الأربعاء ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم جواد عامر

حين تصير الصورة دالا سيميائيا على الشاعر العربي

لا يمكن للخطاب الشعري أن تقوم له قائمة دونما تصوير لأنه بؤرته التي يتأسس عليها وسنده الذي يتكئ عليه إلى جانب النغم النابع من الايقاع داخله وخارجه، لذا فطن النقد العربي منذ الجاحظ إلى قضية التصوير في الشعر لما يميز صناعته ومنحها تفردها عن النثر قال الجاحظ:"فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"(1)، لذا تفنن الشعراء عبر العصور في إبداع الصور التي ترتفع بأشعارهم، فكان من الطبعي أن يتلاقى بعضها مع بعض في إطار من التناص بحكم تداول المعاني بين الناس التي عبر عنها الجاحظ بقوله: المعاني مطروحة على الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والمدني"(2) غير أن كل شاعر حاول أن يرسم بنفسه خارطة طريق تحدد له معالم شعريته وتمنحها تفردها في المدونة الشعرية العربية، فيعرف هذا الشاعر بهذا اللون من التصوير ويعرف الآخر بلون غيره، ما يجعل الصورة دالا سيميائيا ينبئ المتلقي عن صاحب القول، لا مجرد شكل بلاغي تخييلي مؤسس من مفردات تقيمها علاقات نحوية وتركيبية لترتسم في مخيلة السامع رسما فوتوغرافيا عبر ما تؤديه من الايحاء لخلق الدلالة، إنها تتجاوز هذا الطرح الذي حفلت به كتب النقد والدراسات الشعرية لتتشكل أيقونة سيميائية دالة على مبدعها.

إن تشكيل الصورة يختلف من شاعر لآخر، بحكم خضوعها للمخيال الذي يتباين فيه أهل الصناعة وبحكم البيئة والمؤثرات الثقافية المختلفة التي تختلف حسب العصور والتي تسهم في إفراز الصور وتخليقها لذا فالشاعر حينما ينتج شعره فغنه يفكر بالصورة ولا يمكنه الخروج عن دائرتها، إنها السياج الذي يحيط بخيال الشاعر وعليه أن يوجد العلائق بين الأشياء ليصنع منها رسما جديدا يكون مفاجئا للمتلقي الذي ينبهر بجمال التصوير، لذا تنوعت التصاوير بين الشعراء وامتاز كل واحد منهم بلون خاص وسم شعريته وإن تلاقى كثير منهم في توظيف نفس الصور لذات الدلالة على امتداد العصور كما هو حال صورة الليل التي ظلت ثابتة الدلالة ن حاملة لمعنى الكآبة والهموم والمعاناة منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث رغم بعض الانزياحات التي عنى بها بعض شعراء الحداثة، أو صورة الفرس التي ظلت حمالة لمعاني الفروسية والإغارة والنصر لتفقد هذه المعاني مع بعض شعراء بني العباس لترتبط صورتها بالرهان والسباق والجمال ومع أمل دنقل في قصيدته الخيول تفقد خصيصاتها القرآنية فلم تعد مغيرات صبحا ولا مثيرات نقعا، وما شابه هذا الثبات والتحول الدلالي الذي تنتجه متغيرات التاريخ بحمولاتها ومركباتها المستجدة، فإن الصورة على امتداد المنتج الشعري للشاعر العربي تظل علامة دالة عليه، فحضور صورة الأنا والقبيلة مرتبطة بالفروسية والشجاعة تحيل بشكل مباشر على صاحبها عنترة بن شداد وحضور صور الحكمة والقيم الإنسانية الجميلة تحيل على صاحبها زهير بن أبي سلمى وحضور صورة الدفاع عن الرسول عليه السلام ومهاجمة الكفار في إطار من الصراع الكلامي السابق على خوض معامع القتال يؤشر على أن صاحب القول هو حسان بن ثابت وحين تستثيرك صورة العين باكية وكثرة التشكي والتحسر على فقدان الأخ تدرك أنك أمام شاعرة بني سليم، وحين تحضر صورة الإعجاب بالذات وتهافت النساء على الشاعر نعرف أنه عمر بن أبي ربيعة شاعر الحجاز ولما نجد الخمرة في القصيدة تمتلك روحا وتنبض بالحياة والشغف كل الشغف يحيط بها وبما يرافقها من كؤوس وندماء وسقاة وحانة نعلم أنه شاعر الخمرة أبو نواس وفي المقابل حين تحضر صورة الكفاف والقناعة بخبز يابس وكوز ماء ندرك أنه شاعر الزهد أبو العتاهية وحينما تطالعك صور شديدة التشاؤم تنطقها فلسفة عميقة من الوجود يبين لك صاحب اللزوميات، شاعر الفلسفة والتشاؤم أبو العلاء وحين يمتلئ جوفك بالتفاؤل والأمل في الحياة فتطالعك صورة الابتسام والجمال في الطبيعة تعلم أنك في حضرة شاعر الأمل إيليا أبي ماضي وحين يسرح خيالك مع الفنيق وتموز وعشتار وبويب وجيكور والسندباد وأوديب تكون قد حططت الرحال بأرض العراق مع أيقونة الشعر العربي الحديث بدر شاكر السياب، وقس على ذلك ما شئت من الصور لدى شعراء العربية.

