الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم حسن الحضري

رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»

تجلِّيات صراع الهويَّة في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»"

تواجه الأمَّة العربية حروبًا فكرية وثقافية تهدف إلى القضاء على هويَّتها، وزعزعة ثوابتها، والسيطرة على توجُّهها الفكري؛ وهذه الحروب تختلف طبيعتها باختلاف الزمان والمكان، ومن أساليبها المعاصرة: استقطاب العرب إلى هجر بلدانهم والانتقال إلى الغَرْب، ويأتي ذلك دائمًا مصحوبًا بإغراءات وأباطيل قد تنساق خلفها بعض النفوس الضعيفة ممن لا يصدِّقون إلا كل غريبٍ، ولا ينقادون إلا وراء كل عجيبٍ؛ وقد قام الأدب العربي شعرًا ونثرًا بدوره في التصدي لهذه الحروب الخفيَّة والمعلنة، وتبصير الأمَّة بحقائق الأمور؛ ومن الأعمال الأدبية التي تعرضت لهذه القضية رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب الروائي السوداني الطيب صالح [ت: 2009م]، وفي هذه الرواية يوجِّه الكاتب إعلامًا مضادًّا لإعلام الغربيِّين المزيَّف.

ويكشف الطيب صالح، على لسان بطل روايته، رؤيته لبلده بعد غياب دام سبع سنوات، وفي هذا السياق يعمل على تصوير المناظر الطبيعية الخلَّابة؛ حيث تقع قريته «عند منحنى النِّيل»، ويوازن بين بلده وبين بلاد الغَرْب التي أقام بها سبع سنوات كاملة تكفي لِعَقد موازنة صحيحة قائمة على المعارف والحقائق وليست رجم غيبٍ: «ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدتُه زمانًا في بلادٍ تموت من البرد حِيتانها»، ثم يبدأ في ذِكر مقوِّمات الطبيعة في بلده: «واستيقظت ثاني يوم وصولي، وأرخيت أذني للريح، ذاك لعمري صوت أعرفه، له في بلدنا وشوشة مرحة، صوت الرِّيح وهي تمرُّ بالنخيل غير صوتها وهي تمرُّ بحقول القمح، وسمعت هديل القمري».

ثم يصف الكاتب النخلة، ومن خلال ذلك الوصف يتطرق إلى تأكيد تمسُّكه بهويَّته، يقول: «ونظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير، أنظر إلى جذعها القوي المعتدل، وإلى عروقها الضاربة في الأرض، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها، فأُحِس بالطمأنينة، أُحِسُّ أنني لست ريشة في مهبِّ الرِّيح؛ ولكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، له جذور، له هدف»، يتخذ الكاتب من النخلة رمزًا للأصالة والصمود والثبات والقدرة على البقاء ومواجهة الصعاب والتحديات، وفي ذلك إعلان صريح منه بالتمسك بهويَّته، التي يستمدها من جذوره في بلاده.

وفي إطار دفاعه عن بلاده، لا يكتفي الطيب صالح بتبيِين محاسنها؛ لأن ذلك مِن قبِيل الدفاع فقط، ولا بد من الهجوم على العدو في عقر داره حتى تكتمل أركان النصر، ولذلك هاجمهم الكاتب بأسلوبهم نفسه؛ فهم يروِّجون لبلادهم ويشجِّعون أهل بلاده على الهجرة إليها، فلذلك ذكر الكاتب مثالًا يثبت عكس ما يروِّجون له، فذكر قصة (مصطفى): «ليس من أهل البلد؛ لكنه غريب، جاء منذ خمسة أعوام، اشترى مزرعة، وبنى بيتًا، وتزوج بنت محمود»؛ فالكاتب يوجِّه رسالة للغربيِّين تفيد أن بلاده محل اهتمام وأنها وجهةٌ للهجرة، فهي منطقة جذبٍ وليست منطقة طردٍ.

ثم يستطرد الكاتب مبينًا لأهل قريته أن الغربيِّين الذين يروِّجون لبلدانهم من أجل استقطاب المهاجرين من الدول الفقيرة؛ ليس في بلادهم ما يميزها أو يرفعها فوق غيرها من بلدان العالم؛ فهم «منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم، مثلنا تمامًا، يولدون ويموتون، وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلامًا بعضها يصدق وبعضها يخيب، يخافون من المجهول، ويَنشُدون الحب، فيهم أقوياء وبينهم مستضعَفون»، وفائدة هذه الصور الواقعية التي ذكرها الكاتب؛ التأكيد على عدم تفرُّد تلك البلدان بمزيةٍ لا توجد في بلادنا العربية.

ويحرص الكاتب في سياقاته السردية، على أن يُظهِر بين الحين والآخر جمال الطبيعة في بلاده، ويحرص أيضًا على ذكر ما تتعرض له من طوارئ؛ ليثبت أن أهلها راضون بها في جميع الأحوال، يقول: «كانت ليلة قائظة من ليالي شهر يوليو، وكان النِّيل قد فاض ذلك العام أحد فيضاناته التي تحدث مرة كل عشرين أو ثلاثين سنة، وتصبح أساطير يحدِّث بها الآباء أبناءهم، وغمر الماء أغلب الأرض الممتدة بين الشاطئ وطرف الصحراء حيث تقوم البيوت، وبقيت الحقول كجزيرة وسط الماء، وكان الرجال ينتقلون بين البيوت والحقول في قوارب صغيرة، أو يقطعون المسافة سباحةً»، يتحدث في هذه الكلمات عن أحد الفيضانات، لكنه يتحدث وكأنه يتناول صورة جميلة يصف محاسنها؛ فأهل بلده لديهم الخبرة في التعامل مع تلك الطوارئ.
ويستطرد الكاتب قائلًا: «فمضيت أتسكَّع في شوارع البلد الضيقة المتعرجة، تلامس وجهي نسمات الليل الباردة، التي تهبُّ من الشَّمال محمَّلة بالنَّدى، برائحة زهور الطلح وروث البهائم، ورائحة الأرض التي رُوِيت لتوِّها بالماء بعد ظمإ أيام، ورائحة قناديل الذرة في منتصف نضجها، وعبير أشجار الليمون»، يحرص الطيب صالح على وصف بلاده بجمال طبيعتها، فهو لا ينسى هدفه الذي يرغب في تحقيقه؛ وهو التصدي للحرب الفكرية التي تشنُّها دول الاحتلال من أجل تنفير أهل بلاده من البقاء فيها، وحثِّهم على السفر خارجها.

ولا يفوت الكاتب أن يعرِّج على ذِكر مساوئ الغربيِّين المحتلِّين الذين سيطروا على بلاده بغير حق، وعملوا على التفرقة بين أفراد البلدة الواحدة، يقول الكاتب على لسان أحد الموظفين المتقاعدين وهو يتكلم عن أولئك المحتلِّين: «كانوا يسخِّروننا نحن الموظفين الصغار أولاد البلد لجلب العوائد، ويتذمر الناس منَّا ويشكون إلى المفتش الإنجليزي، وهو الذي يرحم، وهكذا غرسوا في قلوب الناس بُغضنا نحن أبناء البلد، وحبَّهم وهم المستعمرون الدخلاء».

ويوضح الكاتب نظرة الإنجليز إلى بلاده، فهذا أحدهم يقول: «ها أنتم تؤمنون بخرافات من نوع جديد؛ خرافة التصنيع، خرافة التأميم، خرافة الوحدة العربية، خرافة الوحدة الأفريقية؛ إنكم كالأطفال، تؤمنون أنَّ في جوف الأرض كنزًا ستحصلون عليه بمعجزة، وستحلُّون جميع مشاكلكم؛ إنها أوهام، أحلام يقظة»، وهذه الكلمات من أسلوب الحرب النفسية التي يلجأ إليها الغربيُّون لإحباط عزيمة الدول الموجهة إليها أطماعهم؛ فهم يعملون على زعزعة ثقتهم بأنفسهم حتى يبحثوا عن الغربيِّين ويكِلوا إليهم أمورهم، ولذلك قال هذا الرجل الإنجليزي في موضِعٍ آخر: «إنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا، كنتم تَشْكون من الاستعمار، ولمَّا خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر، يبدو أن وجودنا -بشكل واضح أو مستتر- ضروري لكم كالماء والهواء»، وفي مواجهة هذه النظرة الاستعلائية الكاذبة من قِبَل المحتل؛ يركز الطيب صالح على إثبات الفوارق الكبيرة بين بلاده وبين ذلك المحتل، من حيث الجذور والهويَّة وأيضًا من حيث طبيعة البلاد.

إن تعمُّق الطيب صالح في تبيِين تربص الغَرْب بالعرب والأفارقة؛ هو الذي جعله جاء بشخصية مصطفى ليكون لاجئًا إلى القرية التي يقطنها بطل الرواية، مع أن مصطفى نفسه سوداني مثل أهل تلك القرية، لكنه كان تابعًا للإنجليز؛ فهو «من القبيلة التي عمل أبناؤها روَّادًا لجيش كتشنر [ت: 1916م] حين استعاد فتح السودان، وكان مفروضًا أن يكون له شأنٌ بحسب مقاييس المفتِّشين والمآمير»، لقد أراد الكاتب أن يبيِّن أنَّ أتباع الغربيِّين ساءت عاقبتهم، ولذلك قال مستطردًا وهو يذكر مصطفى: «لم يجد قبرًا يريح جسده في هذا القطر الممتد مليون ميل مربَّع»، يحرص الكاتب على أن يوضح أنَّ الذين خانوا بلدهم وتآمروا مع العدو المحتل؛ لا يَنْعمون بشيء في بلدهم ولو كان مكانًا صغيرًا يُدفنون فيه.

ويبدو أن الكاتب اتخذ من شخصية مصطفى سعيد رمزًا لأعوان العدو، لذلك وصفه في أكثر من موضِع بأنه أكذوبة، بل جاء الوصف بذلك على لسان مصطفى نفسه أحيانًا، وقد وظَّف الكاتب عناصر روايته من شخصيات وأحداث وغيرها، في سياقات تصبُّ في تيَّار دعوته إلى التمسك بالهويَّة والأصل والجذور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى