

ذاكرة أبو شوشة
لم أمتْ من ذي قبل، إلّا ميتات مجازيّة صغيرة؛ كأن أموت عطشًا، رعبًا... ميتاتٌ صغرى نعلنها عندما يفور قِدر الشّعور؛ أكان فرحًا عارمًا، أم حزنًا دفينًا. ولكن أين منها هذه الميتة الكبرى التي أعيش الآن كوابيسها المرعبة، وأحبو في دهاليزها التّائهة؟ هذا ما أقصده تمامًا. الميتة الكبرى التي تعبر فيها الرّوح من هنا، حيث الظّلام الحالك السّواد، إلى هناك، حيث النّور السّرمدي الشّفيف.
14 أيّار 1948
حدثت الميتة الكبرى لمّا كنتُ عائدًا على ظهر حمارٍ، أهشّ بعصاي إحدى عشرة غنمةً تسير إلى جانبي. فجأةً، ظهر شبحٌ غريب من العدم. للوهلة الأولى، ظننتُ أنّه جنيٌّ من حكايا الجّن التي ترويها جدّتي أم سليمان، قد انبثق من شقوق الأرض ليخيفني. أغمضتُ عينيّ، ثمّ فتحتهما على مهل، فاتّضحت الصّورة على حقيقتها. إنّه غازٍ من غزاتهم؛ يلبس بزّة عسكريّة، يعتمر خوذة فوق رأسه، ويحمل رشّاشًا غريبًا بين يديه. قهقه عاليًا، وراحتْ عيناه تزغرد حقدًا. وفجأةً، أطلق رصاصةً لئيمة من فوهة رشّاشه المتطلّعة إليّ، أصابتني أعلى القلب، فوقعتُ أرضًا مضرّجًا بدمائي. غلبني إذّاك شعورٌ بالفراغ، بالتّيه... شعورٌ غريبٌ لا أعرف كنهه، ثمّ حانت منّي التفاتةٌ إلى الجهة الثّانية، فرأيتُ الموت قادمًا على فرسٍ أصيلة، إلى جانبه شعاعٌ ملائكي؛ أوّله في الأرض، وآخره في عنان السّماء. أهي لحظة الحقيقة؟ الموت هو الحقيقة الوحيدة الماثلة أمام أعيننا على امتداد الزّمن. لكنّي لم أجهّز زاد الرحيل بعدُ. ثمّة عصافير أملٍ ترفرف بأجنحتها عاليًا في سماء هذه الفانية، ثمّة أحلام وأمانٍ لم تأتِ بعدُ. فجأةً، بدأتُ أتخفّف من حمل ثقيل يجثم فوق كاهلي، وبدأ مثقال الأشياء يخفّ شيئًا فشيئًا. لا شيء في الفانية ذو قيمة؛ لا الذّهب المشغول، ولا القصر المنيف، ولا الأساور الهامسة. شيءٌ واحدٌ لا ثانيَ له ظلّ يضجّ في مخيّلتي. إلهي، أريد أن أرجع إلى بيتي. أريد أن أطرق باب بيتي؛ فتفتحه زوجتي على مصراعيه. ربِّ .. أريد فقط لرِجليّ أن تخطو عتبة الأمل، أن أمرّغ وجهي في حضن زوجتي الدّافئ، أن أشهد بأمّ عيني التي سيأكلها الدّود بعد برهة، ابني علي .. ابني الذي طالتْ قامته، حتّى لامست تلك السّحابة السّوداء العالية .. وابني حسن ذا العينين الغارقتين في الضّوء والعسل .. أريد أن أمسّد شعر صغيرتي فاطمة .. أن أسمعها تتحبّبُ باسمي .. صغيرةٌ جدًّا يا ربّ .. تحتاج إلى ضلعٍ يسندها في هذا العالم المظلم.
روحي معلّقة بين ضفّتي الموت والحياة. الموت يناديني أن تعال، والحياة تلوّح لي مودّعةً. وأنا بينهما تائه في فيافي الخوف والفقد. روحي متشبّثة بحبل الحياة؛ لا تريد مفارقته، وقلبي قنديلٌ مشتعلٌ فتيله؛ لا يريد أن ينطفئ. وجسدي المنهك الغارق في دمائه لايزال ممدّدًا قرب صخرةٍ، وروحي تنظر من علٍ إلى الجسد المسجّى، وأكاد أرى الصّور الجنائزيّة تزنّر قريتي المتّكئة إلى منحدر تل جازر؛ شرقي مدينة الرملة، وأسمع بين الحين والآخر قصف مدافع الهاون التي ترمي قنابل الموت كيفما اتّفق. دخل الغزاة الصهاينة، وقنّصوا بالرّصاص الحيّ كلّ من فيه شعلة حياة. وراحوا يرشّون الموت كما تُرشُّ التّوابل على الطّعام .. أرى صديقي أحمد سمور، وقد أصابته رصاصة في رأسه. ها هو مثلي غارقٌ في دمائه، وها هم الشّباب يحملون جثّته إلى داره الحزينة، ولكنّ الموت كان ينتظره عند العتبة. انتفض شبّان قرية أبو شوشة الأشاوس، وراحوا يدافعون عن حبّات التّراب الغاضبة. ولكن كيف لبارودةٍ صدئة؛ أكل الدّهر عليها وشرب، أن تواجه مدرّعاتٍ وطائراتٍ بلا قلب؟ أسمعُ صرخات جارتنا أم راشد "معاهم صواريخ ودبّابات، وأنتم معاكم كام بارودة مهريّة. تعال يا راشد، لا تحرق قلبي". وراشد يعقد العزم على المواجهة، يحثّ الخطى صوب الطّغاة، ولكنّ قلبه يتقاعد مبكرًا؛ إثر رصاصةٍ في أعلى الجبين.
ورفاق راشد ينزلون إلى أحراش القرية، وتدور رحى معركةٍ حامية بينهم وبين الغزاة. يشتدُّ أوار المعركة، والموت شيخٌ جليلٌ يحصي عديد الشّهداء.
انتقلتْ روحي إلى تلٍّ مطلٍّ على ساحة القرية. رأيتهم يجرّون أكثر من ستّين رجلًا كما تجرُّ البهائم. جاء أحد ضبّاطهم وأمر جنوده بانتقاء الأقوياء منهم. وجيء بهم إلى وسط السّاحة، وصاروا يأخذون كلّ أربعة معاً، ويأمرونهم بحمل جثث القتلى والجرحى إلى البئر ورميهم في حفرة كبيرة هناك.. وبعد أن يؤدّوا مهمّتهم يقتلون أحدهم ويأمرون الثّلاثة الباقين بحمله ورميه في الحفرة، ثمّ يقتلون أحد الثّلاثة، ويأمرون الاثنين الآخرين برميه في الحفرة وهكذا... بعد ذلك ربطوا خمسة وخمسين رجلًا بحبلٍ طويل، وأنزلوهم إلى حفرةٍ سحيقة، ثمّ أطلقوا النّار عليهم، فقتلوا منهم عشرة رجال؛ فولولت النّسوة يطلبن الرّحمة، ثم اُقتيدتْ أربع منهنّ إلى البيوت المجاورة واغتصبن، وقُطِّعَتْ أصابعهنّ بالسّكاكين لانتزاع الخواتم الذّهبيّة منها. كنتُ أشهدُ هذه العربدة والدمع يطفر من روحي المثقوبة. لو أنّي أستطيع أن أشقّ صدور هؤلاء الطّغاة لأرى إن كان فيها قلبٌ، لكن هيهات. إنّها صدورٌ طافحة بالعتمات الدّاكنة.
10 أيلول 1947
ترجع بي الذّاكرة إلى أيامٍ خوالٍ عشنا فيها في قرية أبو شوشة؛ أيامٌ ترفل بثوب السّحر، لكنّ الزّمن نهرٌ يجري، نستحلفه أن يمشي الهُوَينَى، أن يحبو كطفلٍ رضيع، ولكن هيهات أن يتوقّفَ عن الجريان. يبقى الزّمن قطارًا نسي البدايات، ريحًا يكرّ ويفرّ من غير أن ينتظر أحدًا.
كنت في ذلك اليوم أصطاد الطّيور في أطراف القرية، وقد وُفّقتُ بصيدٍ وفير. عدتُ إلى بيتي محمولًا على أجنحة السّعادة؛ فابني علي ينتظرني على أحرّ من الجمر. وها هو يلقم الموقدة بحطب سنديان جديد. شوينا الطّيور وأكلنا جميعًا أنا وزوجتي رقيّة وعلي وحسن وفاطمة، ثمّ احتسيتُ القهوة المرّة. تقول لي رقيّة وهي تقرأ الفنجان "غيمات ناصعة البياض تظلّل بيتًا جميلًا، وطرحة عروس بيضاء" يفتر ثغرها عن ابتسامة محبّبة "هذا عرسُ فاطمة". أضحكُ "فاطمة لم تبلغ ثلاث سنوات". تضحك عاليًا "الفنجان يروي سيرة المستقبل البعيد. ستزوّج أبناءك وتلاعب أحفادك".
بعد سويعاتٍ قليلة دخلتُ البيتَ، وابتسمتُ حين شاهدتُ الصورة التي تجمعني وعائلتي؛ رقيّة تبتسم، علي يضحك، حسن يضع يده على كتف أخيه، ووجه فاطمة نبعٌ يغنّي.
11 أيلول 1947
خرجتُ وعائلتي نقصد كرم الزّيتون. وهذا قطافه. كنت أطير من الفرح حين ألتقي بشجرة تينٍ. تمتدُّ أصابعي إلى الثّمرة المباركة، وأضعها في فمي ممزّقًا جلبابها الأخضر، وأشعر بطعمها المقدّس المُحلّى وهو يسيلُ في لعابي. أحمل غلال الأمل في بيادر قلبي، وأزحف على الطّريق الموصل إلى كرم الزّيتون، فتغمزني الثّمرة الخضراء بأطراف عيونها مخافة أن تغار منها شجرة التّين الواقفة في زاوية الكرم، وتلقي عليّ تحيّة الصّباح بمسحةٍ من نور الشّمس الذّي يصلّي على بشرتها النّاعمة الملمس، ثمّ بعد هذا كلّه، تدور أحاديثٌ بين الأكفّ والثّمرة المقدّسة، فأسمع همساً وتلامساً ودغدغة، وبعدها ينفجر شلّال البركة.
عند حَمّ الظّهيرةِ، نفترش الأرض ببساط قديم، ونضع صحون العدس والبرغل والبصل الأخضر، نغمّس اللقيمات بزيت الزّيتون، ونأكل بشهيّة.
14 أيّار 1948
ربِّ لو تردّني إلى تلك اللحظات سويعاتٍ قليلة، دقائق معدودة. ردّني ربّ .. إنّ حنايا الفؤاد تتوق إلى سيرة الزّمن القديم. ما هذا الصّوت؟ ترتدّ روحي المُنهكة سريعًا إلى جسدي الذي لايزال طريح الأرض، إلى مصدر الصّوت. الصّوت الشّجي الذي بدا لي مألوفًا. إنّ الصّوتَ صوته .. صوت ابني علي الشّهي كرائحة النّعناع.. أراه يسير تُجاه جسدي، لكن الصّخرة الصمّاء تحجبه عن عينيه. كم أنت طويل القامة يا عليّ! تكاد تلمس تلك الغيمة السّابحة في الأفق. "أنا هنا .. علي، أنا هنا!". صوتي محبوسٌ في داخلي، وعلي لا يسمعني. ينادي بأعلى صوته "أين أنتَ يا أبي؟ .. أين أنتَ؟". أحاول أن أحرّك جسدي قليلًا، أن ألوّح له بالكوفيّة البيضاء، ولكن من دون جدوى. وعلي يذرع الأرض جيئة وذهابًا، ثمّ يغيب الأمل في طرقات بعيدة. فأعود إلى جسدي أبكي. أبكي .. دعني أرتّب قبري، وأرحل عل عجل.
تمرّ ساعةٌ، أو بعض ساعة، تعيد روحي الكرّة غير مرّة. تبحث في الجهات كلّها؛ في الكروم والحقول والبيادر، في كلّ مكان. وفجأةً، أراكم من بعيدٍ، أقترب منكم أكثر فأكثر. رقيّة تحمل فاطمة بين يديها، علي عن يمينها، وحسن عن شمالها. رقيّة تبكي"أين أنت يا يوسف؟ لمن تتركني وحيدةً. أتتركني للموت يخيط لي كفني. يا أبا علي لا تتركنا. نحن نحبّك ...". وأنا أحبكم .. أحبكم جدًّا" .. أناديكم مرّة أخرى، ولكنّ صوتي لايزال حبيس الفراغ الثّقيل.
أيّها الزّمن الخؤون. أمس كنّا معًا، ... واليوم تُفرّقنا في شعاب الأرض. أصرخ ملء عروقي "لا ترحلوا. والله إنّي لمشتاقٌ إليكم!". تيمّم روحي شطر البيت. أرى دفّتي الباب مشرّعة، أنظر إلى الصّورة التي تجمعني وعائلتي: رقيّة تنتحب، علي تملأ الدّموع أحداقه، حسن تائهة عيناه في دهاليز الحزن، ووجه فاطمة ليلٌ أسود.
أهرب من البيت. أنظر إلى الأفق الشّاسع. تتراءى لي رؤيا بعيدة. أرى امرأةً في الخامسة والخمسين من عمرها، يساعدها شابان ثلاثينيّان طويلان جدًّا، على صعود منصّة العروسين. تقترب من العروس الجميلة وتطبع قبلة على خدّها، ويفلت عقد دمع من مقلتيها. أظنّ أنّ وجه المرأة مألوف. تفرّستُ في ملامح وجهها الجميل. يا إلهي .. إنّها زوجتي رقيّة في عرس ابنتنا فاطمة. ومن هذان الشّابان اللذان ساعداها على صعود المنصّة. إنّهما علي وحسن. عرفتهما من طولهما الفارع، وتحديدًا علي الذي وصل إلى فاطمة، ومدّ يده إلى نجمة معلّقة في السّماء العالية، التقطها ووضعها في خصلات شعرها الذهبيّة. آهٍ .. لو أعود إليكم .. أريد أن أقبّل جبين فاطمة في يوم عرسها البهيّ. أريد أن أحضن زوجتي وابنيّ. أريد أن... فجأةً، شعرت بالحياة تدبّ في شراييني. حاولتُ النّهوض .. حاولتُ غير مرّة، من دون أن أقوى على ذلك. ما هذا الشّعور الغريب الذي بدأ يغلّفني من رأسي حتّى أخمص قدميّ؟ ما هذا ؟ حانت منّي التفاته إلى حجر شامخ في الطّريق. ابتسمتُ له، فبادلني ابتسامة عذبة، رقيقة. فما كان منّي إلّا أن حللتُ فيه، تمدّد جسدي في قوامه الصّلب، فتلبّسه واستحالا حجرا واحدًا. الحمد لك ربّ. لم أمت. استحلتُ حجرا صلبا في الطّريق، لا بل في يد كل طفل وامرأة، في يد كل مقاوم فلسطيني يدافع عن عرضه وأرضه. زوجتي وأولادي حتمًا سيعودون من رحلة التّيه في شعاب الأرض العربيّة، حتمًا هم عائدون إلى ديارهم، إلى بيتهم، إليّ أنا الذي أنتظرهم. أيا أبنائي أنا في انتظاركم؛ فلا تتأخّروا.