الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم أيمن عبد الحميد الوريدات

صامد

اتصل غسّان على هاتف والدته النقّال ثلاث مرّات وأكثر ولم ترد، حينها أسرع ذو الثلاثين عامًا من بيته إلى بيتِ أهله، ودقّ البابَ وولجَ إلى غرفة والدته قائلا: هيّا يا أمّي، مريم في حالة ولادة، وألم المخاض يزداد، قومي معي لنصطحبها إلى مستشفى المخيّم، كلّ هذا لم يستغرق عشر دقائق فبيت ذويه في المربع الثاني من المخيم وبيته في المربّع الأوّل، ويمكن الوصول من خلال الزقاق بسرعة، مسك بيد والدته ذات الخمسين عاما، خمسين عامًا عاشتها تحت الاحتلال، هي خمسون عددًا لكنها مئة وأكثر في مقياس المعاناة، المقياس الّذي لا يعرفه إلا الفلسطيني، وبالذات فلسطينيّ المُخيّم، فأمّ غسّان أخت شهيد، وزوجة أسير، وعمّة كسيح، وخالة مبتور، وتعيش كلّ يوم معاناة من نوع نادر، معاناة لا تراها حتّى في الأفلام، وقوف وتفتيش على المعابر في كلّ حركة حول المُخيّم، اقتحامات ليليّة ونهارية بسبب ودون سبب، إهانات من جنودٍ طارئين على هذه البلاد، لكنّهم كما كان يقول لها أبو غسّان دائما: هم عابرون.

ما زال غسّان يُمسك بيد والدته ويحثُّ الخطى، وهو يدعو في نفس الوقت ألا يتفاجّا بنقطة تفتيش أو اقتحام للمخيم. وصل بيتهَ، وما زال طَلقُ الولادة يتسارع، اتصل بالإسعاف، وصلت السيّارة دون مفاجآت خلال دقائق، حمل المسعفون المرأة الولّادة، وركب معهم أمّ غسان وغسّان، وانطلقت السّيارة مسرعة مُطلقة صوتها في مثل هذه الحالات ليفسح لها المّارون الطريق.

أمام باب الطوارئ في المستشفى يصطفّ الناس ويسرعون إذا وصلت سيّارة الإسعاف ليروا ما يحدث، ومن الذي تحمله السيّارة وما السبب؟ هل هي إصابة لمقاوم أم شهيد أم حادث عرضيّ؟ كلّ هذه التساؤلات يُطلقها أهل المخيّم إذا مرّت من أمامهم سيّارة إسعاف أو اصطفت أمام باب الطوارئ، ففي المُخيّم كلّ شيء وارد، والناس يعرف بعضهم بعضا تماما كما يعرفون عدوّهم.

بسرعة ومهارة أنزل المسعفون زوجة غسّان وتوجّهوا بها فورا إلى قسم الولادة، وهناك تولّى الأمر أخصائيو القسم، وحاولوا تطمين غسّان وأمّه وحماته الّتي وصلت بعدهم بقليل، حاولوا تطمينهم بأنّ الولادة ستكون طبيعيّة وبأنّ الأمور تحتَ السّيطرة، في أقلّ من نصف ساعة خرجت قابلة من القسم وأبلغت الموجودين بقولها: " مبروك، أجاكم صبيّ، يتربّى بعزكم، وين الحلوان؟" ابتسم غسّان وانفرجت أساريره، ومدّ يده إلى جيبه وأخرج قطعةً من النقد ووضعها في يد القابلة وهي تشكر وتدعو، قام غسّان وقبّل رأس والدته الّتي قالت له فورا: مبروك صامد يا أبا صامد، ردّ: نعم صامد، ومرّ في مخيّلته صورة والده الأسير، الصورة التي لا تفارق خياله، وقال: الله يلعن الاحتلال الّذي يجعل فرحتنا دائما ناقصة، كيفَ سأخبر والدي بقدوم صامد؟!! آه آه قالها بحسرة، ثمّ قال: في الزيارة القادمة في الأسبوع المُقبل سأخبره.

غادر غسّان المستشفى تاركا زوجته ومولودها برفقة أمّه وحماته، وتوجّه إلى سوق المخيّم ليحضر صحنًا من الكبدة كما أوصته والدته، مرّ في شوارع المخيّم وزقاقه، وهو يتخيّل أيامه الخوالي في هذه الزقاق، هنا لعبنا وهنا نشأنا، وهنا سوف ينشأ صامد، مرّ في زقاق ضيّق وتذكّر كيف طارده جنود الاحتلال بعد أن ألقى عليهم الحجارة هو ورفاقه، وكيف هرب، ثمّ باغته الجنود من زقاق خلفيّ وألقوا القبض عليه، كان حينها لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، لكنّه كان وما زال مُقاومًا، مرّ في خاطره شريط الأسبوع الّذي قضاه في المعتقل بعد هذه الحادثة، تذكّر المعاملة الوحشية للمحقّق، الضرب والشبح وقمع الأظافر، وعدم النوم، والبصق في الوجه، وتذكّر حينها أنّه قال للمحقّق أنا طفل، فردّ المُحقق: أنتَ مُخرّب وليس في الفلسطينيين أطفال، كلّكم وحوش، تذكّر هذا ودعا: يا ربّ، لا يكبر صامد إلا ويكون الاحتلال قد زال؛ فهو لا يريد أن يعيش ابنه ويُعاني كما عاش وعانى، هو يريد أن تكون بلاده محررّة كما كلّ البلاد، يُريد أن يعيش في بلاده حرًّا.

وصلَ إلى المطعم فبادره صاحب المطعم: مبروك يا غسّان، رأيتك في سيّارة الإسعاف، ماذا رزقك الله ؟ أجاب: صامد، الحمد لله، صامد. وأعدّ له صاحب المطعم صحن الكبدة ووضع معه خبزتين وبعضًا من قطع المُخلل وعُلبة لبن، وعاد غسّان إلا المستشفى.

في زقاق المخيّم وشوارعه ذاتها الّتي نشّا فيها والد صامد، نشأ صامد وترعرع، وكان اسمه حافزًا له على الفعل المقاوم، وكان تاريخ العائلة الحافل بالنضال حافزه الأكبر، فمن العائلة عشرات المقاومين الّذين أذاقوا الاحتلال الويلات، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، ومنهم من هو في المُعتقل، ومنهم المُبعد، حتّى في المدرسة يُمازحه المعلّمون والزملاء بقولهم: متى سيتمّ اعتقالك؟ متى دورك في الشهادة، فيردّ: ينقلع الاحتلال ويمين الله لن أشتري مسدسا حتى لو كان من البلاستيك، لكن ما دام الاحتلال جاثما فوق صدورنا فنحن صامدون ومقاومون، "فإمّا حياة تسرّ الصديق وإمّا مماتٌ يغيظ العدى" ويُكرّر لا أقولها مازحا وسوف ترون، لن يدوم الاحتلال.

عاش صامد عيشة أهل المُخيم، تضييق من الاحتلال في كلّ صغيرة وكبيرة، إغلاقات بسبب ودون سبب، اعتقالات لكل الأعمار، أغلاق للمدارس، ومنع لطلاب الجامعات من الخروج للمدينة حيث الجامعات، كلّ هذا وصامدٌ يعيش القهر ذاته الذي عاشه أهله منذ عشرات السنوات ولا شيء يتغيّر، كان يُردد دائمًا: المقاومة حقّنا المشروع، وزوال الاحتلال حتميّ.

بدأ اسم صامد يلمع ويسطع في المُخيّم، وأمه وأبوه يحذّرانه يا صامد قاوم بالعقل، لا تنكشف، لسنا بحاجة إلى المزيد من المآسي، فيرد: أنتما تعرفان أنّ المأساة هي الاحتلال، لكنّكما تخافان عليّ، وأنا مثلي مثل أهل المخيم لا يرضون بالاحتلال وسنقاومه.

ذات مساء مُلبّد بالغيوم خرج صامد من مركز المُخيّم الرياضيّ بعد أن أنهى حصّة اللياقة، فإذا بسيارة أمام المركز يخرج منها رجلان بلباس مدني ويُشهران السلاح في وجه صامد، اركب معنا دون إزعاج أو نقوم بتصفيتك وننسحب، وهذا فعلٌ قد كرّره جنود الاحتلال المُستعربين كثيرا، صعد معهم، واقتاداه إلى مركز التحقيق خارج المُخيم، وجّه إليه المحقق الكثير من الأسئلة كان آخرها: متى ستنفّذ عملية ضدّنا؟ استغرب وقال: أنا لا أنفّذ عمليات، إذن لماذا تتدرّب؟ ما حاجتك لهذا الجسم الرشيق؟ ما رأيك لو بترنا لك يدًا؟ أو جعلنا فيك إعاقة لا تقوى بعد عى الحركة؟ هي حرب نفسيّة يُمارسها المُحقّق على صامد، وصامد يُنكر أي تُهمة ويقول: أنا مُهتمّ بدراستي وسأنهي الثانوية هذا العام، ثم سأدرس في الجامعة والسلام، استغل المحقق كلمة ( السلام) وقال: أنتم لا تريدون السلام معنا، لو أردتم السلام لعشنا سوية بسلام، ضحك صامد ساخرا، فلكمه المُحقق لكمة قوية كادت تُفقده صوابه لكنّه تمالك، ثم قال له المحقق: انقلع من عندي وإن عُدتَ هنا ثانية لن تخرج سليما، عادَ إلى المخيم ووصل مشيا على الأقدام بعد منتصف اللّيل بساعتين، وتسلل إلى غرفته وأغلق الباب ظانّا أنّ ذويه في سُبات عميق، فإذا بوالده فوق رأسه يسأل: ماذا يريد أولاد الكلب منك؟ لا شيء تحذير وتهديد ووعيد.
لم تمرّ هذه الحادثة على صامد مرور الكرام بل رسّخت في وجدانه حقّه وحقّ شعبه في المقاومة، وصار يرى في كلّ حركة من حركات حياته فعلا مُقاومًا، فهو يدرس ليكون مُقاوما، ويتدرّب ليتقوّى على المُقاومة، ويأكل ليقاوم و... .

بعد هذه الحادثة بأسبوعين فقط اعتقل الاحتلال مدير المدرسة الثانوية في المُخيّم وهو رجل خمسينيّ يعلوه الوقار، ويحظى باحترام أهل المخيّم، اعتقله المُخيم لأنه ألقى كلمة في الإذاعة الصباحيّة حثّ فيها الطلاب على حُب الوطن، وعلى العِلم وبأنّه دون العلم لن نهزم هذا العدو، فعدونا يخاف العلم ويُحب الجهل، اعتقله الاحتلال ونكّل به، وانتشر الخبر في المخيّم، فهبّ أهله لمواجهة الاحتلال، وللمطالبة بالإفراج عن المدير، لكنّ الاحتلال – كعادته- أمعن في قمعه للمتظاهرين، واندلعت المواجهات بين كرّ وفرّ ، بين شباب مُتسلحين بإيمانهم بقضيّتهم، وبين مُحتل مُتعجّرف متسلح بترسانة من أحدث الأسلحة، وصار المُخيم ساحة للمواجهات، وكان الشباب يواجهون العدو دون رهبة، وكان صامد في المقدّمة دومًا، يشدّ من أزر زملائه، وينطلق أمامهم، وكأنّه متمرّس مُتدرّب، يرمي العدو بالحجارة فتصيب، ويرمي سيارات المُحتل بالمولوتوف، ورمى ذات مرّة عُبّوة مولوتوف محلية الصنع، صنعها وزملاؤه، يرميها وهو يُردد: " وما رميتَ إذْ رميت" فتصيب جيبًا عسكريا فتحرقه وتُصيب منه فيه وينسحب صامد بسلام، استمرت هذه المواجهات ثلاثة أيام، أفرج الاحتلال بعدها، وبعدَ أن عاث فسادًا بالمُخيّم، أفرج عن المدير، وبدأت الأوضاع تهدأ تدريجيّا، وحينها بدأ الاحتلال الخبيث باعتقال الشباب بطريقة فرديّة، وكان من أهم المطلوبين صامد فهو قد تسبّب بإحراق الجيب وإصابة الجنود، نصحه بعض المُحامين ألا يسلّم نفسه فالحكم لن يقلّ عن خمسة عشر عامًا بأحسن الأحوال، أخذ بنصيحتهم، كان الاحتلال يتر>ّد على بيت أبي صامد مرتين صباحا ومساء، ويراقب البيت باستمرار، دبّر المقاومون لصامد طريقة يختفي فيها عن الأنظار، وصار صامد مطلوبا، بل المطلوب الأوّل في المُخيّم، يعيش بسريّة بعيدًا عن أعين الاحتلال وبعض عيونه وجواسيسه، توّقف حلم صامد بالدراسة، ولم يتوقّف حلمه في التحرير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى