الاثنين ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم كاظم الشويلي

راضي المترفي، يطيح بصاحب الليلة الغجرية

بدأ القاص والروائي المبدع راضي المترفي هادفا وساخرا في قصته القصيرة الرائعة والموسومة (ليلة غجر)، حيث نلحظ ومن عنوانها، أننا سنطلع على نص يسرد للمتلقي ليلة غجرية لا توحي بالرضا والصلاح والهدى الرباني، انما هي ليلة من ليالي الدنيا ونزوة عابرة من نزوات الشيطان، وكان لابد للقاص ان يضع لنا أبطاله الأساسين، فصنع لنا شخصية كبتت نزواتها وشهواتها في بئر عميق، هاهو القاص المبدع راضي المترفي يكشف لنا خبايا بطل القصة بسرده العفوي الجميل والمنساب كانسياب المياه الصافية:

 (امت على رفوف النسيان تلك الرغبة المجنونة بعد اكماله الدراسة والانخراط بالحياة العملية ثم الزواج من قريبته التي أنجبت له خمسة أبناء في ثماني سنوات... أخذته هموم الحياة بعيدا وانغمس بأعبائها من اجل توفير لقمة العيش ومستلزمات ومصاريف الدراسة للأبناء بعد ان توزعوا بين الابتدائية والاعدادية. أصبح على أعتاب الأربعين وارتفعت درجته الوظيفية بعد ان نال رضا رؤسائه حتى غدا مهما في دائرته وعندما فتحت لها فرعا بالاطراف وقع عليه الاختيار ليكون المدير له...)

 وبعد هذه السيرة المختزلة عن بطل القصة، يختصر القاص سرده ويطوي صفحة تداعيات الماضي ليزجنا في انشغالات الحاضر والتزاماته، وكأن القاص يسعى لرسم صورة بعض الأنماط البشرية وهم في مرحلتين من حياتهم حياة ما قبل الفقر، وحياة ما بعدها، فها هو الرجل الذي أرهقته سنون الكد والتعب و حياة العوز والفاقة والألم والتمرد، يصل إلى مكانة مرموقة، هنا يدفعنا الفضول للتعرف على سلوكه ما بعد الثراء والوجاهة وتسنم المنصب، هل يبقى كما عهدناه سابقا أم تنكر لواقعه وبيئته ؟ هذا ما سنكتشفه لاحقا:

 (باشر عمله الجديد بهمة وإصرار على النجاح ورضا المسؤولين , وكان السائق يقف امام منزله في السابعة من صباح كل يوم ويعود به في الرابعة عصر. اصيبت السيارة بعطل عصر ذات يوم تشريني امام احد الاحياء مما جعله ينتظر ريثما يتمكن السائق من اصلاحه رغم طلبه منه استئجار سيارة والذهاب الى بيته. لفت نظره كثرة السيارات الفارهة التي تدخل الحي وتخرج منه مع خلوها من النساء فسأل السائق عن اسم الحي , لكن سائقه اكتفى بابتسامة ونظرة تحمل قدرا من السخرية.
فطلب منه بأصرار ان يجيبه ويشرح له سبب ابتسامته. قال السائق: لااحد يجهل هذا الحي ونادرا ما تجد شخصا لم تسر اقدامه بين أزقته او يقضي ليلة في احد منازله.

قال: لماذا؟

أكمل السائق: لأنه حي الغجر يا أستاذ.

ثم عاد لانشغاله بتصليح العطل في حين استيقظت في نفس المدير تلك الرغبة القديمة وتسائل: حرمت نفسي من كل شيء لأجلهم ومتعتهم لماذا لااحقق لنفسي هذه الرغبة...؟

لكن ماذا لو مت...؟ الا يلحق بعائلتي العار ويشيح اولادي بوجوههم خجلا عندما يذكر اسمي او يرد ذكر الحادثة؟)

وبهذا النسيج المحكم وهذه الحبكة التي رافقت نمو الأحداث، بدأت تستعر الرغبات الشيطانية المكبوتة، يبدو ان هذا البطل لم يكن محصننا اتجاه الانزلاقات والانحرافات... انما هو عبارة عن شخصية ضعيفة المناعة قبالة الملذات والتحديات، ويبدأ الصراع، وهنا يستعر السؤال في ذهن المتلقي، ويتابع بشغف عملية الصراع، ماذا سيفعل البطل؟ هل سينجرف ؟ ان مغريات الدنيا كثيرة، وهذه الرغبة الملحة تجعل بطل قصة المترفي يعوم بقارب هش في بحر هائج، هنا بؤرة الصراع، بين: هل بمقدور الإنسان كبت شهواته ورغباته في عالم مشحون بالمغريات؟ لقد اختصرها المترفي بقوله الجميل (صراع بين الإقدام والإحجام) وهنا تكمن براعة القاص وفطنته ووعيه في صناعة الشخصية:

(واشتعل في النفس صراع بين الاقدام والاحجام حتى اخبره السائق باصلاح العطب.
لم يخبر عائلته ,ان سبب تأخره عطل السيارة وانما اكتفى بقول (ضرورات العمل). بدأت رغبته المجنونة تلح عليه بالرواح والمجيء وعاش صراعا رهيبا مع النفس حتى داس على خوفه من الفضيحة. ابلغ سائقه بعدم المجيء له صباحا لانه مرتبط بموعد في الوزارة وسيذهب بسيارته الخاصة ولم يخرج من البيت حتى المساء فتعطر وتزين وارتدى احدث بدلاته وسط استغراب زوجته وكثرة أسئلتها وخرج بعد حلول الليل.)

وأخيرا لم يستطع هذا البطل الضعيف ان يقاوم رغباته والانجراف خلف ملذاته، بل استأجر سيارة أجرة وانطلق نحو رغباته الدنيوية ناسيا الله والمجتمع وعائلته وذهب ذليلا غير متخوف من نتائج نزواته وإفراغ جيوبه، لقد كانت القصة درس أخلاقي بديع في ضرورة تجنب الرذائل، حيث ابدع القاص والروائي راضي المترفي في فكرة القصة وموضوعها. ولم ينس القاص المبدع ان يصور لنا قلق عائلة البطل عليه، وبحثهم عنه... ولم يتمكن البطل ان يحقق نزواته في هذا الحي الفاسد، ويختم القاص سخريته وتهكمه من البطل:

(وفي الصباح نشرت احدى الصحف على صفحتها الاولى خبرا وصورة تحت عنوان شرطة الآداب تلقي القبض على مدير عام في احضان غجرية)

وبهذا السرد الممتع والحبكة المحكمة ولحظة التنوير، يمنح القاص والروائي راضي المترفي للمتلقي درس أخلاقي وموعظة قيـّمة ويعرض لنا شخصية قوية جدا في الدوائر ومؤسسات الدولة، لكنها ضعيفة هشة قبالة النساء والليالي الغجـرية...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى