الأحد ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم فاتن عبد الوهاب الصياح

حينما كبا الحصان

اِخْتَفَى الحِصَانُ، وَقَدْ كَانَ أَمْرُ اِخْتِفَائِهِ مُدْهِشَاً إِذْ إِنَّ جَمِيْعَ حَيْوَانَاتِ الغَابَةِ كَانَتْ تَسْمَعُ صَهِيْلَهُ، لَكِنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعْ رُؤْيَتَهُ، وَمِمَّا كَانَ يَزِيْدُ حُزْنَ الحَيْوَانَاتِ وَأَسَاهُمْ عَلَى صَدِيْقِهِمْ الحِصَانِ أنَّ صَهِيْلَهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى مَسَامِعِهَا مَمْزُوْجَاً بِالأنِيْنِ وَالإِرْهَاقِ، مِمَّا جَعَلَ الحيواناتِ كُلَّهَا تَجْزِمُ بِأَنَّ الحِصَانَ وَاقِعٌ فِي مُشْكِلَةٍ مَا وَبِحَاجَةٍ إِلَى مُسَاعَدَةٍ، لَكِنَّهَا كَانُت عَاجِزةً عَنْ تَقْدِيْمِهَا لَهُ بِسَبَبِ اِخْتِفَائِهِ عَنْ أَنْظَارِهِا..

كَانَ عَلَى الجَمِيْعِ أَنْ يَقُوْمَ بِشَيْءٍ مَا؛ فَأَهْلُ الغَابَةِ كَانُوا مُتَعَاضِدِيْنَ وَكَأنَّهُمْ أُسْرَةً وَاحِدَةً، بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُمْكِنُ أنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ مِنْ أهْلِ الغَابَةِ بِحَاجَةِ أخِيْهِ لَهُ وَيُقَصِّرَ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبَهُ تِجَاهَهُ؛ لِذَا فَمَا إِنْ سَمِعَ الدِّيْكُ اِسْتِغَاثَاتِ الحِصَانِ حَتَّى قَالَ فِيْ نَفْسِهِ:

عَلَيَّ أَنْ أَوِّجِهَ النِّدَاءَ لأهْلِ الغَابةِ للاجتماعِ؛ فأنَا أفصحُهُمْ لغةً، وَأَوْضَحُهُمْ مَنْطِقَاً، وأبينُهُمْ صَوتاً..

وقبلَ بزوغِ الفجرِأطلقَ الدِّيكُ صيحاتِهِ بصوتِهِ الجهوريِّ، فهُرِعَتْ حيواناتُ الغَابَةِ إلى ساحةِ الاجتماعِ حيثُ خاطبَهُمْ الدِّيكُ قَائِلا:

 علينا أنْ نَتَشَاوَرَ فيما يمكنُ أنْ يكونَ قدْ حصلَ لصديقِنَا الحصانِ، فكلُّكُمْ تعرفونَ أنَّ أخانا الحصانَ غائبٌ منذُ فترةٍ ، وقدْ سمعتمْ صوتَهُ في طلبِ النَّجدةِ فعلينا الآنَ أنْ نفكِّرَ فيما يمكنُنَا أنْ نُقدِّمَهُ لهُ، أو نفعلَهُ لمساعدتِهِ؛ فنحنُ معشرَ الحيواناتِ أسرةٌ واحدةٌ في هذه الغابةِ، ولا يمكنُ أنْ نقصِّرَ في نجدةَ أيِّ واحدٍ منَّا إذا ما ألمَّتْ بِهِ مصيبةٌ. وأيَّدَهُ الجميعُ فيما يقولُ، لكنَّهم ما زالوا محتارينَ؛ فاختفاءُ الحصانِ لمْ يَكُنْ اختفاءً كاملاً، فقدْ كانَ الحصانُ يصهلُ وكأنَّه يُرْسِلُ نداءاتِ استغاثةٍ، لكنَّهُمْ مَا زَالُوا لَا يَعْلَمُوْنَ فَحْوَى نِدَاءَاتِ استغاثةِ الحصانِ، ولَا حتَّى مكانَهُ حتَّى يتبيَّنَ لهم الأمرَ، وما هو المطلوبُ مِنْهُمْ؛ فالحصانُ كانَ حيواناً نشيطاً اعتادَ على ممارسةِ الرِّياضةِ الصَّباحيَّةِ للحفاظِ على رشاقتِهِ وقوَّتِهِ، بلْ إنَّه كانَ دائمَ الحركةِ والتجوُّلِ في أرجاءِ الغابَةِ الفسيحةِ؛ لذا فإنَّهم عاجزونَ عن تخمينِ المكانِ الذي هو فيهِ الآنَ، والذي يُرْسِلُ منه نداءاتِ استغاثَتِهِ..

اقترحَ الأرنبُ أنْ يصيخَ هو والحمارُ السَّمعَ إلى صهيلِ الحصانِ لمعرفةِ الجهةِ التي يَصْدُرُ منها، وبالتَّالي يتوجَّهُ الأرنبُ لاقتفاءِ أثرِ سنابكِ الحصانِ على التُّربةِ في الجهةِ التي سيظهرُ لهما أنَّها هي مصدرُ الصُّوتِ، حتَّى يتمكَّنَا من العثورِ عليهِ، لكنَّ صدى صهيلِ الحصانِ كان ينتشرُ في الفضاءِ، ممَّا يجعلُ عمليةَ اقتفاءِ أثرِ الصَّوتِ عمليَّةً صعبةً ومعقَّدةً، وهنا اقترحَ الكلبُ أنْ يضيفَ خبرتَهُ في اقتفاءِ الرَّائحةِ إلى جهودِ صديقيهِ الأرنبِ والحمارِ حتَّى يتمكَّنوا، من خلالِ دمجِ خبراتِهِمْ جميعاً، مِنَ العثورِ على صَدِيْقِهِمْ الحصانِ..

وبعدَ تضافرِ جهودِ الحيواناتِ جميعِها، تمَّ العثورُ على الحصانِ أخيراً.. تمَّ العثورُ عليهِ واقعاً في حفرةٍ عميقةٍ.. حفرةٍ استخدَمَهَا أحدُ الصَّيادينَ كفخٍ فغطَّاها بالأعشابِ والقشِّ وأغصانِ الأشجارِ؛ لذَا فقدْ وَقَعَ الحصانُ فيها ما إنْ وطأتْها قوائِمُهُ، وبسببِ عمقِ الحفرةِ، وضخامةِ جسدِ الحصانِ؛ فإنَّ جميعَ المحاولاتِ التي قام بها أصدقاؤهُ لإخراجِهِ مِنْ تلكَ الحفرةِ قدْ باءَتْ بالفشلِ.

وَعَلى الرَّغْمِ من إصرارِهِمْ عَلَى النَّجَاحِ وَمُعَاهَدَةِ أنفسِهِمْ بأنَّهم لنْ ييأسُوا، فكلُّ واحدٍ منهُمْ مُعَرَّضٌ لأنْ يكونَ في موقعِ الحصانِ؛ لذَا فلنْ يتخلَّوا عنْ صديقِهِمْ الحصانِ، وسيبذلونَ جهدَهُمْ لإخراجِهِ منْ مأزقِهِ، ولكنْ على الرَّغْمِ من نيَّاتِهِم الصَّادقةِ، وإيمانِهِمْ بأنَّ محاولاتِ إخراجِ الحصانِ يجبُ أنْ لا تتوقَّفَ؛ فهمْ لا يعرفونَ متى يعودُ الصَّيادُ للحصولِ على فَرِيْسَتِهِ التي وَقَعَتْ بالفخِّ؛ لذَا فَقَدْ كانُوا يبذلونَ أقصى ما يمكنُهُمْ منْ جهدٍ وبأسرعِ وقتٍ ممكنٍ، ولكنْ عَلَى الرَّغْمِ من أهميَّةِ النيَّةِ الصَّادقةِ، والإصرارِ في تحقيقِ النَّجاحِ إلا أنَّ محاولاتِهِمْ لَمْ تُكَلَّلْ بالنَّجاحِ.

هُنَا سَمِعَ الجميعُ خوارَ الثَّورِ الحكيمِ، فالتفتوا ناحيَتَهُ حيثُ أخبرَهُمْ بأنَّ النَّجاحَ لا يكونُ ببذلِ الجهدِ وإخلاصِ النِّيَّةِ فحسبُ، بلْ بالتَّخطيطِ الجيَّدِ أيضاً؛ لذا عليهم أنْ لا يُرْهِقُوا أنفسَهُمْ بمحاولاتِهِم تلكَ، ولكنْ عليهم أنْ يُفَكِّرُوا بإيجادِ طريقةٍ تمكِّنُهُمْ منَ النَّجاحِ في مسعاهم، وهنا اقترحَ الجَدْيُ عليهم أن يعضَّ الحصانُ على طرفِ غُصْنٍ فيجرُّونَهُ منَ الطَّرفِ الآخرِ، وقد استحسنَ الجميعُ الفكرةَ إلَّا أنَّ التَّجربةَ برهنَتْ عَلَى أنَّ الأفكارَ الحَسَنَةَ لَيْسَتْ مَنُوْطَةً بالنَّجاحِ العمليِّ دائماً، فقد تكشفُ التَّجاربُ عيوبَ الأفكارِ الجميلةِ، فقدْ كانَ الغصنُ عرضةً للكسرِ أو القضمِ في أغلبِ المحاولاتِ التي استخدموا فيها هذه الطَّريقةِ، فكانَ لا بدَّ من التَّفكيرِ بطريقةٍ أخرى..
وَهُنَا قَفَزَ الأرنبُ قائلا:

وَجَدْتُهَا..

وَهُرِعَ الأرنبُ إلى جُحْرِهِ فأحضرَ مَا فيهِ مِنْ ثيابٍ وأثاثٍ وأدواتٍ لم يعدْ بحاجةٍ لاستعمالها، وحضَّ الجميعَ على أنْ يحذوا حذوَهُ، فقدْ طلبَ منهم التَّبرُّعَ بأيِّ شيءٍ، كلٌّ على قَدْرِ استطاعَتِهِ، فحتَّى لو اعتقدوا بأنَّ ذلكَ الشَّيءَ صغيرٌ وقليلٌ إلا أنَّهُ قدْ يكونُ ذا أثرٍ عظيمٍ لدى مَنْ يحتاجُهُ، فانطلقَ الكلبُ إلى وِجَارِهِ، والحمارُ إلى حَظِيْرَتِهِ، وَالجَدْيُ والثَّورُ إلى زَرِيْبَتِهِمَا، والطُّيورُ إلى أعشاشِهَا، فَأحْضَرَ كلٌّ منهم مَا استطاعَ أن يتبرَّعَ بِهِ حتَّى يتمكَّنُوا مِنْ رَفْعِ البلاءِ عَنْ أخيهِمْ الحصانِ..

وثمَّةَ مَنْ كانَ تبرُّعُهُ بالطَّعامِ حتَّى يسدَّ الحصانُ رمقَهُ إذْ أرهقَهُ الجوعُ والعطشُ والإعياءُ، وآخرونَ لمْ يكنْ لديهم ما يتبرَّعونَ به فتبرَّعوا بالجهدِ والعملِ في الجَمْعِ والتَّوصيلِ..

استمرَّ أهلُ الغابةِ بجمعِ المقتنياتِ والأثاثِ والطَّعامِ الذي تبرَّعَ عددٌ مِنْ أهلِ الغابةِ بإيصالِهِ إلى الحصانِ الواقعِ في الحفرةِ، بلْ إنَّ ثَمَّةَ مَنْ تطوَّعَ من الحيواناتِ إلى طلبِ العونِ مِنْ أهالي الغاباتِ القريبةِ منهم حتَّى يتمكَّنُوا مِنْ جمعِ أكبرِ قَدْرٍ مِنَ التَّبرُّعاتِ، فيختصرونَ بذلكَ الزَّمَنَ اللَّازمَ لخروجِ الحصانِ من مأزقِهِ، فكلَّما ازدادَتْ الأيادي قلَّ الجهدُ وقلَّ الزَّمَنُ..

تحوَّلَتِ الغَابةُ إلى خليَّةِ نحلٍ لا تهدأُ، فَهَذَا يجمعُ الأشياءَ منَ الزَّرائبِ والحظائرِ والأوجارِ والجحورِ، وذاكَ يقدِّمُ الطَّعامَ، وغيرُهم يوصلُها إلى الحصانِ، وغيرُهم يرشدُ الحصانَ إلى كيفيَّةِ ترتيبِ الأشياءِ المتبرَّعِ بها فوقَ بعضِهَا بعضاً داخلَ الحفرةِ حتَّى تمكَّنَ الحصانُ من اعتلائِها شيئاً فشيئاً إلى أنْ تمكَّنَ مِنَ الخروجِ من الحفرةِ ، فاجتمعَ شملُ الأسرةِ ثانيةً..

لقد أثبتَتِ المصيبةُ التي ألمَّتْ بالحصانِ أنَّ أهلَ الغابةِ أسرةٌ واحدةٌ.. أسرةٌ يحبُّ أفرادُها بعضهم بعضاً ويساعدُ واحدُهم الآخرَ، وأنَّ الأشياءَ الصَّغيرةَ التي تبرَّعُوا بها كانت، بالنِّسبةِ إلى الحصانِ، ذاتِ أثرٍ كبيرٍ.

= انتهت =


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى