
ديوَان المَوَاكِب

مع الشاعر حاتم جوعية في قصيدته المعارضة لقصيدة "المواكب" لجبران
كتب الدكتور الشاعر حاتم جوعية قصيدة تحت عنوان "المواكب" عارض فيها قصيدة جبران خليل جبران التي تحمل الاسم ذاتهِ "المواكب"، وقد كتبها الشاعر حاتم جوعية على النمط والأسلوب نفسه فكانت قصيدته طويلة كقصيدة جبران.
إنَّ اللافت في "مواكب" جوعية أنّها تتضمن معظم التيمات والأفكار والمعاني التي تناولها جبران، علاوة على أنها شبيهة من حيث الأوزان والثقفية مما يوحي بمدى تأثر شاعرنا بروح وشكل قصيدة جبران، وبالتالي سنعالج في السطور اللاحقة قصيدة جوعية التي تمتاز بمتانة اللغة وجمال الأسلوب وفرادة الفكرة أيضًا.
إنّ الشاعر حاتم جوعية يتبّع في قصيدته المعارضة هذه المغزى الصوفي في "مواكب" جبران الى حدٍ بارز وملموس، فأسلوب قصيدة جوعية يعتمد أيضًا أسلوب جبران في المقارنة بين حياة الواقع التي يصفها الشيخ، وحياة الغاب التي يتغنّى بها الفتى في مقطوعاته المنوّعة القوافي، التي يرّد بها على أقوال الشيخ معبِّرًا عن سخرية من الواقع وابتهاجه بحياة الحريّة، مرّددًا في نهاية كل مقطوعة: "أعطني الناي وغنِّ"، على طريقة الموشحات، وبنغمة جبران في هذا الصدد يردِّد حاتم جوعية في قصيدته وعلى نفس منوال جبران قائلًا:
أعطني النايَ وغنِّ
كلما حلَّ الظلام
إنّ صوتَ الناي عذبٌ
عندما الكونُ ينامْ
فيهِ دفءٌ وعزاءٌ
لكئيبٍ مُسْتَهَامْ
مثل صوتِ العودِ حلوٌ
مثل عزفي في انسجامْ
ويضيف شاعرنا لاحقًا قوله:
أعطني النايَ وغنِّ
كلّما جاءَ النهارْ
أنّ صوتَ الناي عذبٌ
فيهِ يرتاحُ الكنارْ
وبصوت الناي دفءٌ
هو للروح انتصارْ
وبصوتِ الناي بوحٌ
ولمنْ يُكوى بنارْ
إنّ الشيخ هنا، كما نلاحظ، يمتاز بذات الرمزية التي طرحها جبران في قصيدته، فالشيخ أيضًا في قصيدة حاتم جوعية هو رمز للشاعر المتضجِّر من عالم الكثرة ومناقضاته وأضاليله، وهذا نستشعره في أبيات الشيخ (التي يشار اليها بالخط الصغير) في قصيدة جوعية:
إنّ البعيدَ عن الأوباشِ قاطبةً
وعندَ أهل الشرِّ منبوذٌ ومحتقرٌ
وصاحب الفكر.. أحلام مُجَنَّحةٌ
الفجرُ عمَّدَهُ والأنجمُ الزَهَرُ
هو البني برودُ النور تحضنهُ
بهِ البغاةُ وأهلُ الإفكِ كم سخروا
يبقى الغريبَ بكونٍ كلهُ دجَلٌ
لم يكترث هو لامَ الناسُ أم عذروا
والفتى، عند جوعية، كما هو عند جبران، رمز شاعرنا الحالم بعالم الوحدة الصوفي، الذي يرمز إليهِ بالغاب وهو العالم الذي تنسجم فيهِ المتناقضات وتذوق الفوارق:
إنَّ في الغاب ملاذا
.. وهدوءً وسكونْ
للذي يبغي خلاصًا
من صراعٍ وظنونْ
للذي يبغي سلامًا
من أذى دهرٍ خؤونْ
إنَّ في الغابِ انطلاقًا
لا قيودٌ أو سجونْ
وبهِ الأرواحُ تَسمو
فوقَ كونٍ من شجونْ
عالمُ الأرضِ ضياعٌ
واكتئابٌ ومنُونْ
ومما يسترعي الانتباه أنّه في قصيدة "المواكب" لحاتم جوعية تكثر، كما عند جبران، الأبيات الحكمية مثل:
إنَّ المَصالحَ هَمُّ الناسِ ما برحَتْ
والبعضُ منهمْ لفعلِ الخير يقتثرُ
إنَّ الحياةَ بهذي الأرضِ مرحلةٌ
وكلُّ ما جاءَنا قد خطّهُ القَدرُ
على الجبينِ يكونُ الحظُ مُرتسِمًا
ونحنُ في رحلةٍ والموتُ ينتظرُ
وكلُّ حيٍّ غدًا لا بُدَّ مرتحِلٌ
أيامُهُ سوفَ تمضي ينتهي العُمرُ
إنّ الشاعر حاتم جوعية يتخذ من قصيدة جبران نموذجًا حيًّا دراماتيكيًا للقصيدة الطويلة ذات النظرات الفلسفية في أهم شؤون الحياة البشرية كالخير والشرّ والحق والعدل والدين وما الى ذلك، وفي الأبيات التالية للشيخ في قصيدة جوعية، نلمس هذه المعاني والدلالات:
العُمرُ طال وكم خطبٍ تقارعُهُ
والظُلمُ مهما عتا لا بُدَّ ينحسرُ
إنّ الحياةَ بهذي الأرضِ مهزلةٌ
والجهبذُ الحرُّ طولَ الدهرِ يفتقرُ
فكلُّ لغزٍ ومهما طالَ طلسُمهُ
لا بُدَّ يُكشَفُ بين الناسِ ينتشرُ
تبدي الحياةُ لنا ما نحنُ نجهلهُ
يبدو لنا كلُّ ما قد كانَ يستترُ
والخيّرون بهذي الأرضِ ما فُتنوا
الحقُّ ديدنُهمْ والأنوارُ والطُهُرُ
وعاشقُ الروحِ فوقَ الشمسِ موطنُهُ
وعاشقُ الجسمِ تحتَ الأرضِ يندثرُ
وللشاعر حاتم جوعية رؤية تتماهى مع نظرة جبران للحريّة كما تتمظهر في قصيدة "المواكب" لجوعية، ويبدو أنَّ مفهوم الحرية عند جوعية يقوم على الفعل الذاتي النابع من يقين النفس ومن العصيان والتمرّد على المُسَلّمات التي يقتفي عليها المجتمع وعلى القيم المادية المظلمة التي توهم الإنسان بأنها تسعده وتنقذه. فإذا هي تتعسه وتهلكه.
الانتصار على المادة والثراء وتخيّر الفقر بالإرادة والفعل الروحي هي بدء طريق الحرية عند حاتم جوعية كما كانت هي عند جبران. وفي هذا السياق يقول جوعية في قصيدته على لسان الفتى:
أنا قربانٌ لحقٍّ
قد قطعتُ العمرَ ركضًا
واريجي فاحَ دومًا
يملأ الجَوّ وأرضَا
وحياتي لكفاحٍ
نابذًا حقدًا وبغضَا
ما رضيتُ الذلَّ يومًا
غيرُنا في الذّلِّ يرضى
غيرنا باع ضميرًا
وهو بالأقذارِ يحظى
كم أناسٍ ولجمعِ الْ
مالِ يزدادون خفضا
فهُمُ للأكلِ دومًا
وبجمعِ المالِ مَرضَى
قد خبرتُ الكونَ طفلًا إنّ عودي كان غضَّا
كم تجرَّعتُ المآسي ما أُلاقي كان فرضَا
وانطلاقي لسُمُوٍّ..
أشعِلُ الحُسَّادَ غيضَا
لستُ أدري ما مصيري
ومتى عُمري يُقضى
وهكذا فإنَّ "مواكب" حاتم جوعية كما كانت "مواكب" جبران تمثّل عند جوعية عهد العواطف والأحاسيس والتفجُّع والشكوى، وعهد الفلسفة والتأمل والنظر البعيد، ولقد جاءت ممثلة لهذا كل التمثيل، ففيها الكلام اللّين اللطيف الذي يدلي بهِ الفتى المليء بالشباب والحيوية. وفيها التفلسف والعمق الذي تمليه تجارب الشيخ وحكمته.
إنَّ مطوّلة حاتم جوعية الشعرية هذهِ، فيها دعوة كدعوة جبران في "مواكبه" الى العودة الى الحياة الفطرية البسيطة، والبُعد عن تعقيدات الحياة العصرية وزيفها، وكما أنَّ "مواكب" جبران تأخذ شكل محاورة بين الشيخ (ممثِّل المدينة) والفتى (ممثِّل الغاب)، فإنّ حاتم جوعية في "مواكبة" هنا ينحو المنحى نفسه الذي اخّتطه جبران، فالمدينة رمز الشرّ، والزيف، والصنعة، والغاب رمز الخير، والأصالة الفطرية، والعفوية والتجدد حيث بتماثل ويتماهى شاعرنا مع الغاب؛ ومن المهم التأكيد دائمًا أنّ المقاطع الأخيرة في القصيدة تنتهي بالدعوة الى الغناء، فهو عند شاعرنا، كما هو عند جبران، حلٌ لكل ما يعاني منه الإنسان، نتيجة لاشتباكه بتعقيدات المدينة والحياة، وقد سبق أن رأينا أنّ حاتم جوعية قد كتب قصيدته كجبران على شكل حوار فلسفي بصوتين:
يسخر أحدهما من القيم المصطنعة للحضارة، ويغنّي الآخر، الأكثر تفاؤلًا، أنشودةً للطبيعة ووحدة الوجود. وممّا يُشار إليه في القصيدة الطويلة هذهِ أنّها تمتاز بتعابيرها البسيطة والصافية والتلقائية. وهذا يظهر بوضوح في الأبيات التالية:
أعطني العودَ فإنّي
..بغنائي سأجُودْ
فيه أطيافُ التمنّي
كلُّ أنغامِ السُّعُودْ
إنَّ صوتَ العودِ يبقى
بعد أن يغفو الوجودْ
كلُّ مجهولٍ سيأتي
ما مضى ليسَ يعُودْ
ويستأنف الشاعر حاتم جوعية الغناء الشعري بروحٍ ونبرةٍ تفاؤلية:
كم جلست العصرَ وحدي
بعدَ كدٍّ وتَعَبْ
حوليَ الأطيارُ تشدو
بين جفناتِ العِنبْ
وعناقيدُ الدوالي
لونُها مثلُ الذهبْ
ناسيًا يومًا عصيبًا
كانَ همًا ووَصَبْ
عازفًا الحانَ روحي
طاويًا سفرَ الغضبْ
ومن هنا نرى أنَّ حاتم جوعية كجبران في كونهِ يجعل الموسيقى المثال الأعلى للفن في هذهِ القصيدة، ذاكَ أنّ الموسيقى هي الفن الذي يعبّر بالأنغام الموحية والحالّة في النفس وليس عبر الألفاظ والمعاني والأفكار الصادرة عن الوعي؛ والموسيقى هي الذروة لأنها تعبِّر فيما هي تعبِّر باللاوضوح.
وهكذا فإنَّ حاتم جوعية يسير في خطى جبران في قصيدة "المواكب" حيث يكون متخدًا من نفسه حالة تجعله شاعرًا رمزيًا يكون عند النظم في حالة من التآلف بين نفسِهِ وبين الكون عبر النغم الذي يعبِّر بالنشوة وليس بالوضوح.
فالنغم هنا هو معيار الروح بل إنّه هو وحده مظهرها وبابها. فإذا تحدثنا رمزيًا عن الموسيقى هنا فإنها ترمز الى الطبيعة في جانبها الإنتقالي ودائم التغيُّر؛ إنّها النسبي (the relative)، المطلق (the Absolute). وفيما يتعلق برمزية الناي والعود كآلات موسيقية فإنها تشير الى الهناءة، وبخاصةٍ السعادة العظيمة. ومن زاوية أخرى فإنّ الناي كآلة أنبوبية الشكل تمثّل رمزًا قضيبيًا (phallic symbol)، كما أن العود كالكثير من الآلات الموسيقية الوترية تمثّل الصورة أو الصيغة الأنثوية (female form). وفي الأبيات التالية من "مواكب" الشاعر حاتم جوعية نلمس في العديد من كلماتها وايحاءاتها حول الموسيقى والغناء، رمزية الموسيقى من جوانب عامّة أخرى، فالموسيقى في سياق ابيات القصيدة ترمز إلى النظام (order)، الانسجام والتوافق (harmony)؛ العامل أو العنصر المُجَدَدِّ أو المحيي أو الشافي (a general restorative)؛ الإيقاع النابع من الفوضى (harmony arising from chaos)؛ الروحاني المُعلَن عنه (the spritual made manifest):
أعطني النايَ وغنِّ
فالغنا يشجي الفصاحْ
إنّ صوتَ الناي يبقى
بعدَ أن تشفى الجراحْ
ننشدُ الأحلامَ دومًا
كلَّ ليلٍ وصباحْ
عمرنا يجري سريعًا
مثلما تجري الرياحْ
لم ن ُحققْ كلَّ حلمٍ
ليسَ منهُ من براحْ
عيشنا ما كان سهلًا
لم يكن شهدًا وراحْ
كانَ كدًّا مستمرًا
ونضالًا وكفاحْ
فانطلاقي لا انهاءٌ
في الفيافي والبطاحْ
ومساري مثل نجمٍ
طول دهرٍ ما استراحْ
ويتابع شاعرنا قائلًا:
أعطني النايَ وغنِّ
فالغنا يحي السلامْ
إنّ أشواقي تسامَتْ
إنّ روحي في اضطرامْ
وبصوتِ الناي صحوٌ منعهُ
كان حرامْ
إنّ صوتَ الناس يبقى
بعد أن يُمحى الكلام
إنّ الشاعر حاتم جوعية في قصيدته هذهِ كموقف جبران في "موكبه"، فهذا الموقف ينمّ عن توقهِ الى الغاب، عالم الوهم والفراغ الذي لا حبّ فيه ولا بُغض، لا شر ولا خير، وعن تبرمُّهِ بالواقع في جميع أشكاله وحالاتهِ، وكل من هذه المعاني تتآطر في المقطوعة الشعرية التي يتلفظ بها الفتى:
ليسَ في الغاباتِ عدلٌ قال جبران الحكيمْ
إنّ عدلَ الناسِ زيفٌ
ليس يرضاهُ الفهيم
إنّها الارزاءُ سادت
في دجى الليل البهيمْ
إنّ في الأرض شقاءً ..
وظلامًا وسديمْ
كلُّ حُرٍّ يتلظى
وأبيٍّ وكريمْ
إنما عدلُ إلهي
دائمًا حقٌّ قويمْ
في السماواتِ سلامٌ
وصراطٌ مستقيم
ويقابل حاتم جوعية هذا الكلام بكلام صادر عن الشيخ (المشار إليه بالخط الصغير) قائلًا:
في الأرضِ عدلٌ لهُ الشيطانُ مبتسمٌ
ابليسُ يعجزُ ما يأتي بهِ البشرُ
كم أمةٍ تحتَ نيرِ الظلمِ قابعة
والكونُ يصمتُ لا حسٌّ ولا خَبَرُ
فسارقُ الدارِ والأوطانِ مفتخرٌ
وسارقُ الخبزِ عند الكلِّ محتقرُ
وكلُّ ذي سطوةٍ الناسُ تتبعُهُ
أمَّا الضعيفُ فمنبوذٌ ومُنتَهرُ
الأرضُ أضحت جحيمًا كلُّها كدرٌ
الليلُ خيَّمَ.. نارُ الظلمِ تستعرُ
والناسُ مليونٌ وجهٍ بئسَ نهجُهُمُ
باعوا الضميرَ بخمرِ العَهرِ قد سكروا
خلاصة:
ممّا تقدم يمكننا القول بأنّ قصيدة "المواكب" التي نظمها الدكتور الشاعر حاتم جوعية معارضة على نمط قصيدة" المواكب" لجبران خليل جبران، ذات قيمة خاصة لأنّها في أسلوبها وموضوعها لون جديد من المطولات الشعرية ذات موضوع تأملي فلسفي في حجم هذه القصيدة، وقد تميّزت بأسلوبها الحواري الذي تكتسب به تنويعًا في الشكل كما في الجو والأفكار.
ولا يسعنا في الختام إلّا أن نقدّم خالص التحيات وكلمات الاطراء والثناء للدكتور الشاعر حاتم جوعية على هذا الابداع الشعري الرفيع المنبثق من شاعرية فريدة المستوى ذات غنى تعبيري حافل بروعة الأداء ومتانة العبارة المتَسِّمة برشاقة السياق البعيدة عن التعقيد الفني بحيث تألّقَ الشاعر بإعتمادهِ أسلوب التصريح في انفعالٍ ظاهر وانفجارٍ وجدانيٍّ مؤثر يترقرق في جو من الموسيقى يرتبط مع المعاني الإنسانية المتشعبة في هذه القصيدة الطويلة شكلًا ومضمونًا.
قراءة في قصيدة "المواكب "للشاعر الفلسطيني الدكتور حاتم جوعيه -
بقلم: الشاعرة والكاتبة حسيبة صنديد قنوني – تونس
رُبَّ كلمةٍ أوجملة أوصورة تقدحُ في الانسان قدحة تتأجَّجُ وراءها مشاعرهُ وتفيض أحاسيسا وأشعارا وأفكارا ورؤى عاطفية أو فلسفية...بيتان من الشعر من قصيدة "المواكب"للشاعراللبناني جبران خليل جبران أثرا في الشاعر حاتم جوعيه وجعلاهُ يسبح في سماءِ التأمل بالفكر والوجدان والابداع فأضاءها بنجومٍ متلألئةٍ في مواكب معارضة لمواكب جبران فاقت الخمس مائة بيتا فيها من الشعر أعذبهُ ومن الاحساس أرقَّهُ ومن الفكر أعمقه، اعتمدَ فيها الشكلَ الكلاسيكي وجاءت في مقاطع متعددة على بحريّ البسيط ومجزوء الرّمل، وبدا الشاعرُ فيها كفيلسوفٍ ينثرُ الحكمة ويُعَرِّي ما ظهر في الكونِ من رداءةٍ وما في الانسانِ من دناءةٍ داعيا الى الاصلاح والتفاؤل والسعادة والعلم والعدل والايمان والوطنية شأنه في ذلك شأن جبران الذي كتب قصيدته "مواكب" في 203 بيت، وكأنهما اختصرا سرَّ الحياةِ وَكُنهَها في هذه المواكب، فلماذا اختار جبران ومن بعده حاتم هذا العنوان لما جادت به القريحة من أشعار؟ ذلك لأنها تصورُ مواقفَ الناس في حياتهم الواقعية وفي نفوسهم التي تبحثُ عن الكمالِ وترفضُ المادة الزائفة وما مواكب الناس الا مواقفهم من الخير والشر والدين والظلم والعدل والعلم والجهل والسعادة والحب والوطن والطبيعة...وكلمةُ مواكب (مفرد موكب) تعني الاستعراض أوالمسيرة، الموكب من الناس الذين يسيرون مشيا على الاقدام أو في سيارات ومنها موكب العروس، موكب الرئيس، أو الجنازة...وقد وصفَ الشاعرُ في بعض المقاطع في قصيدهِ المواكب (الجموع البشرية) بالقطعان الذين يسيرون وراء الانسان القوي ويخطئون في اختيار الطريق الصحيح الذي يسعدهم، وينتهجون نهجَ المادياتِ الزائفة التي تؤدي بهم الى الضياع والعدم...
مضامين الرؤى في "مواكب" الشاعر حاتم جوعيه** ثنائية الروح والجسد***
إن ما لفت انتباه الشاعر حاتم في بيتي الشاعر جبران هو ثنائية الروح والجسد، والبقاء والفناء، والموت والخلود
فجمالُ الجسمِ يفنى // مثلما تفنى الزهورْ
وجمالُ النفسِ يبقى // زهرا مرَّ العُصورْ"
تأمَّلَ شاعرُنا في هذا القول وفكرَ في وجودِ الانسان ومتناقضاتِ الحياة، حركت فيه عواطفه وأفكاره فرجع الى قصيدةِ جبران يستلهم منها مواقفَ الناس...رأى أنَّ الحياة تمرُّ سريعا كحلم وعلى الانسان ان يعتبرَ من دروسِها وأن لا يعيش ذليلا جاهلا خانعا مُتَّبِعًا خطوات الأوغاد والزناديق كالبقر أوالقطعان وأن الربح في النهاية يكون لصاحب الاستقامة الذي ترفع عن الآثام وسار على السراط المستقيم...ينتقلُ الشاعرُ الى بحر مجزوء الرمل ويعبرُ عن الدنيا ومتناقضاتها ويقدم الانسان على أنه ضيف فيها زائل لا محالة ولا يبقى سوى شذا نفسه الطاهرة وروحه الخالدة، يقول:
إنَّما الأجسام تفنى // إنها مثلُ القشورْ
جوهر الروح خلود // ليس تفنيه الدهورْ
ثم يدعو الى الغاب عالم النقاء والصفاء والى الناي رمز
الغناء والفرح ويقول:..
أعطني الناي وغنِّ // كل صبح ومساءْ
انما العيش كحلم // ليس في الأرض بقاء
ومن الأرض ارتحالٌ // والى الخُلدِ ارتقاءْ
غنى النفس وغنى المال***
تحدَّثَ الشاعرُ عن غنى النفس ورأى أنَّ الغنيَّ ليس صاحب المال والجاه وانما هو الغني بالايمان والسعيد بالرضا والقناعة وفعل الخير فلا نفع للمال بعد الرحيل وعلى العاقل الحكيم أن يستمتع بشدوِ الناي العذب الذي يُوحي بالدفءِ والصبر والايمان والانتصار والراحة النفسية والسعادة الحقيقية...وبين عالمين مختلفين عالم الحياة والفناء وعالم الخلود والبقاء يهمس الشاعر...
إنَّ صوتَ الناي عذب // فيه يرتاح الكنارْ
وبصوتِ الناي دفءٌ // هو للروح انتصارْ
وأنا المكلومُ دوما // كم تجرَّعتُ الصعابا
إنَّ ايماني بربِّي // جعلَ الهمَّ سرابا
قيمةُ العلمِ للانسان..***
آمنَ شاعرُنا الدكتورحاتم جوعيه بقيمةِ العلم ورأى أن العلمَ له بداية وليس له نهاية سوى نهاية البشر، فالرسولُ محمد صلى الله عليه وسلم كان أفضل القراء والمعلمين أنزل الله عليه سورة "اقرأ" وأنزل عليه سورة "القلم" إعجازا وتعظيما لشأنه فأمر أمته بالعلم وقال (تعلموا من المهد الى اللحد)...كما وصف الشاعر بالنبي الذي يحضنهُ النور وَيُعَمِّدُهُ الفجر ثم يعرج الى الحديث عن الجهل ويبينُ لنا انَّ العصرَ هوعصر انحطاط يسودُ فيه الجاهلُ الرذيلُ ويُنبَذُ الشهم الجليل مستعملا ألفاظا جاشت بها نفسه لكثرة ما يراه من ظلم وتنكيل بالضعفاء في وطنهِ المنكوب الذي يُحبُّهُ ويخلصُ له ويرى أنَّ لا ولاء إلا له فيصفهُم بالأوغادِ والبهائم والزعانف والأراذل والعهر والبهم وكلاب العصر ومجمع الرجس..مقابل ذلك يصفُ العقلاءَ والأبطالَ بالشجاعةِ والعدل والشرف فيستعملُ عبارات ايجابية كالأسد، صوت الحق، الجهبذ الحر، وكأني به يحاول أن يهدم ذلك الأسى والرداءة ويدعو الناسَ الى العلم والنور والارتقاء...كيف لا والعلم هو السلاح الذي اعتمده الانسان لتأكيد ذاته، وعلى امتداد التاريخ البشري استُخدِمَ لمواجهةِ الظلم وتحقيق العدل، ويُؤكدُ التاريخُ أن العلماءَ والمثقفين والمبدعين والفلاسفة والأنبياء هم الذين قادوا التغييرَ وَمهَّدُوا للتطوراتِ الكبرى كما يقول أحدُ الشعراء: (العلم يبني بيوتا لا عماد لها // والجهلُ يهدمُ بيتَ العزِّ والكرمِ )، لذلك يتوجع شاعرُنا حاتم لحالةِ وطنٍ جريح لم ينبلج صبحُهُ فيكتب بحبر الروح ودم القصيدة:
الأسدُ نامت، كلابُ العصرِ قد نهَضتْ
ماتَ الضميرُ وصوتُ الحقِّ مُستترُ
الثائرون على الجلادِ قد رقدوا
الكلُّ يصمتُ لا ناهٍ ومزدجرُ
الحقُّ مُنتهَكٌ والمجدُ منتكسٌ
والوردُ يُحَرَقُ والأقمارُ تنتحرُ
ثم يقول:أعطني الناي وغنِّ // إنَّني صوتُ الضميرْ
كم بريء يتلظى // وأنا أحيا أسيرْ
التشبث بالأرض ***
ويتماهى الشاعرُ مع حُبِّهِ الشديد لأرضهِ وعرضهِ ويشتاقُ للضمائرِ الحيَّةِ والشمس المشرقةِ والوطن الحر ويتألمُ مما يراهُ من عمالةٍ وانحطاطٍ وصمتٍ وطمع دون أن ينسى التطبيعَ والمٌطبعين وهو لعمري ذلٌّ وهوانٌ وخنوع، يقبضُ الشاعرُ الحُرُّ حاتم على جمرة نار ويكتبُ أبياتا من الشعر تنبعُ من روحه الشفيفة فتدمي القلوب، كتبها لوطنهِ العزيز وشعبهِ الأبي، طامحا أن يعيش بسلام، محافظا على ميراثِ أجدادهِ، متمسكا بالمفتاح، معتزا بعروبته، ولا غرابة فحاتم جوعيه هو ابن المغار- الجليل، الأصيل الذي لن يبرحَها ما بقي في العمر حياة فيقول:
شاعر الأحرار أبقى // بين قومي كنبِي
وبشعري يتغنى // كل شهم وأبي
ان دربي من لهيب // منذ أن كنتُ صبي
أتغنى باعتزاز // أنا دومًا عربي
وكعادةِ الشاعر بنزعتهِ الرومانسية وحنينهِ الى الغاب
وشدوِ الناي أين السكينة والهدوء والأمل والخلود دون التفكير في الآلام والكآبةِ يدعو الى هذا العالم النقي واغتنام العيش الهنيء وَيُعبِّرُ بقوله..
أعطني الناي وغنِّ // وانسَ ما مرَّ وفاتْ
لا تقل أمسي كئيبٌ // فالذي قد غابَ ماتْ
فلتعش عيشا هنيئا // واغتنمْ ما هو آتْ
تذكرني هذه الأبيات بالفلسفةِ الوجودية لعمر الخيام في رباعياته اذ يقول..
سمعت صوتا هاتفا في السَّحرْ/نادى من الغيبِ غفاة البشرْ
هُبُّوا املؤوا كأسَ المنى قبل ان/ تملأ كأسَ العمر كفُّ القدرْ
لا تشغل البالَ بماضي الزمان / ولا بآتي العيشِ قبل الأوانْ
واغنم من الحاضر لذاتهِ // فليس في طبع الليالي الأمانْ
العدل والايمان ***
بين عالم مثالي سماوي وعالم واقعي حقيقي يظلُّ الشاعرُ يعيشُ لحظات السعادة والشقاء... يتألمُ من رداءة الوضع وصمتِ البشر وظلم الضعيف وتلون الوجوه وغياب العدل، ويرى كما رأى جبران أنَّ عدلَ الناسِ زيف وأن ظلم الطغاة قهر وأن الأرزاء ساءت والشقاء انتشر. وقد نراهُ مُحِقًّا في اعتباره العدل ابليسا يأتي به البشر أمام الظلم والغطرسة من الاحتلال الصهيوني لبلده من جهة، وأمام الصمت والخذلان من الأمة العربية من جهة أخرى، ثم يصل به الغضب الى انتقاد الساسة والسياسيين الذين باعوا ضمائرَهم فقال فيهم حسب وصفه: أنذال خساسة / عنوان النجاسة / أوغاد / عضاريط / زمن انحطاط، وفي الجملة كفاهُ قولا قوله المتكرر "عصر لكع وابن لكع "، كما انتقدَ الصحافيين ووصفهم بالعمالةِ والجهل والهبل والتبعية وصار التطاوس للفارغين والمهانة للصناديد..
"عصرُنا عصرُ انتكاس // عصرُ خزي وفجورْ
عصر لكع وابن لكع // فيه قد ساءَ المصيرْ
عصرنا عصرُ انحطاطٍ // ليس فيهِ من نصيرْ
فهل نقول: إن الشاعرَ قد بالغ في وصفِ الحال المتردي في بلده وشعبه وأمته ونحن نرى ما نرى من ظلم وقهر وقتلٍ واعتداء ودماء وتهجير، ونحن نسمعُ عويلَ الثكالى واليتامى والأرامل والشيوخ والأطفال، ونحن ندركُ ما للشعب الفلسطيني من صبر وصمود وتشبُّثٍ بالأرض ؟ إنه (ونحن معه ) يتضَّورُ جوعًا للنصرِ والحريةِ والعدالةِ والكرامة فتراهُ يسيلُ حبرهُ وكأنهُ النهرُ الهادرُ الذي لا يتوقفُ عن الجريان...ثم يعود الى الله فمنهُ العونُ والهدايةُ والآيات وكل الرجاء، والى الغابِ ففيه العدلُ والحق والفرح والغناء...هكذا نرى الإنسانَ المُؤمن كما نرى شاعرنا حاتم، عاشقا للحياة، منارة للناس، بفضل ما يسع قلبه من حب وغرام وما تجودُ به قريحتهُ من أشعار يتغنى بها كلُّ شهم وأصيل ومبدع، فالشعرُ عنده كما يرى نفسه فيه إعجاز وعمق وإبداع... الوطن
الوطن ***
إنَّ البُعدَ الوطني في قصيدةِ (المواكب) للدكتور حاتم جوعيه نابعٌ أولا من عشقهِ لوطنه وشعبهِ وأيضا هو وليدُ ظروفٍ سياسية واجتماعية واقتصادية مرَّ بها كما مرَّتْ بها أغلبُ الشعوب العربية فأفرز هذا الوضعُ جملة من الأدباءِ والشعراء والفنانين أبدعوا في وصفِ الأوضاع المتردية وَهَبُّوا الى استنهاضِ الهمم والمطالبة بالحرية والكرامةِ نذكرُ منهم محمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل وأبا القاسم الشابي وحاتم جوعيه الذين تغنوا بحبِّهم لوطنهم وناضلوا بأقلامهم والتزموا بقوميتهم ونددوا بالخائنِ المُحتلِّ بكلِّ جرأة وشجاعة
(أعطني النايَ وغن // إنَّني نبضُ الشعوبْ
والذي يسعى لحقٍّ // كان منسيًّا سليبْ )
مقاطع طويلة تنزُّ وطنية صادقة جادت بها قريحةُ الشاعر حاتم متخذا من عناصر الاثارةِ ما يُحركُ عواطفَ الناس ويحثهُم على التصدي للاحتلالِ الغاشم، يذكرنا موقفهِ هذا بالبيتِ الشهير لابي القاسم الشابي: اذا الشعبُ يوما أرادَ الحياة // فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدرْ، أو في قصيد آخر حين يقول:
أيها الشعبُ ليتني كنت حطابا
فأهوي على الجذوع بفأسي
ليت لي قوة العواصف يا شعبي
فألقي اليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير لكن
انت حي تقضي الحياة برمسِ
ويقول الدكتور حاتم في هذا المعنى بلوعةِ الشعب وصدقِ الوطنية:
إن قلبي لبلادي // إنَّهُ قولٌ حكيمْ
قالها قبلَ عقودٍ // شاعرٌ فذ عليمْ
قالها قبل نزوح // واغترابٍ وهمومْ
قبلَ تشريدٍ وحزن // وضياع وَوُجُوم //.
الطبيعة والرومنسية***
إن علاقة الأدب والشعر بالطبيعة علاقة قديمة، فالانسانُ منذ وجودهِ تفاعلَ مع الطبيعةِ واعتبرها مصدرَ إلهامٍ وأسرار...فقد تغنى جبران بجمالِ لبنان في قصيدة المواكب وتغنَّى بالطبيعةِ أيضا حاتم جوعيه في قصيدهِ المعارض لمواكب جبران وأبي القاسم الشابي في ديوانه "أغاني الحياة "..كما امتاز الشعرُ الجاهلي باستخدام الطبيعةِ في الشعر وانتقل الأمرُ من عصر الى عصر حيث ظهر جليًّا في العصر الأندلسي اين برزت الطبيعة عند شعراء ذاك الزمن لما تمتاز به هناك من جمال ساحر...
ظهرت صورةُ الطبيعة في قصيدة شاعرنا حاتم بنفس رومانسي، وهو مذهب يهيمُ به الشعراءُ من كل الجنسيات ويتخذون الطبيعة ملاذا ومدخلا للتغني بآلامهم وعواطفهم الجياشة وتكونُ عادة مرتبطة بمعاناة الشاعر الذي يعتبرها موطنَ المواقف الانسانية الراقية والمكان المقدس لإسعادهِ، والرومانسيةُ من أهمِّ المذاهب الأدبية لما تمتازُ به من افكار تحرُّرية وعاطفة جياشة وهذا ما نلاحظه في هذا القصيد، (والشقي الشقي من كان مثلي / في حساسيتي ورقة حسي) كما قال أبو القاسم الشابي... لقد أبدع وأطال الشاعر حاتم في بث لواعجهِ وعواطفهِ وأفكارهِ ومواقفهِ في قصيدهِ الذي فاق الخمس مائة بيت(500) وفي كل مقطع يعودُ الى الطبيعةِ (الغاب) يغذي النفسَ فيها بصوتِ الناي أو رنين العود ونشيد البلابل وصفاء الجو ويجعلها منفى يفرُّ اليها من واقع مؤلمٍ ليعيش في غربةٍ هادئة مع خلجاتِ الذات ورؤى الفكر وزخات القلم داعيا الناس الى تركِ الأوضاع السيئة والاستمتاع بالجمال أين يكمنُ سرُّ الوجود والخلود...يستعملُ الشاعرُ عبارات كثيرة لوصفِ الطبيعة (الصبح، المساء، النهار، الأصيل، الكنار، الورد، الطيور، الفراشات، النسيم، الزهور، الغيوم، الفل والياسمين و..و..) ويحيلها الى ارسال مع عناصرالنفس (القلب، الروح، الحب، الآمال، اللحن الجميل ).وقد تغنى بالطبيعة في أبياتٍ كثيرة نذكر منها ما يلي:
كم جلستُ العصرَ وحدي بين أفياءِ النخيلْ
واحمرارُ الأفقِ يبدو عندما يأتي الأصيلْ
أنشدُ الآمالَ ثم الحُبَّ واللحنَ الجميلْ
ونسيمٌ يتهادى ينعشُ القلبَ العليلْ
كرَّرَ الشاعرُ الجملة (أعطني العود وغنِّ) 7 مرات و(أعطني الناي وغن) 44 مرة معللا في كل مرة رأيه في الغناء بقوله (فالغناء ورد وماء // روح الوجود // دفء وظل // نبع السرور / سر البقاء // يحيي النفوس/ يذكي الشجن / يجلو الحزن..الخ ) وفي الجملة فصوت الناي عنده هو صوت الحق والخلود، هو صوت الله...
هذا وان بدا الشاعر حاتم متفائلا سعيدا بين أحضان الطبيعة في أغلب المقاطع فقد أظهر في أبيات أخرى مسحة من التشاؤم واليأس فهو قد مرَّ بظروف قاسية من حيث رداءة الوضع الاجتماعي والسياسي في وطنه فقاوم بالروح والقلم ما استطاع من نزف وألم..
صارَ دهري أرقما // وسقيت الألما
كلُّ ما حولي غدا // صامتا بل مبهما
حائر بل ضائع // بين أرض وسما
سائر، لست أدري // هل فقدتُ الحلما
كما استعملَ الشابي عبارات كثيرة ومتنوعة في وصف الطبيعة نختار منها هذا المقطع:
أقبلَ الصبحُ جميلا يملأ الأفق بَهاهْ
فتمطى الزهر والطير وأمواج المياهْ
قد أفاق العالمُ الحيُّ وغنى للحياهْ
فأفيقي يا خرافي واهرعي لي يا شياهْ
أما جبران فقد اكتفى في المقطع الأخير من قصيدته بوصف الطبيعة في بلدهِ لبنان ودعا الناسَ الى ترك المدينة وصخبها واللجوء الى الغاب والتمتع بجمال الطبيعة الخلاب...فيقول:
هل تخذتَ الغاب مثلي// منزلا دون القصورْ
وشربتَ الفجرَ خمرا // في كؤوس من أثيرْ
هل جلستَ العصرَ مثلي // بين جفناتِ العنب
والعناقيدُ تدلتْ // كثرياتِ الذهبْ
والأمثلة كثيرة في هذا الباب من الشعر العربي
الخاتمة ***
ان قصيدة مواكب للشاعر حاتم جوعيه تمثلُ حياة تتعانقُ فيها رعشاتُ الأحاسيسِ ونبضاتُ القلبِ ونتاج العقل، انها غزيرةٌ ومتدفقة كالسيلِ الجارف تحملُ إلينا عبق الذات المنصهرة في عوالم الدنيا ومواكب الناس... لذاك احتلَّ الشاعر للدكتور حاتم بهذه القصيدة الطويلة المعارضة لمواكب جبران خليل جبران مكانة مرموقة في تطورِ الشعر العربي وإحياءِ أسس الرومانسية منتهجا رؤية جديدة في الشعر، منفتحا على آفاق الأدب الرومانسي العالمي، مازجا بين الشعر الصوفي والشعر الفلسفي، مؤمنا بوظيفة الشعر المؤثر في المتلقي، وهو في رؤيته للحياةِ رافض لعالم الناس القذر وداع الى الرجوع لعالم الطبيعة الطاهرة النقية...
إنَّ معظمَ هذه المواكب تتَّسمُ بنزعةٍ انسانيةٍ مُستمدة من عالم الذات والطبيعة، فيها من رقةِ الاحساس وجمال الصورةِ ورونقِ الكلمة ما يُبهرُ، وفيها من الألوان والايقاع والمشاهد ما يُؤكدُ فنية القصيدة وابداع الشاعر...
أما اللغة فجاءت في غير تعقيد، مألوفافة، شفافة، واضحة، بعيدة عن التعتيم والرمزية المبهمة، التزم فيها الشاعر بنظام الشطرين وبوزن البسيط ومجزوء الرمل وبتنوع القافية وبأسلوب سلس انشائي حيث نجد فيه الأمر والنهي والاستفهام والنداء وتنوع الضمائر(ضمير المتكلم والمخاطب والغائب)
وفي الجملةِ نقول: إنَّ هذه المواكب هي كونٌ شعري تطيبُ السباحةُ في بحره الطامي ويحلو التحليقُ في أجوائهِ البهيجة، وهي تلك العواطف النبيلة التي حلقت بالشاعر الى سماءِ الحُبِّ والخير والعطاءِ ورفض الزيف والخنوع والخناء، فالشاعرُ وقفَ مُندِّدًا بالرداءةِ، مشددا على أن تعودَ الحريةُ والحبُّ والسلامُ الى العناصر والكائناتِ، وكانت النهاية في المقطع الأخيرعذب الكلام عن الخيرين الصابرين الصامدين المؤمنين الذين واكبهم الطهر وعمَّدهُم النورُ وناصرهُم اللهُ وزهتْ بهم الأرضُ...ويسعى الشاعرُ الدكتور حاتم جوعيه أن ينظم الى موكبهم كما يتمنى، زاهدا في ملذاتِ الدنيا، مباركا من الله، محروسا بعينه، محفوظا بنوره. وكفاهُ فخرا هذه الهمسة المضيئة من روحهِ النقية::
معدني الطهرُ سيبقى // أنا نورٌ وضياءْ
لستُ أرضَى الأرضَ دارُا // إن بيتي في السماءْ.
بقلم:الشاعرة والكاتبة التونسية حسيبة صنديد قنوني –
- المَوَاكب -
هذه القصيدة الطويلة هي معارضة لقصيدة جبران خليل جبران الشهيرة (المواكب) وعلى نفس النمط والأسلوب، وقد نظمت معظم أبيات القصيدة إرتجالا ).
لقد أعجبتُ كثيرًا بقصيدة " المواكب " للأديب والشاعر المهجري الكبير " جبران خليل جبران "، وخصوصا بهذين البيت من القصيدة، وهما:
(فجمالُ الجسم يفنى مثلما تفنى الزُّهُورْ
وجمالُ النفسِ يبقى زهرًا مَرَّ الدُّهُورْ)
فنظمتُ أنا هذه القصيدة الطويلة من الشعر معارضة لقصيدة جبران المشهورة، وتحمل نفس الإسم " المواكب ":
- شعر: الدكتور حاتم جوعيه - المغار – الجليل -
هذي الحياةُ كحلمٍ كلّها عِيَرُ إنَّ اللبيبَ بها مَن كانَ يَعتبرُ
كم عالم صارَ مَنبوذا وَمُكتئبًا والجاهلُ النّهمُ ثيابَ العلمِ يتّزرُ
وَمُعظمُ الناسِ كالقطعانِ سائرةٌ وراءَ وغدٍ وزنديق كما البقرُ
نراهُمُ مثلَ آلاتٍ تُحَرِّكُها أيدي البغاةِ.. غدًا لا بُدَّ تنكسرُ
مَنْ قد ترفَّعَ عن إثمٍ وعن عُهر أراهُ جَاورَ منْ حارَتْ بهِ الفكرُ
وكلُّ من كان صراط الرّبِّ دَيْدَنَهُ فإنَّهُ رابحٌ في السعيِ مُنتصِرُ
هذهِ دنيا الغُرُورْ مثلُ دولابٍ تدُورْ
لم يدُمْ فيها سرُورٌ وابتهاجٌ وَحُبُورْ
نحنُ فيهَا كضيُوفٍ لو سكنَّا في قصُورْ
إنّما الأجسامُ تفنى إنَّها مثلُ القشُورْ
وَجمالُ النفس يبقى.. وَشَذاهُ كالعطورْ
جوهرُ الرّوح خُلودٌ ليسَ تفنيهِ الدُّهُورْ
معدنُ الجسم تُرابٌ تسطعُ الرُوحُ بنورْ
وَحبيبُ الروح حَيٌّ في حياةٍ أو نُشُورْ
أعطِني النايَ وَغنِّ كلَّ صُبح وَمَساءْ
إنّما العيشُ كحُلم ليسَ في الأرضِ بَقاءْ
وإذا الأيّامُ جَارتْ... وابتلينا بالشَّقاءْ
لا نُجَدِّفْ بإلهٍ وبأحكام السَّماءْ
مثلُ أيوبٍ سنغدُو سوفَ نرضَى بالقضاءْ
كلُّ حيٍّ لزوالٍ ما على الأرضِ رجاءْ
ومن الأرضِ ارتحالٌ وإلى الخُلدِ ارتقاءْ
إنَّ الغنيَّ غنيُّ النفسِ ما كذبُوا يحيا الحياةَ سعيدًا.. حُلمُهُ نضِرُ
وكم غنيٍّ يعيشُ العُمرَ مُكتئِبًا لا الجَاهُ يُسعدُهُ والمالُ والدُّرَرُ
وآخذُ الشيءِ لا يُعطيهِ قد صدقُوا أمَّا الغنيُّ بنفس جُودُهُ مطرُ
إنَّ السَّعادةَ بالإيمانِ مُترعة وَنفحة الرَّبِّ تُحيي كلَّ مَنْ قُبِرُوا
إنَّ الحكيمَ لفعلِ الخيرِ مُدَّخِرٌ أمَّا الجهُولُ فللاموالِ يدَّخِرُ
ويومَ يقضي فلا الاموالُ تنفعُهُ نارُ الجحيمِ لِمَنْ في الإثمِ قد عبَرُوا
أعطني النَّايَ وغنِّ كلّما حَلَّ الظلامْ
إنَّ صوتَ الناي عَذبٌ عندما الكونُ ينامْ
فيهِ دِفءٌ وَعزاءٌ لكئيبٍ مُستهَامْ
مثل صوتِ العودِ حلوٌ مثل عزفي في انسجَامْ
قد ملأتُ الكون عطرًا ثمَّ ألحانا عذابا
وأنا المكلومُ دومًا كم تجرَّعتُ المَصابا
وَرَشفتُ الكأسَ صَابًا ليسَ شهدًا وَرضَابا
وتحدَّيتُ المَآسي وَتجاوَزتُ الصّعابا
إنَّ إيماني بربِّي جعلَ الهمَّ سَرابا
أعطِني النايَ وَغنِّ كلّما جاءَ النَّهارٍ
إنَّ صوتَ النّاي عذبٌ فيهِ يرتاحُ الكنارْ
وبصوتِ النايِ دفءٌ هُوَ للروحِ انتصارْ
وبصوتِ النايِ بَوْحٌ ولِمَنْ يُكْوَى بنارْ
وأنينُ النَّايِ يبقى بعدَ أن تغفُو الديارْ
إنَّ البعيدَ عن الأوباشِ قاطبة وعندَ أهلِ الشّرِّ مَنبُوذ وَمُحتقرُ
وَصاحب الفكر..أحلام مُجَنَّحَة الفجرُ عمَّدَهُ والأنجمُ الزّهُرُ
هُوَ النبيُّ بُرودُ النورِ تحضِنهُ بهِ البغاةُ وأهلُ الإفكِ كمْ سَخرُوا
يبقى الغريبَ بكون كلهُ دجَلٌ لم يكترِث هُوَ لامَ الناسُ أم عذرُوا
هُوَ القويُّ بإيمانٍ يُوَاكبُهُ ولم يُبالِ إذا عنهُ الورى نفرُوا
أعطني النايَ وَغَنِّ إنَّني صَبٌّ عَليلْ
غنِّ ألحانَ خُلودي أيُّهَا الشَّادي الأصيلْ
نحنُ في عصرِ ضياع قتلوا اللحنَ الجميلْ
وَأدُوا وردَ جنان ثمَّ أثمارِ النخيلْ
نحنُ في عصرِ انحطاطٍ فيهِ قد سادَ الرَّذيلْ
كلُّ مأفون جبان... وخؤُون وَدَخيلْ
أصبحَ الشهمُ كئيبًا وَشريدًا وَضئيلْ
عصرُنا عصرُ انتكاس هل لهذا من بديلْ؟
إنَّ قلبي لبلادي لا لمسؤُولٍ ذليلْ
لا لحزبٍ أو زعيمٍ خائنٍ نذلٍ عميلْ
كم سياسيٍّ كقوَّا دٍ هو الشهمُ الجليلْ
تاجرَ الأوغادُ في آلا مِنا الدّهْرَ الطويلْ
إنَّ قلبي لبلادي لا لحزبٍ أو دليلْ
إنَّني أفدِي بلادي ماؤُها لي سَلسَبيلْ
في مجمع الرِّجسِ والأوغادِ قد رَتعَتْ
كلُّ الزَّعانفِ..كم أرْغُوا وكم نخَرُوا
مثلُ البَهائم مهما كان مركزهُمْ
طولَ السّنينِ دروبَ العُهر قد عبَرُوا
الأسدُ نامَتْ كلابُ العصر قد نهَضَتْ
ماتَ الضَّميرُ وَصَوْتُ الحقِّ مُستترُ
قد وَظّفُوا كلَّ مَعْتُوهٍ وَمُذدَنبٍ
والجهبذ الحُرُّ مَنبُوذٌ وَمُنبَهِرُ
الثّائرونَ على الجلادِ قد رقدُوا
الكلُّ يصمتُ لا ناهٍ وَمُزْدَجِرُ
الحقُّ مُنتهَكٌ والمَجدُ مُنتكِسٌ
الوردُ يُحْرَقُ والأقمارُ تنتحرُ
كلُّ الأراذلِ في لهو وفي مَرَح
العصرُ عصرُهمُ.. أهلُ الخنا كُثُرُ
الإمَّعاتُ هُمُ الأسيادُ في زمَن ٍ
الحقُّ يُصلبُ والأوباءُ تنتشرُ
إنَّ المواخيرَ في عصرِ الخَنا ازدَهرتْ
رُوَّادُهَا البُهْمُ والأدوارُ تنتظرُ
(إنَّ قلبي لبلادي لا لحزبٍ أو زعيمْ )
إنَّ قلبي لبلادي إنَّهُ قولٌ حكيمْ
قالها قبلَ عقودٍ شاعرٌ فذ عليمْ
قالها (طوقانُ ) يدري حالَ أوطاني الأليمْ
والذي كانَ سيجري وَمِنَ الخطبِ العظيمْ
قالهَا قبلَ نزوحٍ واغترابٍ وَهُمومْ
قبلَ تشريدٍ وَحُزن وَضياع وَوُجومْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ إنَّني نبضُ الشُّعُوب
والتي تسعَى لحَقٍّ كان مَنسيًّا سليبْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ إنَّني صوتُ الضَّميرْ
كمْ بريىءٍ يتلظّى وأنا أحيا أسيرْ
كم عميلٍ وهبيلٍ ناقدٍ... أضحَى يصُولْ
كانَ شُعرُورًا قميئًا كلُّ مسعاهُ هزيلْ
كانَ مَنبوذا طنيبًا وجبانًا وذليلْ
خدمَ الأعداءَ رَدْحًا أصبحَ الفذ المَهُولْ
وَظّفُوهُ لانحطاطٍ ينشرُ الفكرَ المَحيلْ
وَظّفُوهُ لدَمار عكّرَ الجوَّ الجميلْ
هُوَ للطبيع يبقى لمثالا ودليلْ
إنَّمَا التطبيعُ ذلٌّ وَهَوانٌ لا مَثيلْ
كُلُّ مَنْ يُعطى مِنَ التّطبي ع تكريمًا أقولْ:
إنَّهُ ساءَ صنيعًا إنَّهُ ضَلَّ السَّبيلْ
إنَّ شعري وَفُنوني لبلادي ثمَّ شعبي
إنَّني أفدِي بلادي هي في روحي وَقلبي
هيَ في الوجدانِ تبقى وَبعينيَّ وَهُدبي
لم أخُنْ ميراثَ أجدادي لمْ أبعْ أهلي وَصَحبي
شاعرُ الأحرارِ أبقى بينَ قومي كَنَبِي
وَبشعري يتغنَّى كلُّ شَهم وَأبي
إنَّ دربي من لهيبٍ مُنذ أن كنتُ صبي
أتغنَّى باعتزاز أنا دومًا عَربي
أعطني النَّايَ وَغنّ فالغنا كلُّ الأملْ
إنَّ صوتَ الناي يبقى بعدَ أن تغفُو المُقلْ
أعطني النَّايَ وَغنّ فالغنا يُذكي الشَّجَنْ
إنّ صوتَ النَّاي يبقى بعدَ أن يمضي الزَّمنْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ إنَّني نبضُ الشُّعُوب
والتي تسعَى لحَقٍّ كان مَنسيًّا سليبْ
إنَّ صحرائي انبثاقٌ تهتدي فيها القبائلْ
هيَ فجرٌ وانطلاقٌ.. وَمسارٌ للقوافلْ
وبها النخلاتُ تسمُو وَكم ارتاحَتْ رَوَاحِلْ
وبها النَّسماتُ تصفُو والعصافيرُ تُغازِلْ
وَسُهيلٌ ضاءَ دومًا في لياليهَا الطوائِلْ
لم تُكدِّرْهَا صراعا تٌ وأشباحٌ غوائِلْ
هيَ دفءٌ وَملاذ رَتعَتْ فيهَا الاصائِلْ
هيَ حُبٌّ وسلامٌ هيَ شدوٌ للبلابلْ
أعطنِي النَّايَ وغنِّ وأنْسَ ما مَرَّ وفاتْ
لا تقُلْ: أمسي كئيبٌ فالذي قد غابَ ماتْ
فلتعِشْ عيشًا هنيئًا واغتنِمْ ما هُوَ آتْ
عاهرٌ ذاكَ الذي يَخْ طو ويجري في السّياسَهْ
قالهَا فذ حكيمٌ ولكمْ عانى ابتئاسَهْ
إنَّما السَّاسة دومًا هُمُ أنذالٌ خساسَهْ
إنَّهُمْ رمزُ انحِطاطٍ هُمُ عُنوانُ النَّجاسَهْ
والذي صَارَ زعيمًا ولهُ كلُّ الرّئاسَهْ
محورَ الأكوانِ أضحَى إنَّنا عُفنا انتكاسَهْ
وَهُراءً منهُ دومًا ونرى دومًا نُعاسَهْ
حَذِرٌ في كلِّ أمر وَنرى نحنُ احتراسَهْ
هوُ طنجيرٌ غبيٌّ ما تحلَّى بالفراسَهْ
بيدِ الأوغادِ طفلٌ مثلُ كلبٍ للحراسَهْ
كم سياسيٍّ وَضيع عندنا باع الضَّميرْ
محورَ الأكوانِ أضحَى قالهَا النذلُ الحقيرْ
خلفهُ الاوباشُ تجري مع حُثالاتِ الحميرْ
والعضاريط صُنوجٌ بهُتافٍ وَصَفيرْ
عصرُ لكع وابنِ لكْع فيهِ قد ساءَ المَصيرْ
عصرُنا عصرُ انحطاطٍ ليسَ فيهِ من نصيرْ
كم هبيلٍ صَحفيٍّ صيتُهُ صارَ شهيرْ
إنَّهُ نذلٌ عَميلٌ ومعِ الخزيِ يسيرْ
هُوَ لا يعرفُ حرفَ الْ لام من قافٍ تدُورْ
هُوَ لا يفهمُ ما المَكْ تُوبَ في كلِّ السطور
وَظفُوهُ... جَعَلوهُ الْ كاتبَ الفذ الخطيرْ
ينشرُ الإفكَ وَخزيًا وَهُراءً... كلَّ زورْ
يخدمُ الأوغادَ والأضْ دادَ... كالجَرْوِ الصَّغيرْ
بيدِ الأوباشِ أضحَتْ كلُّهَا تجري الامورْ
إمَّعَاتُ العصرِ سَادَتْ أمرُنا أضحَى عسيرْ
كلُّ رعديدٍ جبان صارَ مقدامًا جَسُورْ
ينفث الرِّيشَ كطاوو س.. كما الثّور يَمُورْ
والصَّناديدُ نيامٌ كلُّ رِئبال هَصُورْ
وَضعُنا قد يُضحكُ الثكلى.. وَمَنْ هُمْ في القبُورْ
عصرنا عصرُ انتكاس عصرُ خزي وَفجُورْ
عصرُ لكع وابن لكع قد دنا يوم النّشورْ
ليسَ في الغاباتِ عدلٌ قالَ جبرانُ الحكيمْ
إنَّ عدلَ الناسِ زيفٌ ليسَ يرضاهُ الفهيمْ
إنّها الأرزاءُ سادتْ في دُجى الليلِ البهيمْ
إنَّ في الأرضِ شقاءٌ... وظلامٌ وَسَديمْ
كلُّ حُرٍّ يَتلظّى وَأبيٍّ وَكريمْ
إنَّما عدلُ إلهي دائمًا حَقٌّ قويمْ
في السَّماواتِ سلامٌ وصراط مُستقيمْ
في الأرضِ عدلٌ لهُ الشّيطانُ مُبتسمٌ إبليسُ يعجزُ ما يأتي بهِ البشَرُ
كم أمَّةٍ تحتَ نيرِ الظلم قابعة والكونُ يصمتُ لا حِسٌّ ولا خبَرُ
فسارقُ الدّار والأوطانِ مُفتخرٌ وسارقُ الخبز عندَ الكلِّ مُحتقرُ
وكلُّ ذي سطوةٍ الناسُ تتبعُهُ أمَّا الضَّعيفُ فمَنبوذ وَمُنتَهَرُ
الأرضُ أضحَتْ جحيمًا كلّها كدرٌ الليلُ خيَّمَ... نارُ الظلمِ تستعرُ
والناسُ مليونُ وجهٍ بئسَ نهجُهُمُ باعُوا الضَّميرَ بخمرِ العُهر ِقد سكرُوا
ليسَ في الغاباتِ عدلٌ لا ولا فيها المُدَامْ
إنَ كُنهَ الغابِ يبقى طلسَمًا أعَيا الأنامْ
كمْ رجالٍ كشمُوس أصبحُوا اليومَ نيامْ
وَبُدُور أطفأتهَا طغمُ الغدرِ لئامْ
حُكّمَتْ فينا ذئابٌ... وَمُسُوخٌ وَهَوَامْ
عصرُنا عصرُ انحِطاطٍ فعلى الدُّنيا السّلامْ
أعطني النّايَ وَغنِّ فالغنا وَردٌ وَماءْ
إنَّ صوتَ النَّاي يبقى رغمَ أنهارِ الدّماءْ
لمْ نُسلّمْ لمَصير وَمصابٍ وشقاءْ
ولنا باللهِ عَونٌ إنَّهُ كلُّ الرَّجاءْ
الكذبُ صارَ شعارَ الناسِ في زمنٍ ماتَ الضّميرُ وفيهِ الحقُّ ينحصرُ
الرّجسُ قدعمَّ أهلَ الأرض قاطبة الزهرُ يبكي ودمعُ الطهرِ ينهمرُ
كم من دَعيٍّ ومأفونٍ هنا نتن أضحى تقيًّا بثوبِ الدين يَتَّزرُ
فوقَ المنابر كم طالتْ لهُ خطبٌ والموبقاتُ جميعًا خاضها القذرُ
يصطادُ في الماءِ ضحلا كان أو كدرا مصيرُهُ في غدٍ نارُ اللظى سَقرُ
ليسَ في الغاباتِ حَقٌّ لا ولا فيها الصَّفاءْ
إنَّ صوتَ الظلمِ يعلوُ واختفى ذاكَ الضياءْ
وَحُشودُ الشَّرِّ تعدُوْ هيَ تمشي الخُيلاءْ
لم يُحَجِّمْها نظامْ لا ولا حُكمُ السَّماءْ
لمْ يَعُد في الغابِ عدلٌ لا ولا فيهِ الرَّجاءْ
لم يعُدْ فيه جمالٌ هو مَهدٌ للشَّقاءْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ قبلَ أن تخبُو النجومْ
كلُّ سرٍّ سوفَ يبدو بعدَ أن تجلو الغيومْ
أعطنِي النَّايَ وَغنِّ قبلَ أن يغفُو الزَّمانْ
إنَّ هذا الكونَ وَهمٌ ليسَ في الدُّنيا أمَانْ
لم يدُمْ فيها سرورٌ.. يتلاشى العُنفوانْ
ويموتُ الزَّهرُ والفلُّ وَسحرُ البيلسَانْ
لا تقُلْ أصلي وفصلي إنَّ لي جَاهٌ وَشانْ
كلُّ حَيٍّ لتُرابٍ مثلما في البِدءِ كانْ
أبناءُ آدمَ ما كلّوا وما وَهَنُوا الظلمُ فيهمْ مدى الأيام مُنتشرُ
تفّاحةٌ هيَ قد ساقتْ مَصيرَهُمُ فعلُ الخطيئةِ مَورُوث وَمُعتمَرُ
اللهُ أعطاهُمُ الآياتِ ساطعة كلَّ الدروسِ لكي يصحُو ويعتبرُوا
لكنّما الشرُّ فيهم دائمًا أبدًا الأرضُ تنزفُ والأزهارُ تنتحرُ
هذي البسيطةُ مُذ كانت وَمُذ وُجِدَتْ فالكلُّ فيها لفعلِ الشَّرِّ يبتدرُ
الكونُ نامَ حشودُ الظلمِ صائلة طولَ الدُّهُورِ ونارُ البغي تستعرُ
أعطني النايَ وَغنِّ فالغنا نارٌ ونورْ
إنَّ صوتَ النايِ يبقى بعد أن تفنى الدُّهورْ
لم نُخلَّدْ فوقَ أرضٍ فعليهَا الكلُّ فانْ
عُمرُنا يمضي سريعًا يتلاشَى كالدُّخانْ
نحنُ كم نبكي عليهِ بعدَ أن مَرَّ الزَّمانْ
عيشُنا مَدٌّ وجزرٌ هكذا كُنَّا وكانْ
كم شبابٍ كشُمُوس مثلُ أزهارِ الجنانْ
قطفَ الموتُ شذاهَا قبلَ أنْ يأتي الأوانْ
أعطِني النايَ وَغنِّ إنَّني نسرٌ جريحْ
كم خُطوبٍ داهمَتنِي وأعاصير وَريحْ
فغدًا تُطفأ شمسي إنَّني أغدُو طريحْ
وَغدًا يُحفرُ رَمْسِي من عذابٍ أستريحْ
فأنا قربانُ حقٍّ مثلما كانَ المَسيحْ
أعطني النايَ وَغنِّ إنَّني لحنُ السَّلامْ
سأغنِّي لودادٍ وَلِحبٍّ وَوئامْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ إنَّني نَبْضُ الوَطنْ
فهَوَاهُ خالدٌ... يَبْ قى على مَرِّ الزَّمَنْ
سأغنِّي حُبَّهُ المَنْ شُودَ حتَّى في الكفنْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ فالغنا نبضُ الحياةْ
إنَّ صوتَ النَّايِ يبقى بعدَ أن يأتي السُّباتْ
كم جلستُ العصرَ وَحدي بينَ أفياءِ النَّخيلْ
واحمرارُ الأفقِ يبدُو عندما يأتي الأصيلْ
أنشدُ الآمالَ... ثمَّ الحُبَّ واللحنَ الجميلْ
ونسيمٌ يتهادَى يُنعشُ القلبَ العليلْ
وَطيورُ الرّوضِ تشدُو تُطربُ الصَّبَّ النَّحيلْ
ولقد طالتْ صلاتي... ولمَسْعَايَ النّبيلْ
لمسةُ الرَّبِّ عَليَّ لِيَ قد ضاءَ السَّبيلْ
وَإلهي لي نصيرٌ في دجى الدَّربِ الطويلْ
دربي طويلٌ وآمالي مُضَمَّخةٌ بالعطرِ والنُّور.. بالإيمانِ أنتصرُ
وَحيث سرتُ ملاكُ الرَّبِّ يحرسُني النّورُ حولي ووردُ الطّهرِ ينتثرُ
أنا الوداعةُ في حزن وفي فرح مَسعايَ حقٌّ. دُروب الخيرِ أقتصرُ
وفاقدُ الحِلم فالشّدَّاتُ تقتلهُ لا يُرهبُ المُؤمنَ الأهوالُ والخطرُ
الأرضُ تنزفُ مُذ كانتْ وما برحَتْ فيهَا الشَّقاءُ ونارُ البغضِ تستعرُ
مَنْ يجعلِ اللهَ نبراسًا لهُ سندًا مَآلهُ سيكونُ النّصرُ والضَّفرُ
أعطني النَّايَ وَغنِّ أيُّها الشَّادي الوَديعْ
في الغنا كلُّ عزاءٍ وَلمَنْ أضحَى صريعْ
لِمُحِبٍّ يتلظَّى نارُهُ بينَ الضلوع
ليلهُ حُزنٌ وَهمٌّ نازفٌ فيضَ الدُّموعْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ إنَّني أحْيَا الغرامْ
صرتُ في الحُبِّ مثالا وَمنارًا للأنامْ
إنَّ روحي تتلظّى إنَّ قلبي في اضطرامْ
إنَّني مُضْنًى نحيلٌ أنا صَبٌّ مُستهَامْ
أنا مجنونٌ بليلى وَهْيَ مثلي لا تنامْ
هل سيشفينا غناءٌ وكؤُوسٌ من مُدَامْ ؟
إنّني قيثارةُ الأحْ لام واللحنِ الجميلْ
معدني نورٌ وَطهرٌ إنَّ نبعي سَلسبيلْ
إنَّ فنِّي خالدٌ يَبْ قى وَمِنْ جيلٍ لجيلْ
وَبشعري يتغنَّى كلُّ شهم وأصيلْ
وَبشعري يتسامى الْ فخرُ والمجدُ الأثيلْ
فيهِ إعجازٌ وَعُمقٌ فاقَ إبداع الفحولْ
لا لصحراء وَنوق وَرُسوم وَطلولْ
يُنعشُ الأنسامَ والأشْ واقَ والوَردَ الخضيلْ
يسكرُ الكونُ على إيقاعهِ العذبِ الجميلْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ في الغنا سحرُ الجمَالْ
إنَّ صوتَ النَّاي يبقى بعدَ أن تغفُو الرِّمال
لا تقُلِ: ذاكَ وهذا لا تسَلْ عنْ قيلٍ وقالْ
عُمرُنا يمضي كحلم فاغْتَنِمْ طيبَ الوِصَالْ
إنَّ الجمالَ بهِ الأفذاذ قد فُتِنوا وكم تسامَتْ بإبداع لهُمْ صُوَرُ
إنَّ الجمالَ جمالُ الرّوح قد صدقُوا يمضي الزّمانُ فلا شيبٌ ولا كبَرُ
ويعشقُ الوردَ ذو شمٍّ وَذو بصَر وليسَ مَنْ لا لهُ شمٌّ ولا بَصَرُ
الوردُ يُنعشُ إرواحًا مُعَذّبة يَسبي قلوبَ الوَرَى إذ ما هُمُ نظرُوا
وفاقدُ الذوقِ والإحساس لا أملٌ منهُ.. ولا يُرتجَى خصبٌ ولا ثمَرُ
وَمَنْ لا يجودُ بما تسخو الحياةُ لهُ فإنّهُ الكفرُ والإفلاس والضّرَرُ
وباذلُ النّفس من أجلِ الحبيبِ غدَا مثلَ النّبيِّ ولا يثنيهِ مُزدَجِرُ
لهُ القضيَّة قد شَعَّتْ عدالتُهَا وكانَ بالرَّبِّ.. بالإيمانِ مُصطبَرُ
الرّوحُ تبقى مدى الأجيال خالدةً والجسمُ تحتَ ترابِ الموتِ يستترُ
وَعاشقُ الجسم لا خُلدٌ ولا نِعَمٌ وعاشقُ الرّوحِ مَنْ يُقضَى لهُ الوطرُ
كنتُ أحيا مثلَ ملكٍ وبأحلامي أطيرْ
كنتُ في عيشي هنيئًا وأنا طفلٌ صغيرْ
كنتُ في لهو ولعبٍ في ابتهاجٍ وَسُرُورْ
كالفراشاتِ تهادَتْ بينَ أفواجِ الزُّهُورْ
كظباءِ البَرِّ أعدُو لستُ أدري ما الشُّرُورْ
كلُّ يومٍ ليَ عيدٌ كلُّ أجوائي عُطُورْ
كانَ كوني في سلام لستُ أدري ما الشُّرورْ
إنَّما الدَّهرُ خؤُونٌ قاهرٌ فينا الغُرُورْ
هُوَ لا يبقى بحالٍ وعلى الحُرِّ يَجُورْ
لمْ يثقْ فيهِ حكيمٌ كانَ في الدُّنيا خبيرْ
إنَّني اليومَ أعاني عالمي أضحَى مريرْ
طالَ في الليلِ سُهَادي لم أنَمْ فيهِ قريرْ
عوسَجٌ أضحَى وسادي بعدَ أن كانَ حريرْ
أقطعُ الايَّامَ كدًّا واللظى حولي تَمُورْ
والرَّزايا في طريقي كيفما سرتُ تسيرْ
كلُّ آمالٍ تلاشَتْ وغدَا القلبُ كسيرْ
أنا أحيا في زمان فيهِ قد ماتَ الضَّميرْ
أصبحَ الحُرُّ كئيبًا ليسَ يدري ما المَصيرْ
في انزِواءٍ وَشُرُودٍ صامتًا مثلَ القبُورْ
فظلامُ الليلِ يطغى عالمٌ أمسى ضريرْ
أعطني النايَ وَغنِّ أيُّهَا الشَّادي الفصيحْ
مُذ دُهُور كم أعاني مثلما الطير الجريحْ
في لظى الأهوالِ أمشي ابدًا لا أستريحْ
في سبيلِ الحقّ أمضِي إنَّ مَسْعَايَ صَحيحْ
حاملٌ صُلبانَ شعبي وَجراحاتٍ تصيحْ
حاملٌ تاريخِ مأسا تي وآلامَ المَسيحْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ إنَّني ذقتُ العذابْ
إنَّ في صمتي نزيفا إنَّ في روحي اكتِئابْ
أعطني النايَ وَغنِّ فالغنا روحُ الوجودْ
إنَّ صوتَ النايِ يسمُو كلَّما طالَ السُّجودْ
أعطني النّايَ وَغنِّ أيُّهَا الشَّادي الجميلْ
إنَّ في الشَّدوِ عزاءً للذي باتَ قتيلْ
كم فرشتُ الأرضَ عطرًا واستنارتْ بي الفصُولْ
وجعلتُ القفرَ خصبًا وصنعتُ المُستَحيلْ
سوفَ آتيكَ انتصارًا طالعًا من كلِّ جيلْ
أقهرُ الموتَ وأبقى مثلَ صُوَّانِ الجليلْ
فمَخاضُ البرقِ يأتي قبل أن تُروى الحقول
أعطني النَّايَ وَغنِّ فالغنا دِفءٌ وَظِلُّ
كلُّ خطبٍ يتلاشَى كلُّ هَمٍّ يَضْمَحلُّ
أعطني النَّايَ وَغنِّي فالغنا يُحيي النّفوسْ
إنَّ صوتَ النَّاي يحلو بعدَ أن نجلو الكؤُوسْ
بعدَ أنْ تسمُو صلاةٌ هيَ ليستْ كالطقوسْ
...................................
يشتاقُ نيسانَ أهلُ الأرضِ قاطبة وَمنبعُ الشوقِ يبقى زهرُهُ العطرُ
إنَّ المصالحَ هَمُّ الناس ما برحَتْ والبعضُ منهمْ لفعلِ الخيرِ يقتترُ
إنَّ الحياةَ بهذي الأرضِ مرحلة وكلُّ ما جاءَنا قد خطهُ القدَرُ
على الجبينِ يكونُ الحَظ مُرْتَسِمًا ونحنُ في رحلةٍ والموتُ ينتظرُ
وكلُّ حيٍّ غدًا لا بُدَّ مُرتحلٌ أيَّامُهُ سوف تمضي ينتهي العُمُرُ
إنَّ في الغابِ ملاذا.. وَهُدوءً وَسُكونْ
للذي يبغي خلاصًا من صراع وَظنُونْ
للذي يبغي سلامًا من أذى دهر خَؤُونْ
إنَّ في الغاب انطلاقًا لا قيودٌ أو سُجونْ
وَبهِ الأرواحُ تسمُو فوقَ كون من شُجونْ
عالمُ الأرضِ ضياعٌ واكتئابٌ وَمَنُونْ
أعطني النّايَ وَغنِّ فالغنا يشفي الحزينْ
إنَّ صوتَ النّاي يُحيي كلَّ مكلوم طعينْ
كم زهور أدرجَتْ تحتَ أحضانِ الثّرى
ونجوم أطفِئَتْ هيَ ما عادَتْ تُرَى
بعد أن كانتْ منارًا وضياءً للوَرى
لا تسَلْ عَمَّا سيأتي لا تقُلْ ماذا جرى
إنطلقنا في شُموخٍ وَرجعنا القهقرَى
أعطني النَّايَ وَغنِّ فالغنا يُذكي الشَّجَنْ
إنَّ صوتَ النَّاي يبقى بعدَ أن تجلو المِحَنْ
إحمليني يا جراحْ فوقَ أجفانِ النّجومْ
عَلَّ ألقى راحة من لظى خَطبٍ أليمْ
فحياتي أثقِلتْ بالمآسي والهُمومْ
أنا أحيا تائهًا بينَ نار وَسَديمْ
مثل نسر نازفٍ رغمَ آلامٍ يحُومْ
يتلظى في الفضا بينَ طيّاتِ الغيومْ
لم يعُدْ صوتي صُدا حًا.. شفاءً للكلومْ
إنَّ صوتي لنُوا حٌ وَحُزنٌ وَغمومْ
إنَّني لحنٌ كئي بٌ يتهادى في وُجُوم
عَوْسَجًا كانت طَري قي وَقتادًا وَرُجُومْ
لم أجدْ لي مخرجًا من أذى دهر غشُومْ
أعطني النايَ وَغنِّ إنَّني صرتُ المِثالْ
في عذابٍ وشقاءٍ وَهُموم واعتلالْ
إنَّني مثلُ ملاكٍ وَبخلق وامتثالْ
أنا إنسانٌ تقيٌّ لم أصلْ حدَّ الكمال
أعطني النَّايَ وَغنِّ في انتشَاءٍ وَدلالْ
إنَّ عزفي من نزيفي ليسَ في اللحنِ ابتذالْ
إنَّ صوتَ النَّاي عذبٌ فيهِ سحرٌ وَجمالْ
إنَّ صوتَ النَّايِ يبقى بعد أن تهوي الجبالْ
مثلُ أيُّوبٍ أنا في عذابٍ وَعَنا
زارعُ الوردِ هُنا والأسَى كانَ الجَنَى
سرتُ في دربِ اللظى وَعبرتُ المِحَنَا
رغمَ هَمِّي لم أزلْ في طريقي مؤمنا
قلمي كان المُنى ليسَ سيفًا وَقنا
أنا للسلمِ هُنا لستُ للشَّرِّ أنا
كم نثرتُ النُّورَ والْ فُلَّ ثمَّ السَّوسَنا
هذهِ الأرضُ طغَتْ لم تكُنْ لي مسكنا
منزلي حِضنُ السَّمَا.. وسيبقى المَوطِنَا
أعطني النَّايَ وَغنِّ فالغنا يجلو الصُّداعْ
أنا في الكون وحيدٌ إنَّني أحيا الضَّياعْ
إنَّني أحيا كئيبًا في شرُودٍ والتياعْ
لم أزل صوتَ الغلابى وترانيمَ الجياعْ
النَّاسُ تجري وراءَ المالِ في زمن الكلُّ فيهِ بوحلِ الإثم مُنغمرُ
الحقُّ ضاعَ فلا عدلٌ ولا قيمٌ الحُرُّ يُظلمُ والمأفونُ يأتمرُ
الأسدُ نامَتْ وأربابُ الخنا رَتعُوا كلُّ المواخيرِ بالأوباشِ تعتمِرُ
إنَّ العدالة وَهْمٌ لم تزلْ حُلمًا فوقَ البسيطةِ سادَ الظلمُ والضَّررُ
ماتَ الضّميرُ بكونٍ فاسق نهم والكلُّ يصمتُ لا رفضٌ ولا ضَجَرُ
صارَ دهري أرقما.. وَسُقيتُ الألمَا
كلُّ ما حولي غدَا صامتًا بل مُبهَمَا
وأرَى الدَّربَ طوي لا.. وكوني مُظلمَا
حائرٌ بل ضائعٌ بينَ أرضٍ وَسَمَا
سائرٌ.. لستُ أدري هل فقدتُ الحُلمَا
كانَ سعيي للعُلا كي أطالَ الأنجُما
كنتُ دومًا في شُمو خ أحاكي القشعَمَا
وَغدا ما أبتغي هِ بعيدًا مُعتِمَا
كلُّ شيىءٍ كَسَرا بٍ وَجَوِّي أضْرِمَا
كلُّ ما أبغيهِ وَهْ مٌ وَصَرحي حُطّمَا
بفمي قد أصبحَ الشَّهدُ مُرًّا علقمَا
إنَّ هذا الكونَ أضْ حَى ظلامًا وَعَمَى
وَغدَا الكلُّ بخُلْ ق فقيرًا مُعدَمَا
إنَّني نسرٌ جَري حٌ تهاوِى وارتمَى
ولهُ هيهاتَ يَلْ قى بأرضٍ بَلسَمَا
أعطني النَّايَ وَغنّ فالغنا يشفي القلوبْ
إنَّ صوتَ النّايَ يسمُو في شرُوق وَغرُوبْ
أعطني العودَ وَمنِّي تسمعُ اللحنَ الطّرُوبْ
إنَّ صوتَ العودِ يحلو بعدَ أن تبدُو الدّروبْ
كلُّ سرٍّ سوفَ يخبُو وسنجتازُ الخطوبْ
إنَّ صوتَ العودِ يبقى بعدَ أن ينضُو الشُّحُوبْ
أعطني النايَ وَغنِّ في سُموٍّ وافتخارْ
إنَّ صوتَ النَّاي عذبٌ في مساءٍ وَنهارْ
ينتشي الطيرُ وزهرُ ال روضِ ثمَّ الجلنارْ
إنَّ صوتَ الناي يبقى بعدَ أن يمضي القطارْ
يتهادى في سكون فوقَ أعباءِ الديارْ
.....................................................
أعطني العُودَ وَمنِّي تسمعُ الصَّوتَ الشّفيفْ
مِنْ غنائي الكونُ يغدُو كلُّ ما فيهِ لطيفْ
إنَّني رمزُ نقاءٍ إنَّني دومًا شريفْ
لم تُغيِّرني خطوبٌ في ربيع أو خريفْ
إنَّني رُغمَ جراحي في لظى النارِ أسيرْ
حاملٌ آمالَ شعبي ولهُ نعمَ النَّصيرْ
حاملٌ مشكاة نور عُنفواني كالنّسُورْ
ليَ عزمٌ يتحدَّى كلَّ أهوالِ الدُّهُورْ
لمْ تُنَكِّسْني المَآسي والرَّزايا والشُّرُورْ
كم تسلّقتُ الرَّوابي كلَّ قمَّاتِ الصُّخُورْ
لم يُقيِّدْني مكانٌ.. أو زمانٌ للنّذورْ
وتضَمَّخْتُ بطهر وَتعمَّدْتُ بنورْ
وَمَسَاري كانَ مَيْمُو نًا.. ولكم طالَ المسيرْ
أعطني النَّايَ وَغنِّ في الغنا نلقى العزاءْ
هُوَ سحرٌ وَدواءٌ هُوَ للرُّوح شفاءْ
العُمرُ طالَ وكم خطبٍ نُقارعُهُ والظلمُ مهما عتَا لا بُدَّ ينحسرُ
إنَّ الحياةَ بهذي الأرضِ مَهزلة والجَهْبَذُ الحُرُّ طولَ الدَّهرِ يفتقرُ
فكلُّ لغز وَمَهْمَا طالَ طلسمُهُ لا بُدَّ يُكشفُ بينَ الناسِ ينتشرُ
تُبدي الحياةُ لنا ما نحنُ نجهلهُ يبدُو لنا كلُّ ما قد كانَ يستترُ
والخيِّرُونَ بهذي الأرضِ ما فتئُوا الحقُّ ديدَنُهُمْ والأنوارُ والطُّهُرُ
وَعاشقُ الرّوحِ فوقَ الشَّمسِ مَوطنُهُ وَعاشقُ الجسمِ تحتَ الأرضِ يندثرُ
أعطني النّايَ وَغنِّ فالغنا نبعُ السُّرُورْ
إنَّ صوتَ النّاي يبقى لم تُدنّسهُ الشُّرُورْ
قد قطعتُ العمرَ ركضًا وتسلّقتُ الصخورْ
وَفرشتُ الدربَ عطرًا وسَلامًا وَحُبُورْ
قد شربتُ الطّهرَ صرفًا في كؤُوس من أثيرْ
وَتضمَّختُ بعطر... وتعَمَّدْتُ بنورْ
أعطني النايَ وَغنِّي وَانْسَ ألوانَ العَذابْ
نحنُ في الدنيا سُطورٌ حظنا كان اغترابْ
فاغتمْ ما قد تبقَّى لأوَيْقاتٍ عِذابْ
هذه الأيامُ تمضي إنَّها مثلُ السَّحَابْ
أعطِني العُودَ وَمِنِّي إستَمِعْ لحنَ الخُلودْ
إنَّ صوتي عُلوِيٌّ ساحرٌ كلَّ الوجُودْ
أعطني العودَ فإنِّي... بغنائي سأجُودْ
فيهِ أطيافُ التمَنِّي كلُّ أنغام السُّعُودْ
إنَّ صوتَ العودِ يبقى بعدَ أن يغفو الوُجودْ
كلُّ مجهولٍ سيأتي ما مضى ليسَ يعُودْ
كم جلستُ العصرَ وحدي... بعدَ كدٍّ وَتعَبْ
حوليَ الأطيارُ تشدُو بينَ جفناتِ العِنبْ
وَعناقيدُ الدَّوالي لونُهَا مثلُ الذهَبْ
ناسيًا يومًا عصيبًا كانَ همًّا وَوَصَبْ
عازفًا ألحانَ روحي طاويًا سفرَ الغضَبْ
أعطني النايَ وَغنِّ فأنا لحنٌ كئيبْ
إنَّني طيرٌ أسيرٌ فوقَ أوطاني غريبْ
إنَّ صوتَ النايِ يعلو رغمَ قيدٍ وَرقيبْ
وأنينُ النّاي يبقى بعدَ أن يأتي المغيبْ
أنا في الكونِ أسيرٌ لستُ أدري ما المَصيرْ
وبروحي وَضميري إنَّني مثلُ الطيورْ
ليتني أسطيعُ طيرًا مثلَ أسرابِ النّسورْ
سابحًا مثلَ الأثيرِ فوقَ كون من شرُورْ
أعطني النايَ وَغنِّ فالغنا يشجي الفصاحْ
إنَّ صوتَ النايِ يبقى بعدَ أن تشفى الجراحْ
ننشُدُ الأحلامَ دومًا كلَّ ليلٍ وصباحْ
عمرنا يجري سريعًا مثلما تجري الرياحْ
لم نُحقّقْ كلَّ حلم ليس منهُ من براحْ
عيشنا ما كان سهلا لم يكن شهدا وَراحْ
كانَ كدّا مُستمرًّا ونضالا وكفاحْ
فانطلاقي لا انهاءٌ في الفيافي والبطاحْ
ومساري مثل نجم طول دهر ما استراحْ
أعطني النايَ وَغنِّ فالغنا يحيي السلامْ
إنَّ أشواقي تسامَتْ إنَّ روحي في اضطرامْ
وبصوتِ النَّاي صَحْوٌ منعهُ كان حرامْ
إنَّ صوتَ النَّاي يبقى بعدَ أن يُمحَى الكلامْ
أنا للسِّلمِ أتيتُ نخبَ مجدٍ قد شربتُ
لم أكنْ يومًا أثيمًا لم أخُنْ عهدًا قطعتُ
في طريقِ الخير دومًا للهُدَى إنِّي مشيتُ
قد خبرتُ الدَّهرَ طفلا وَمنَ النورِ انتَشيْتُ
ونثرتُ الوردَ دومًا وشقاءً قد حصدتُ
أنا جُرحٍ يتلظّى بالأسَى إنِّي اكتوَيتُ
وَتحَدَّيْتُ الرَّزايا والاعادي ما رهبتُ
حاضِنٌ آمالَ شعبي للفِدَا إنِّي مَضَيْتُ
أعطِني النَّايَ وَعنِّ إنَّني فجرُ الشُّعُوبْ
وَبألحاني تجلَّتْ كلُّ ألوانِ الطيُوبْ
إنَّ صوتَ النَّاي يحلو بعدَ أن تصفُو القلوبْ
كلُّ سرٍّ سوفَ يبدُو والاماني قد تؤُوبْ
أنا قربانٌ لحَقٍّ قد قطعتُ العُمرَ رَكضَا
وأريجي فاحَ دومًا يملأ الجوَّ وَأرضَا
وحياتي لكفاح نابذا حقدًا وَبغضَا
ما رضيتُ الذلَّ يومًا غيرُنا في الذلِّ يرضَى
غيرُنا باعَ ضميرًا وَهوَ بالأقذارِ يحظَى
كم أناس ولِجمعِ الْ مالِ يزدادُون خفضَا
فهُمُ للأكلِ دومًا وَبجمعِ المالِ مَرضَى
قد خبرتُ الكونَ طفلا إنَّ عودي كانَ غضَّا
كم تجرَّعتُ المآسي ما ألاقي كانَ فرضَا
وانطلاقي لِسُمُوٍّ.. أشعِلُ الحُسَّادَ غيضَا
لستُ أدري ما مصيري وَمتى عُمريَ يُقضَى
أعطِني النَّايَ وَغنِّ أطلِقِ الصَّوتَ الأسيرْ
فلهُ الأزهارُ ترنُو والسَّواقي والصُّخورْ
أطلقِ اللحنَ شجيًّا يملأ الكونَ الكبيرْ
إنَّ عصرَ الخيرِ ولَّى ولقد ماتَ الضَّميرْ
أعطِني العودَ وَغنِّ أيُّهَا الشَادي الأمينْ
إنَّ صوتَ العودِ أحلى مِن صدَى النَّاي الحزينْ
فيهِ تهذيبٌ وَفنٌّ... وَسُمُوٌّ للفطينْ
يُنعشُ الاحلامَ والآ مالَ والحُبَّ الدَّفينْ
فيهِ أنغامُ خلودٍ كلُّ أشواقِ السنينْ
أعطني العودَ وغنِّ أطلقِ الصَّوتَ الأصيلْ
فالغنا أحلى الأماني للذي باتَ نحيلْ
إنَّني ذبتُ هيامًا إنَّني صَبٌّ عليلْ
فالغنا يُنعشُ روحي وأرى الكونَ جميلْ
أعطني العودَ وغنِّ فالغنا نورٌ ونارْ
إنَّ صوتَ النَّاي يشجي كلَّ قلبٍ في انكسارْ
فيهِ أطيافُ حنان وترانيمُ هَزارْ
إنَّ قلبي في نزيفٍ إنَّ روحي في انحسارْ
أعطني النَّايَ وَغنِّي قبلَ هجري للدّيارْ
قبلَ أن أرحلَ جسمًا أتلاشَى كالبُخارْ
ثمَّ يُطوَى سِفرُ عُمري كلُّ شيىءٍ في اندِثارْ
أينَ الملوكُ ذووالتيجانِ من ظلموا الأرضُ دانتْ لهُمْ والبدوُ والحَضَرُ
كانت قصورُهمُ بالعزِّ وارفة تقامُ عندهُمُ الحفلاتُ والسَّمَرُ
البرُّ والبحرُ والأقطارُ قد خضعَتْ لحُكمِهِمْ وَبعَهدِ الرَّبِّ قد كفرُوا
شادُوا القصورَوعاشُوا العُمرَ في رَغدٍ واليومَ لم يبقَ من آثارِهِمْ أثرُ
أتى ملاكُ الرّدَى في حينِ غفلتِهِمْ وَبلقعًا أصبحُوا تحتَ الثرَى طُمِرُوا
لا لم يُخلّدْ على وجهِ الثرى أحدٌ ماتَ الملوكُ وتحت الأرضِ قد قُبِرُوا
من عهدِ آدمَ حتى اليوم كم جثثٍ تحتَ الثرَى تشهدُ الأزمانُ والعُصُرُ
أعطني النّايَ وَغنِّ أطلقِ الصَّوتَ الأصيلْ
فالغنا أحلى الأماني ينعشُ القلبَ العليلْ
في الغنا كلُّ عزاءٍ يُبعدُ الهَمَّ الثقيلْ
قد قطعنا العُمرَ ركضًا لا تُجارينا الوُعولْ
عُمرُنا يبقى قصيرًا سوفَ ترثينا الطلولْ
عيشُنا مثلُ سَرابٍ بعدَ حينٍ سيزولْ
في غدٍ مهما ارتفعنا سوفُ يطوينا الأفولْ
أعطني النّايَ وَغنِّ أيُّهَا الشَّادي الصَّبُوحْ
فالغنا يُطربُ قلبًا عاشقًا صَبًّا سَمُوحْ
إنَّ أزهارَ جناني دائمًا تبقى تفوحْ
وَبُنودُ الفجرِ تعلو فوقَ أحلامي تلوحْ
أعطِني النَّايَ وَغنِّي فالغنا سرُّ البقاءْ
إنَّ دنيا الناسِ وَهمٌ كلُّ ما فيهَا هَبَاءْ
أنا مِن نور أتيتُ لستُ مِنْ طينٍ وَماءْ
أعطني النايَ وَغنِّ وانْسَ ما قالوا وَقيلْ
قد مضى العُمرُ سريعًا لمْ أضيِّعْهُ السَّبيلْ
ما لأزهارِ الأقاحي فوقَ أكفاني تميلْ
إنَّها ترثي فتاهَا بنحيبٍ وَعَويلْ
والصَّبا تخطو وئيدًا تلثمُ الجسمَ النَّحيلْ
والصَّبايا الغيدُ تبكي.. كلُّ أزهارِ الجليلْ
فوقَ أكفاني وُرُودٌ واقحُوانٌ وخَميلْ
إنَّ روحي في سماءٍ أنا في الأرضِ قتيلْ
خبِّري يا ريحُ عنّي كلَّ أزهارِ الوطنْ
إنَّني أفدِي ثرَاها رغمَ أهوالِ المِحَنْ
إنَّ روحي كشذاهَا هيَ لي أحلى كفنْ
وبلادي هي نبضي لم يُعادلهَا ثمَنْ
أعطني النايَ وَغنِّ في سُمُوٍّ وانتشاءْ
واغتنِمْ أيامَ سعدٍ.. وَحُبورٍ وَهناءْ
إنَّما العيشُ كحلم ليسَ في الأرضِ بقاءْ
لا تقُلْ: بيدينا هكذا شاءَ القضاءْ
كلُّ أمر سوفَ يُقضَى وَإذا ما الرَّبُّ شاءْ
مَعدني الطّهرِ سيبقى أنا نورٌ وضياءْ
لستُ أرضَى الأرضَ دارًا إنَّ بيتي في السَّماءْ
أعطني النايَ وَغنِّ إنَّني صَبٌّ كئيبْ
إنّني في الارضِ أحيا دائمًا مثلَ الغريبْ
إنَّ روحي في سُمٌوٍّ فوقَ كون من نحيبْ
جسدي إن غابَ حقًّا إنَّ روحي لا تغيبْ
الخيِّرُونَ بهذي الارضِ كم صبَرُوا
خاضوا التَّجاربَ عندَ اللهِ ما خسرُوا
إيمانُهُمْ هزَّ أطوادًا لقدْ خشَعَتْ
مِنْ خشيةِ الرَّبِّ.. كم تُروَى لهُمْ سِيَرُ
الطّهرُ واكبَهُمْ والنُّورُ عمَّدَهُمْ
أندادُهُمْ دائمًا طولَ المدَى كُثُرُ
اللهُ يحرُسُهُمْ لا زلّتْ بهمْ قدَمٌ ولا عضامٌ لهُمْ في الضّيقِ تنكسرُ
الربُّ ناصِرُهُمْ في كلِّ مُعتركٍ مهما يُعانوا فإنَّ البغيِ ينحصرُ
أمَّا الذي نهجُهُ الآثامُ يسلكُهَا بالكُفرِ والعُهرِ والأرجاسِ ينتحرُ
المؤمنونَ جنانُ الخُلدِ مسكنُهُمْ أمَّا جهنَّمُ بالكفّارِ تستعرُ
المؤمنونَ صراطُ الربِّ دَيدَنُهُمْ الأرضُ فيهِمْ لكمْ تزهُو وتزدهرُ
إنِّي بموكبهِمْ واللهُ بارَكني وأينما سرتُ حولي النّورُ ينتشرُ
(شعر: الدكتور حاتم جوعيه − المغار − الجليل )