إن الصورة لا تقتصر على مجرد تشكيل بلاغة القول الشعري وشحنه بالإيحاء الدلالي المثير للقارئ وإنما تتحول إلى دال سيميائي من خلال مركباتها التلفظية التي تتحول إلى أيقونات ورموز وإشارات يتفق عليه ضمنيا بين الشاعر والقارئ، فتكون الصورة بهذا المعنى بمثابة الكشاف الذي يعلن عن مبدعها، فالأمر شبيه تماما بقضية نسبة البيت لقائله، فقد خبرتنا المدونة النقدية كثيرا بأبيات لا تصح نسبتها لبعض الشعراء الذين كانوا براء من ذلك القول إما لعدم اتفاق المعنى مع السياق الاجتماعي والبيئي والثقافي للشاعر أو لتضمن البيت ألفاظا سابقة على العصر الذي عاش فيه الشاعر وأحيل هنا على قضية النحل التي أثارها طه حسين في كتابه في الأدب الجاهلي وما نتج عنها من ضجة كبرى في الأوساط النقدية، إذ تتحول الألفاظ إلى دوال سيميائية تكشف حقيقة القول وصحته، وما دام اللفظ بناء على نظمه في أبنية يشكل الصورة بالمعنى البلاغي فإن الصورة الشعرية نفسها تتحول إلى دال سيميائي قادر على كشف صحة البيت ونسبته إلى صاحبه، إذ لا يمكن لصورة تمجد الوحي وتستنطق ألفاظه أن تكون لشاعر في عصر الجاهلية ولا يمكن لصورة تقدس الخمرة وتتغزل بالغلمان أن تكون لشاعر في صدر الإسلام، ولا يمكن لصورة شعرية ملأى بالتشاؤم وفقدان الأمل في الحياة أن تكون لإيليا أبي ماضي وهلم جرا، ما يجعل الصورة حقيقة وسيلة لإثبات الهوية الشعرية التي تترسب في المفكرة الجماهيرية.

إن تأمل جنس التصوير في الشعرية العربية على امتداد تاريخها يؤكد فعلا على أن الصورة هي البصمة الحقيقية للشاعر العربي في المتن الشعري، بها يعلو كعبه وبها يسفل وينحدر إلى الحضيض، لذا جد الشعراء في البحث عن الصور الجديدة بعيدا عن التقليد والمحاذاة حتى لا تصيبهم سهام النقد التي لم تكن لتخطئ مرمى شاعر سرق معنى أو أعاد تحوير معنى سبق إليه غيره، ولعل الموازنة للآمدي وهو يطالعنا على شعر الطائيين أبي تمام والبحتري على طول الكتاب يكشف عن بعض سرقات لأبي تمام في إطار مقارن يوازن فيه بين شعر الشاعرين ؛ وقد كان أبو تمام مجددا في الصورة رغم ما أخذه عليه نقاد عصره من رافضي التحديث كابن الأعرابي الذي قال لأبي العباس عبد الله بن المعتز بعدما أقرأه أبياتا لأبي تمام يقول فيها:

وعاذل عذلته في عذله
فظن أني جاهل من جهله

فاستحسنها ابن الأعرابي وأمر بكتابتها له لكنه ما أن علم أنها لأبي تمام حتى قال: خرق خرق!(3)

صحيح أن الغموض اكتنف شعرية أبي تمام حتى إن أبا العثيميل قال له: لماذا لا تقول ما يفهم؟ فرد أبو تمام: ولما لا تفهم ما يقال ؟ في دعوة صريحة إلى ضرورة الارتقاء بالفكر والوجدان إلى النص للبحث عن المعنى وتذوق الجمال الخفي فيه، ولعل من أكبر أسباب هذا الغموض ما وسم الصورة عنده من تجريد كان يصل إلى حد الغرابة كما في قوله:(4)

رقيق حواشي الحلم لو ان حلمه
بكفيك ما ماريت في أنه برد

فقد خرج أبو تمام فعلا عن المألوف الشعري فقد اغتنت عنده بالاستعارات خاصة المكنية منها فجاء فيها بالغريب البعيد عما دأبت عليه العرب في شعريتها حتى إن الآمدي أخذ عليه هذا الإيراد فقال: وإنما رأى أبو تمام أشياء يسيرة من بعيد الاستعارات متفرقة في أشعار القدماء ـ كما عرَّفتك ـ لا تنتهي في البعد إلى هذه المنزلة فاحتذاها وأحب الإبداع والإغراب بإيراد أمثالها، فاحتطب واستكثر منها"(5)، فكان إغرابه في التصاوير وإتيانه بالجديد غير المألوف في التقليد الشعري علامة فارقة مازت شعريته عن غيرها، حتى إن السامع يستطيع أن يدرك بمجرد سماعه لمثل تلك الصور أنه في حضرة أبي تمام، ولو نظرنا في شعرية الهجاء على امتداد التاريخ العربي لرأينا الصورة الكاريكاتورية دالا سيميائيا على ابن الرومي دون غيره من شعراء العربية، فحتى أصحاب النقائض في مساجلاتهم الشعرية لم يبلغوا رغم فحولتهم وقوة شعرية الهجاء عندهم مبلغ التصوير الكاريكاتوري الذي ماز شعرية ابن الرومي، فمطالعتك لرسم الشخصية المهجوة في قوله مثلا:(6)

يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد

وقوله في معلم الصبيان أبي سليمان (7)

أبو سليمان لا ترضي طريقته
لا في غناء ولا تعليم صبــــــــيان
له إذا جاوز الطنبور محـــــتفلا
صوت بمصروضرب في خراسان
عواء كلب على أوتار مندفة
في قبح قرد واســـــــتكبار هامان
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا
عند التنغم فكي بغل طــــــــــحان

فمثل هذه التصاوير لم تحفل بها غير شعرية ابن الرومي، فهو مبدعها وراسمها بتكون دالة عليه وحده دون غيره من الشعراء ولذلك كان يهابه أهل الشعر في زمانه لما قدر عليه من رسم كاريكاتوري بارع عند هجوه لخصومه او المتعرضين له.

إن الصورة وهي صوت الخيال تسطره كلمات الشاعر، المتلبس بالانفعال في هيكل إيقاعي بؤرة محورية في الشعر بها يمتاز إلى جانب النغم عن غيره وبها يتعالى عن المنثور، لذا كان النقد حريصا على تتبع الصورة وألوانها وكيفيات تركيبها وإطلاقها فهي معيار تفاضل الشعراء وإجادة بعضهم للصناعة وتضعيف بعضهم الآخر، لذا حظيت الصورة عندهم باهتمام أكبر وتتبع دقيق فأعملوا فيها ما قدروا عليه من مناهج مقارنة وتحليلية ووصفية غير أنهم غفلوا عن البعد النفسي المسؤول عن إفرازها وهو البعد الذي يجعل من الصورة دالا سيميائيا على مبدعها، لذا كان النقد العربي قبل القاضي الجرجاني صاحب الوساطة وعبد القاهر الجرجاني صاحب دلائل الإعجاز، بعيدا كل البعد عن هذا الجانب لانصراف نظره إلى الصورة في ذاتها كبنية وعلاقات من النحو والتركيب والبلاغات ما جعلهم يفصلونها عن القطب النفسي الذي يعد أساسا في إنتاج الصورة إلى جانب العوامل الثقافية والاجتماعية والبيئية.

الهوامش

1 أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الحيوان ج 3 تح عبد السلام محمد هارون دار إحياء التراث العربي بيروت ط 3 1969 ص 131
2. نفسه س 132
3. أبو بكر الصولي أخبار أبي تمام تح خليل محمود عساكر ومحمد عبده عزام ونظير الاسلام الهندي مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة ط 1 سنة 1973ص.ص185، 186
4. أبو تمام الديوان قدم له عبد الحميد يونس وعبد الفتاح مصطفى مكتبة محمد علي صبيح وأولاده ميدان الأزهر مصر د.ت ص143
5. أبو بكر الصولي أخبا ر أبي تمام ص 36
6. ابن الرومي الديوان شرح أحمد حسن بسج دار الكتب العلمية بيروت ط 3 2002 ص 412
7. نفسه ج 3 ص 456


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى