الحياة السوية.
"حاملة الصوت" هي قصيدة عن إعادة تعريف مفهوم القوة:
هي ليست في الصراخ، بل في الإعلان الهادئ عن الوجود؛ ليست في تدمير المدينة، بل في تعليمها كيف تتنفس.
وهي تذكير بأن أعظم حكمة تكمن في احترام الحق غير المشروط للفرد في التعبير عن وجوده.
حاملة الصوت
قصيدة
لم أكن أبحث عن صوتي،
كنت أبحث عمّا
يُخفى حين نتعلّم
أن النجاة
في الصمت.
في المدن التي
تربّي أبناءها
على خفض الرأس،
يصبح الكلام
فعلَ شجاعة،
ويغدو الاستماع
جريمةً مؤجَّلة.
كنتُ أسمع
قبل أن أفهم،
وأشعر بالارتجافة
قبل أن أعرف اسمها.
كانت الحقيقة
تمرّ في الصدور
ولا تجد فمًا.
تحت الحجر،
حيث دفنوا الخوف
وسمّوه حكمة،
كان طفلٌ
يؤجّل نموّه
كي لا يُخيف الكبار.
ترك صوته هناك
مثل أمانةٍ ثقيلة
لم يجرؤ أحد
على حملها.
صوتٌ أول
وُلد بلا شاهد،
وصوتٌ ثانٍ
تراكم حتى صار
مدينةً من حزن،
وصوتٌ ثالث
عرف الحقيقة
فاختار الصمت
كي يحمي من يحب.
أما الرابع،
فلم يأتِ صارخًا،
ولا طالبًا ثأرًا،
جاء كمن
تعب من الانتظار،
وقال بهدوءٍ
أقسى من الصراخ:
أنا هنا.
لم أكن بطلة،
ولا منقذة،
كنتُ فقط
امرأةً صغيرة
لم تتعلّم
كيف تتجاهل الوجع.
فتحتُ الصوت
كما تُفتح نافذة
في بيتٍ خاف طويلًا
من الضوء.
لم تسقط الجدران،
ولم تُغرق الحقيقة الشوارع،
لكن الصمت
فقد قدسيته،
وتعلّمت المدينة
أن ما يُدفن خوفًا
يعود يومًا
مطالبًا بالاعتراف.
اليوم،
لم أعد أحمل الصوت،
ولا المدينة
تحتاج حارسًا،
صار لكلّ قلب
أذناه،
ولكلّ كلمة
مكانها.
أما الطفل
الذي لم يكبر،
فمشى بين الناس
أخيرًا،
لا كظلّ
ولا كاتهام،
بل كحقٍّ
استعاد اسمه.
وهكذا،
حين نسمع الحقيقة
كما هي،
لا تُدمَّر المدن…
بل
تتعلّم
كيف تتنفّس.
