الاثنين ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم أيمن عبد الحميد الوريدات

ارتحتُ لك!

اسمعْ منّي يا صديقي، لنْ أتزوّجَ إلّا امرأة بيضاءَ، بل ناصعةَ البياض تمامًا مثل بياض الثّلج الّتي قرأنا عنها في القصص حينَ كنّا صغارًا، هذهِ الكلماتُ قالها لي صديقي المُقرّب عبّاس حينَ كُنّا في الصف الثاني الثانويّ، هززتُ رأسي مُوافقًا وقلتُ له: هذا حقّك الّذي لا يُساومك عليه أحد، بل سأشجّعك عليه وأسعى لمساعدتكَ حينَ يحينُ أوانُه، أنا كنتُ أعرفُ سبب كلامِه هذا، والحالة النفسيّة الّتي يمر بها حين قال هذا الكلام؛ فقَبْلَ أسبوعين من هذا الكلام فقط كانَ مُعلّمُ الفيزياء الفظّ قدْ تكلّمَ مع عبّاس ذي البشرة السّوداء بكلامٍ أوحى به بعنصريّة بغيضة، بل كانت عُنصريّة واضحة، فقد قال له حين سأله عن علامته في المشاركة: سوداء مثل وجهك، ضحك حينها عددٌ من الطلاب مريضي النّفوس، وتضايق عبّاس وتغيّبَ عن المدرسة يومين، وتضايقَ أغلب طلاب الصف من المعلّم وقُمنا بإبلاغ المُرشد بما حصل، وكنّا على وشكِ تقديم شكوى إلى مديرية التربية والتعليم، إلّا أنّ المرشد نصحنا بألّا نفعل وبأنه سيتولّى الأمر، ولن يسمح لهذا بالتكرار من أيّ كان، ثمّ ابلغنا بأنه والمدير أنّبا المعلّم.

عبّاس ذو البشرة السوداء يحمل قلبًا أبيَض، ويعرف هذا القلب القريبُ والبعيدُ، وكلّ من يتعامل مع عبّاس يصلُ إلى هذه النتيجة بعد لحظاتٍ فقط من معاملته له، فعبّاس كتابٌ مفتوح، قريبٌ للقلب، مَرِحُ النّفس، واسع الثقافة يتحدّث معكَ في أيّ شيء تُريده، يُفرحُ قلبَكَ حديثُه وأسلوبُه، فيأسركَ كلامُه وترجو ألّا يسكتْ، لكنْ ليس كلّ الناس سواء، فهناكَ من ينفرُ منه لسواد بشرته، وكأنّنا نحن من اختار لون البشرة أو الجنس، هكذا هم بعض البشر، يحملون قلوبًا سووداء.

كنتُ الصديق المقرّب جدًّا من عبّاس، فلا يُذكَر عبّاس في المدرسة أو الحيّ إلّا ويُذكر اسمي معه؛ في الصفّ نجلس سويةً، وفي الحيّ نذهبُ إلى الصّلاة ونعود معًا، ونذرعُ زقاقَ الحي كتفًا على كَتِف، ونحتسي القهوة أو الشّاي سويةً في المقهى أو بيتِ أحدنا، وفي حفلات الأعراس والأفراح ندبكُ أنا وعبّاس جنبًا إلى جنب؛ لذا كنتُ إذا ضايقه أحدٌ بشيءٍ من العنصريّة أتصدّى له، فأوبّخ ولا أتهاون، وكان كثير من الأصدقاء يشدّون على يدي ويفعلون مثلي.

مرّت الأيامُ سريعة كعادتِها، وأنهينا الثانويّة ومشى كلّ منّا في طريق حياتِه الجامعيّة، ودخلنا دوّامة الأيامِ، فأنا قُبلتُ في جامعة تبعدُ عن مكانِ إقامتنا مئتي كيلو مترًا ممّا اضطرني للإقامة هناك، أعودُ كلّ أسبوع أو أسبوعين وفي أيام الامتحانات قدْ أغيبُ مُدّةَ شهر كامل أو يزيد، وعبّاس قُبلَ في جامعةِ المدينةِ الّتي نحنُ فيها، يُنهي دوامه ويعودُ بعد العصرِ أو قبلَه إلى الحيّ، وكنتُ أقولُ له: يا فرحتك يا عبّاس!! تُنهي المحاضرات وتتخلّصُ من عنائِها عندَ أمّك وأبيك وبينَ أُسرتِك، فتأكل وتملأ معدتكَ بما لذّ وطاب، وأنا أعودُ بعد شقاء المُحاضرات لأبدأ بإعداد طعامٍ الهدفُ منه ملْء المَعِدة لقتلِ الجُوع، فقد سئمتُ من أكل المطاعم الجاهز يا عبّاس.

كُنّا أنا وعبّاس نتحدث بشكلٍ شبه يوميّ، وإذا ما رجعتُ من جامعتي يكون اللّقاء الحار، فأسردُ له ما حدثَ معي ويسردُ ويقصّ ما حدث معه، وما حدثَ في الحيّ من أحداث ساخنة وباردة، وصرتُ ألاحظ في كلّ زيارة ألتقي بها بعبّاس تغيّرًا رائعا في شخصيّته الرائعة أصلا، فإقباله على الحياة وشعوره بجمالها يزداد، فترى الفرحَ في عينيه يقفزُ منهما، وتُحسّ بأنّ قلبه يزدادُ اتّساعًا ورقّة إلى رقّته، وصارتْ كلماتُه وجملهُ مُرتّبةً وشاعريّة، وكان يقول لي: الحياةُ الجامعية حياة أخرى، أُناس غيرُ الأناس، وأفكار غيرُ الأفكار، فيها انطلاق وخيال وجمال، كُلّ هذا في السّنة الأولى من دراسته الجامعيّة، وصار عبّاس يقومُ بمحاولاتٍ لكتابة الشّعر ويُسميها حالة شعريّة، ويعرضها عليّ، فأقول له: اكتبْ يا عبّاس قبّاني، فيردُّ: لستُ بشاعر، هذه خربشات، وفعلا أنا وهو نُدركُ أنّها ليست أشعارا بل محاولات لكتابة المشاعر والتعبير عنها.

في شتاء السنة الدراسية الثالثة من الجامعة، صرتُ كلما أتصلُ بعبّاس لا يردُّ إلا بعد مرتين أو ثلاثة، وصار خطّه كثيرَ الإنشغال فلا أرنّ إلا ويكون الردّ " الهاتف مشغول بمكالمة أخرى" فأرسل له برسالة فيردُّ بعد حين، فأسأله عن سبب انشغال خطّه المُتكرّر فيتملّصُ ولا يجيب بشكل صريح، فخالجني شعور بأنّ عبّاس وقعَ في مصيدة الحُب أو في جب الحب، ولكنّي كنتُ لا اُلحّ عليه في إبداء الأسباب فأنا أعرف بأنه إن حصلَ معه شيء فسوف يُحدّثني به، فأنا أمينُ سرّه وهو كذلك، وتنقضي الأيام وتجري مُسرعة كأنها تنحدرُ من عُلوّ، وتقلُّ لقاءاتنا وتشحُّ؛ فعبّاس صار يعمل بعد الجامعة مُحاسبًا في أحد المراكز التجاريّة لِيُعينَ نفسهَ في المصاريف الجامعيّة، ويُخفّف العبء عن كاهل والده الّذي يُعيل أسرة كبيرة، يعمل عشر ساعات مُتواصلة طوال أيام الأسبوع، يعود إلى البيت متأخرًا فينام ليصحو على دوامه، هذه هي الحياة معاناة في معاناة، فعبّاس لا يأخذ استراحة إلا يوم الاثنين فقط، ويوم الاثنين أكون قد عُدت إلى جامعتي، فصرنا لا نلتقي، ونستعيض عن اللقاءات بسرقةِ واختلاس دقائق عبر تطبيقات الاتصالات، وهاتف عبّاس يظلّ مشغولا على ما يبدو مع مشروع حبيبة القلب.

في الصيف التقينا بعد انقطاع طويل، فبادرته بسؤال مُباغت: مَن هي سعيدة الحظ الّتي أوقعتكَ بشباكها أو أوقعتها في شباكك؟! تغيّر وجهُ عبّاس، وحين أراد التملص من الأجابة تلعثم، ثمّ ضمّني إلى صدره وقال: كنتُ أنتظرُ الفرصة المُواتية لإخبارك يا صديقي؟ وفعلا أنا أعرف صدقه وبأنه كان سيخبرني إذا نضجت الأمور تماماً، فالحب ينضجُ وله أوانٌ يعرفهُ المُحبون.

قال: غدا نلتقي وأبسط أمامك الموضوع وأُسهِبُ، لعلّك تكتب هذا في قصّة من قصصك!

اتفقنا على اللقاء في اليوم الثاني في قهوة خارج حدود الحيّ، وجلسنا فقلتُ له: كلّي شوق لأسمع قصّتكَ الجديدة، وأظنها رائعة مثلك، هاتِ ما لديكَ هات، وقلْ كلّ صغيرة وكبيرة، كُلّي أذن صاغية، هيّا انطلق.

يقول: قبلَ أشهر وفي إحدى المُحاضرات أصرّ الدكتور أن يكون مشروع إحدى المواد مُشتركًا مع زميل أو زميلة، وبدأنا بالتشاور، وبدأ كلّ منا يختار زميله أو زميلته الّتي سيعمل معه في المشروع، وكانت علاقتي بالكلّ طيبةً إلى أبعد الحدود، حينها ونحنُ نتحاور ونناقش العناوين الّتي طرحها أستاذ المّادة للمشاريع اقتربت منّي حياة، وقالت: عبّاس هل نعمل المشروع سوية؟ دونَ تردّد أجبت بالإيجاب، فحياة زميلة يُجمع الكلّ على تميّزها وجِدّها، وأدبها وخُلقها، فهي حَيّية، قليلة الاختلاط بالآخرين، لا تتكلّم إلا في الوقت المناسب وبالطريقة الأنسب، وحياة مُفعمة بالنشاط والحيوية والعمل معها في المشروع سيكون ناجحا... قاطعته وقلت: آه آه أكمل يا أبا النشاط!! هل هذا السبب فقط؟ قال: والله لقد بادرتني وطلبت منّي العمل معا، دعني أكمل، بدأنا العمل في المشروع وكان المطلوب أن نلتقي في المكتبة ولو ساعة في الأسبوع، لنضع الخطوط العريضة أولا، ثمّ ننطلق في العمل، وقبل كلّ لقاء من اللقاءات الثلاثة الأولى كانت دقّات قلبي تتسارع لا أدري خوفا أم شوقا أم فرحا، وبعد كلّ لقاء منها كنتُ أزجر نفسي وأنهاها فأقول لها: هي زميلة والهدف إنهاء المشروع بنجاح، فتصرُّ نفسي عليّ بأنّ الأمر أبعد من هذا يا ولد، وبعد اللقاءات الثلاث الأولى تيقّنتُ بأن الأمر ليس كذلك بل تعدّاه ربّما إلى إعجاب أو أبعد بقليل، ولا أدري كيف أقنعتُ نفسي بأن حياة تُبادلني شعور الارتياح ذاته، وفي ذات لقاء سألتها وكنتُ جريئا: حياة، لماذا طلبتِ منّي العمل سوية في المشروع؟ سكتتْ، ثمّ فاجأتني بالجواب: ارتحتُ لك، لم أتوقّع أن تكون إجابتها بهذه السرعة، وبهذه الطريقة، لكنّ إجابتها اختصرت عليّ آلاف الأميال، ودفعتني للتفكير بطريقة أخرى، لكنّي تمهّلت، شكرتها حينها، وعدتُ إلى البيت، ولم تفارق كلمة" ارتحت لكَ" مسمعي، وحين وضعت رأسي ليلا على الوسادة كرّرت هذه الكلمة عشرات المرّات وبنغمات مُختلفة وصرتُ أرددّها مُلحنةً "ارتحت لك".

كان عبّاس يسرد بفرح، وأنا أهزّ رأسي وأشجّعه: أكمل هيّا يا ولد لقد شوّقتني، شربنا إبريق شاي كاملا وهو يسرد، ثمّ قال: وصرنا نلتقي أكثر وخارج إطار المشروع، ففي الجامعة بين المحاضرات نجلس سوية إن كان الوقتُ مُتاحًا، ونشرب المشروبات معًا، ونذرع ممرّات الجامعة ذهابا وإيابا، وصرنا مُحبّيْن بمعنى الكلمة، لكن دعني أقول لك ماذا حدث: حين صارحتها بمشاعري، ظلّت خجلةً لدقائق، ثمّ سألتها هل تبادليني نفس الشعور؟ هزّت بالموافقة، حينها طلبت منها أن تجلس ففعلتْ، فقلتُ لها: وبشرتي وسوادها؟! ردّت: اسكتْ، ألم يقلّ سيد البشر" لا فرق بين عربي ولا أعجمي و لا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى؟" فسكتُ، وأدركتُ أنّها تعني ما تقول، ثمّ شغّلتْ هاتفها وقالت: هذه صورة زوجُ عمّتي، فإذا بزوج عمّتها بسواد بشرتي وأشدّ، ثمّ قالت: كُلّنا سواء.

حينها تأكّدت بأنّ مشاعري ومشاعرها لم تكن عابرة، بل كانت متأصلة منذ اللحظات الأولى، صدقني يا صاحبي لم افعل هذا لأنني قلت لك ذات يوم بأنّي سأتزوّج من امرأة ناصعة البياض كبياض الثلج، حينها كنتُ غاضبا من الأستاذ ومن بعض الطلاب، وفكّرت بمستقبل أبنائي وأردتُ ألّا يتعرضوا لما أتعرّض له أحيانًا، لكنّني قلتُها في لحظة غضب وسخط، وحين عدتُ إلى منزلي وقتها قلت لم يختر أحدنا لونه، وسأظلّ مُحبّا للناس أمّا عديمي الذوق فسأعرف كيف أتعامل معهم، فهم قِلّة في مجتمعنا.

آه يا عبّاس وبعد، أكمل، ماذا تنوي؟

قال: أنتَ تعرف بقيَ فصلُ وسوف أتخرّج، وأنا الآن أعمل في المركز التجاري، وموعود بالتثبيت والوظيفة الرسميّة حين التخرّج، حينها سأتقدّم لخطبة حياة لنبدأ حياتنا معا، ولعلمك فقد فاتحتُ والدتي الّتي لا أخفي عنها سرّا وسُرّت بهذا وفرحت، وأظنّ أنّ حياة قد أخبرت والدتها فهي صديقة لها.

مضتْ الأيامُ كعادتها مسرعة وتخرّج عبّاس وحصل على وظيفة جيّدة في المركز التجاريّ، وتخرّجت حياة وتوظّفت، ثم خطبا، وفي فترة الخطبة وضعا النقاط على الحروف، وخطّطا لحياتهما المُقبلة برويّة، وكان التفاهم بينهما كما قال لي: تمام التمام.

بقيَ أنْ أقول لكم: تزوّج صديقي عبّاس ذو البشرة السوداء والقلب ناصع البياض، من حبيبته حياة ذات البشرة البيضاء والقلب الأبيض، وأقيم لهما حفلٌ بهيج، دبكتُ فيها حتّى تعبتُ، وكوّنا أسرة سعيدة تعيش بهناء، وأنجبا ثلاثة أطفال ولدين وبنت، أحمد وسعيد ووردة، أمّا أحمد فأسودُ البشرة كأبيه تماما، وسعيد أبيض ببياض أمّه، ووردة وردة بيضاء حقًّا، وقد أخذ كلّ منهم صفات من أبيه وأمّه في الشكل، وصفاتٍ معنويّة وخُلُقيّة فكل مَن يتعامل مع أبناء عبّاس وحياة في الحيّ أو المدرسة يُدرك فورًا أنّهم أنقياء القلب، ذوو تربية من الطراز الأوّل، فهم اجتماعيّون لدرجة عالية، منخرطون في الأعمال الخيريّة في الحيّ، ويتميّزون في المدرسة، وصداقاتهم مُمتدّة، يتعاملون مع الكلّ بحب ومودّة، وإن تعاملت مع أيّ منهم ستقول له: ارتحتُ لك!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى