رعب آخر
أسير ببطء، وحذر في تلك القلعة القديمة المتموجة؛ هل تقف القلعة على سطح المياه؟ أم أنها معلقة في الهواء؟ إنها مملوءة برسوم متحركة تشبه حركة المياه، أكاد ألمح فيها وجوها لمهرجين يبتسمون، ويبكون، ثم تنفتح عيونهم في رعب أو دهشة، أو يغمضون أعينهم وكأنهم يحفزون أحلامهم الخاصة التي تنتقل إلي مثل أصوات معارك، وضحكات نسائية متقطعة، تتصاعد في حدة، ثم تتوسطها شروخ وتوقفات، ونغمات التهام لأطعمة صلبة ثم رخوة، وتزداد بعد الالتهام نغمات الضحك وتتصاعد بداخلي مثل دخان غير مرئي.
أواصل سيري نحو قاعة أخرى فأجدني محاطا بمجموعة من المرايا السوداء المتجاورة، يتوسطها ضوء طفيف لمصباح على هيئة جمجمة صغيرة، وأستمع الآن إلى أنين وصرخات تتصاعد تدريجيا من خلف المرايا، كل صوت يصرخ وينادي بأسماء شخصيات من عالمه الخاص، تتداخل الأصوات ويزداد إيقاعها سرعة بداخلي، وقد تتباطأ وتختلط بأصداء تشبه مقدمة مقطوعة زارا لشتراوس، وبعض نغمات من هملت لشايكوفسكي يتوسطها زئير خافت متقطع، ويعود الصمت مرة أخرى طويلا هذه المرة ثم تأتيني أصوات المياه الممزوجة بوجوه المهرجين من خلف المرايا أيضا، وأستمع إلى صخب السيرك وأصوات أسود عاضبة وصوت لنمر يتألم من جرح نازف، أو انتظار لطعام، ويضحك أحد المهرجين الآن، ويختلط صوته العميق بصوت المياه ولا يبدو أنه يخاطب جمهورا، ولكن صوته يذوب في المياه، ويتجلى في مساحة تبدو رمادية داكنة ومملوءة بالأعين المفتوحة في رعب وتحيطها صور متموجة من الكمان والتشيللو بأحجام صغيرة، تتحرك ببطء وقد تطير خارج مجال المياه باتجاهي ثم تعود للسباحة في المنطقة الرمادية خلف المرايا.
– ألا تريد أن تشاركنا احتفاليتنا اليوم؟
– من أنت وأي احتفالية؟
– دعك من هذه الأسئلة؛ ألا ترى أنني أتحدث الآن من داخل تلك المجموعة من السراديب المتقاطعة، أو خشبات المسرح الدائرية المتراكمة بداخلك؟
تخرج من مجالي الممثلة ويبدو أنها سوف تقوم بتنظيم الحفل في قاعة المرايا السوداء.
– يبدو من ملابسك أنك سوف تقومين بدور بطولة.
– ألا ترى أننا نشارك جميعا في اللعبة، ألا ترى ملابسي التي تتموج وتخفي وراءها كتلا هوائية، وفجوات مملوءة بمصابيح تشبه هذه الجمجمة؛ سوف تجد فوقي أزياء كليوباترا، وشعر الميدوزا، وعباءات بينلوب، وهيكوبا، وأنتيجون السوداء التي تشبه مرايانا البهيجة، وأخيرا سوف أظهر بصورة كارمن فأضحك، وأرقص، وأتصاعد في الهواء وتحيطني رسوم لمقابر واحتفالات تقام على خشبات مسرح متراكبة ويعبث فيها مهرجون كبار يرتدون الحلل الحمراء والسوداء وبداخلهم فجوات مملوءة بصرخات الحيوانات والنسوة التي كانت هنا منذ قليل.
تضع الممثلة يديها داخل تكويني وتعبرني باتجاه المرايا السوداء خلفي وتحرج منا شخصيات الاحتفالية، وتنتشر الممرات الهوائية السوداء في القاعة وتتصاعد في منحنيات منفرجة نحو الأعلى؛ تبدأ الشخصيات في الضحك والأحاديث التي تشبه النغمات، أو تقاطع أصوات التهام الطعام، والبكاء المتقطع، ويعود الضحك الهستيري الممتد مثل المياه الأرجوانية وسط الممرات بينما يكشف المصباح الجمجمة عن شخصية رجل يرتدي حلة زرقاء داكنة، ويبدو أن تكوينه هوائي أيضا وتعلو الحلة جمجمته فقط؛ يتأملني طويلا؛ وتتشكل حوله مجموعة أخرى من الممرات السوداء التي بدأت في الاتصال بتكويني وتكوين الممثلة.
ممثل آخر يخرج مني، يرتدي حلة سوداء تشبه حلة هملت في لوحة ديلاكروا، تتوسطها دائرة بيضاء يضحك بداخلها وجه آرئيل في عاصفة شكسبير، الممثل ينخرط في الطيران واللعب وسط أطياف بروست في كومبريه؛ ثم يعود إلى محيطي ويتحدث مع الرجل الجمجمة بأصوات مجردة، ويعبرني مثل مياه زرقاء داكنة ويعود للعب، ثم نستمع مرة أخرى إلى أصوات المرايا وأصوات الممرات الداكنة؛ لم أشاهده منذ صعد إلى الجبل، ما هذا؟ إننا نلتهم الطعام دون أن نراه، وعلى المائدة أوتار متشابكة وأقفاص وشذرات مرايا مكسورة، ألم أذكر لكم أن هذا هو أقرب طريق لشاطئ المحيط؟، آه ابتعد أيها الغراب كي أصحو وأخرج من غرفة العمليات، لم دمجت دور كارمن مع طفلة ست شخصيات تبحث عن مؤلف؟ لم لم تخبريني قبل العرض، ما هذه الفجوة المملوءة بالمياه على خشبة مسرحنا الدائري؟ إننا داخل سرداب وحولنا نقوش لجماجم وحيتان وغربان وموائد مملوءة بالأعين المفتوحة أو المتأملة والأواني التي تتراقص فيها المياه البنفسجية والحمراء والبنية الداكنة.
إننا نسقط ونهوي أسفل السرداب العميق، نحن داخل قصر مملوء بالدخان والنيران ويواجهنا غراب كبير عينه بشرية وتحتل مساحة أكبر من رأسه وبداخله فجوة هوائية بها وجه يشبه حفار القبور أو أحد شخصيات أحلامه في مسرحية هملت، نحن نستمع إلى نغمات النيران وأصوات غليظة تحاول الاستقرار في مجالاتنا وأدوارنا؛ أين كارمن؟؛ طفلة بيرانديللو تتصاعد خلف الغراب وتتضاعف داخل عينه التي اتسعت وسط الدخان والنيران، من هذا الذي يخرج من منطقة مائية أسفلنا، العاصفة، الجزيرة، شكسبير، سأحتل الآن موقعي في الحفل، أنا ألتهم طعام الأقزام في حكاية أميرة الثلج، أنا أرنب أليس، صوت يأتي من الحلم: أنا كرونوس ألتهمك وألتهم نفسي في لوحة جويا وأنا داخل اللعبة وخارجها أيضا، رأسي يصير مثل جمجمة الغزال في لوحة أيام الصيف لجورجيا أوكيف، ينتقل إلى عواصف صحراوية متداخلة وتتوسطه أصوات بائعي القرون الوسطى، بينما تحيطه الآن ظلمة شديدة تتوسطها وردة زرقاء كبيرة وشعلة من نيران تميل إلى الأبيض أو إلى تكوين الهواء.
الغراب يتجه نحوي ويصرخ بداخلي، وتحيطه أصوات طبول قديمة ممزوجة بنغمات التشيللو غير المنتظمة والتي صارت أقرب لأصوات النيران الأرجوانية التي تكشف ما وراءها وتتراقص بهدوء ضمن مرآة سوداء خلف صورة الغراب الأخرى، يعود إلينا الرجل الجمجمة ذو الحلة الزرقاء الداكنة ونستمع إلى صوت نساء ورجال خلفه:
هيا لنهبط كي نشاهد الآن فقرة دون جيوفاني
تتسع أسفلنا فجوة أخرى ونهبط ببطء وحولنا مياه سوداء ورمادية داكنة، ونصل إلى قبر مصنوع من مرايا سوداء أخرى ونسقط وسط معركة صاخبة بين مجموعة من النمور الهوائية التي تتداخل، وتنقسم، ثم تلتئم، وتنقسم، وتلتئم مرة أخرى، وتصرخ ثم تحيطها أصوات هادئة لنسوة يضحكن:
أنا أحبك أكثر حين تقومين بدور الأميرة في حلم منتصف ليلة صيف، هذه الوردة السوداء تلائم ظهوري بدون جسدي في حفلة الأشباح القادمة؛ يعجبني هذا الطعام البنفسجي الداكن؛ هل سنذهب لرؤية فنار فرجينيا وولف مرة أخرى داخل متحف المرايا السوداء في القاعة؛ أدعوتن دون جيوفاني لمشاهدة فقرة السيرك؟
تتداخل صور النمور مرة أخرى في القبو، تعبرني وتعبر تكوين الفتاة والرجل الجمجمة والغراب الكبير ويصعد من فجوة أسفل معركة النمور دون جيوفاني، يصرخ ثم يضحك، يسبح في مياه سوداء ويتحول وجهه إلى جمجمة هوائية لها ذراع يتراقص في الهواء ويمسك بسيف ويشير إلينا كي نهبط معه أسفل قبو النمور.
نحن الآن نهبط عبر اسطوانة تكوينها يشبه المياه والمرايا السوداء، وأصطحب الرجل الجمجمة والفتاة، وهي تغني بعض أغنيات كارمن وأنتيجون وبينلوب معا ونواصل رحلتنا نحو الأسفل وتحيطنا أصوات معركة النمور وأطياف خفية تصرخ داخل فنار فرجينيا وولف، وفي منتصف رحلتنا نعبر جسد مهرج أصفر يتراقص ويبدو أنه يرحب بنا ويواصل تقديم فقرات الحفل، وتبدو الآن فتاتي الممثلة في حالة تأمل، تتضاعف حول جسدها، وتحتضن أنتيجون وكارمن وطفلة بيرانديللو أثناء الهبوط ويبدو أنها تستمع في لذة لمشهد مصارعة ثيران هوائي، بينما يشير المهرج الأصفر إلى بعض أصوات آلام ومعارك شخصيات لافكرافت، وقد حفرت في مساحة من الهواء الأسود خلفنا، دون أن نراها، بينما نغمض أعيننا الآن ونحلم، ونتأمل من جديد ونبتسم حين نشاهد مساحة هوائية مظلمة يؤدي فيها الممثلون مقاطع من عاصفة شكسبير، و نستمع إلى أصوات الغرقي، وصوت الشبح ممزوجا بنغمات الجزيرة القديمة تتوسطها فتاة مملوءة لالفجوات المظلمة تضحك ثم تبكي وتقول بسخرية إنني أسقط، بينما تتشكل مساحة هوائية أخرى من الضحك المجرد وأصوات النسوة والممثلين والأشباح من داخل عرض تجريبي لحلم ليلة صيف، وبينهما يظهر ويختفي دون جيوفاني، يفتح عينيه ينظر بعمق إلى الأسفل، ثم إلى أعلى داخل فنار فرجينيا وولف، وقد بدأ يتشكل هذه المرة بداخلنا داخل مرآة سوداء وحيدة وسط مياه رمادية بدأت في جذبنا مرة أخرى إلى أسفل نحو ضحكات أخرى وموائد طعام تلتهمها الممثلات بالأسفل.