الجمعة ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم مجد غسان حبيب

صراخ على ورق

بدأت أغصان الأشجار تُجلد بسياط غير مرئية من رياح هوجاء والقمر يحاول جاهداً أن يفرّق احتشاد الغيوم ليبرز وجهه المنير بين الحين والحين،

كثيراً ما دأب عمّار يعوّل على حدسه في احتساب خطواته، لكنّه اليوم بالتحديد تنازعته هواجس غامضة لم يحدد كنهها.
اشرأبّ بعنقه الى النافذة ليرى أثر ما افتعلته تلك الغوغاء المفاجئة، فرأى البرميل الصدئ يسقط متدحرجاً مرتطماً بشجرة السنديان في حوش المنزل.

تنفسّ الصعداء، إذ ليس ثمة ما يدعو إلى تلك السوداوية التي رافقته منذ استيقاظه صباحاً، فمهما قست الطبيعة و أحدثت دماراً تبقى أرحم بآلاف المرات مما يحدثه بني البشر.

فرد الأوراق المرتبة فوق بعضها البعض، وأخذ يتفحّص بعينين حائرتين الصفحات المحتشدة بأفكاره.

قرأها - حتى ذلك اليوم - للمرة السابعة، وسؤال يدور ويحوم ويرتطم بحافة اليأس: ما سبب رفض هذه الرواية للمرة الثالثة؟.. إنّها تؤرّخ مرحلة من أهم مراحل العصور؛ هي خلاصة لما تراكم من شرورٍ أدت إلى إغراق العالم ببحار الدم، هي فضح لكل الخيانات المتوارية خلف شعارات العروبة والوطنية، وتجسيد لواقع يباح به قتل أجيال وأجيال بدمٍ بارد.

هي صرخة فلسطيني تتّسع مقلتاه تحدياً أمام بنادق المحتل ولا ترتعشُ جفونه، صرخةٌ توجف صدور هؤلاء المارّين الممتلئة بإيمان أنه أعزل، لكن ما يفوق إيمانهم هو تيقنهم بمعجزاتٍ تجعل كل فلسطيني يثمر ألفَ مقاتل إذا ما انتفضَ وجأر بصوت يخترق عتبات السماء.

كتب صفحات عن أدهم ذلك الولد الذي بترت قدمه وزحف ملطخاً بالدماء ليتفقّد مصير أمه وأخته فاطمة تحت ركام المنزل الذي تهاوى سقفه وجدرانه عليهم وهم نيام، كان دمه يشق طريقاً ملتهباً ممزوجاً بالغبار، فأول ما وجده خصلات شعر فاطمة الشقراء التي انغمست بدماء جمجمتها، وتوارى الجسد الصغير تحت الحجارة لم يره.

قبل يوم واحد ناشدته أمه النزوح إلى بلاد يخلو هواؤها من رائحة الموت، كانت ترتجي إنقاذ ولديها من الهلاك فهب بوجهها صارخاً: ولمن سنترك هذه الأرض يا أمي؟ هل سنتخلى عنها ونتركها للغاصبين يتبجحون بسبيها؟ قالت له الأم ببحة بكاء: لكننا سنموت يا أدهم إذا لم نرحل، فصرخ باكياً: وليكن، إننا على الأقل سندفن في ثراها.

وكتب عن عبد الواحد الرجل الطيب الذي ما فتر حماسه طيلة سنوات عن توزيع الطعام لفقراء الحي وجياعه، وكم غامر تحت القصف بإيصال المؤن الى العوائل المنكوبة حين فقد بصره في إحدى التفجيرات، وجاءه الناس مواسين مصابه وقتئذ، قال لهم: يسرني ألا أرى بشاعة هذا العالم فليذهب نور بصري لست آسفاً.

تأوه عمّار بأسى وتساءل:

كيف لصديقه أشرف أن ينجح بنشر روايته بكل يسر وإعادة طباعتها مرتين على التوالي خلال شهرين؛ وما هي إلا قصة عشق معذبة بين شابّ وامرأة متزوجة تعارفا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأودى بهم هذا العشق إلى الخيانة وتزويق الأعراف والتقاليد، وطمس معالم الأخلاق التي تربينا عليها.

زفر عمّار ليريح صدره من أنفاس ضبابية محبوسة وراح يقرأ فقرة كتبها عن طفل مشرد التقاه في أحد الأزقة منذ أشهر، لم يكن هناك حاجة ليفسر له لسان أنّه ملقى في الشوارع يتيماً بعد تهدّم منزله بفعل وابل الصواريخ المنهال على أمان الأحياء.

دفعه إشفاقه حينها ليشتريَ له الحلوى، فالطفل في أي زمان و مكان وتحت أي ظرف سيء أو جيد تواسيه قطعة الحلوى أكثر من البكاء عليه ورش المواساة.

عندما يعطي شخص غريب لطفل قطعة حلوى يرتسم وسط عينيه دهشة يشي بها اختلاج مقلتيه واهتزاز وجنتيه بما يوحي بشبح ابتسامة لا يلبث أن يختفي، ويتراءى كأن تلك الملامح تستجدي التصديق بقلب خافق يردد:

هل هي لي؟ ماذا بوسعي أن أفعل؟ أأبتسم له عرفاناً؟ أم أفسح مجالاً لمدامعي المحبوسة؟

فهذه اللوحة المنقوشة بمداد واقعنا تستثير العبرات، وتهيج الأشجان، وتستفز الأحزان في قلوب تنضح بالإنسانية، و تدفع الأشراف منا ليقفوا في وجه كل من يجرؤ على تمزيق كياننا، وفي ذات الوقت تكون هذه اللوحة كالمخرز في عيون أولئك المتلصصين من خلف حجاب، الناعقين في الأبواق لتصل بطولاتهم المزعومة إلى الآذان، ومبادئهم المكتوبة على القرطاس إلى العقول، فهم ليسوا سوى مختبئين خلف سباباتهم منتفعين من الدمار أكثر من انتفاعهم من الإعمار؛ فذُعرُ طفلٍ يلوذ وراء جدار منزله المتهدم وساقه ملطخة بدماء أبيه وأخيه، وقهرُ رجلٍ ينتظر ساعات بقرب دكان الخضار ليخلو من الزبائن عله يستلف حبتي بندورة وبيضة ليؤمن وجبة طعام لأسرته وهو يضع في حسبانه أن ذلك الرجل سيركل كرامته أمام الناس فآثر الانتظار درءاً للمهانة أمام الخلق، وبؤسُ امرأةٍ تقضي نهارها في خدمة الأثرياء لتأخذ حصة عائلتها من فضلات موائدهم العامرة؛

كل هذه الأشياء لا تثير شفقة متلصصين يبيعون وطنيات زائفة على المنابر، ويحاربون في الخفاء كل مفكر تضج كتاباته بأوجاع ومعاناة هؤلاء المعذبين.

فكر عمّار إلى متى سيطول هذا الانتظار؟

وكتب:

"أثور و أخبو في لحظات.. أحاول الفتك بدقائق حلمت فيها بزرقة سماء تتثاءب فوق سهول وهضاب بلادي الخضر، تلك الدقائق ما هي إلا حلم بددته أصوات الصواريخ التي أول ما تدمره تبدأ بتدمير أحلامنا".

رمق شاشة التلفاز بعيون زائغة، وتصارع قبل أن يمد يده لالتقاط جهاز التحكم لتشغيله، أصبحت القنوات مبعث رعبه، كأنها تتنافس لتزيد من نزف قروحه بمرأى الوحشية والعنف الذي غزا هذا العالم، لم يجرؤ على تشغيل التلفاز، اكتفى بسماع الغوغاء التي يثيرها غضب الرياح وتفريغ حنقه في برميل الحوش الصدئ.

عانقت أنامله القلم وكتب في رأس صفحة بيضاء:
"ها أنذا أنتظر على ناصية الأحلام
لا شيء يغري انتباهي في زحام الناس،
يمر الزمن لا أتنشق فيه عبق الآمال..
الساعة تقارب القلب إلا نبضاً واحداً،

أتعارك مع وجداني، أقف أمام مرآتي ولا أراني، أتفحص صور عائلتي ولا أكون بينهم، فأنا من بدء تكويني محذوف، متلاشٍ، لا أثير صخباً...

أنا فلسطيني فقط في حالة انتظار على ناصية الأحلام، كل ما ينبغي فعله أن أحرق صفحاتي وأستنشق دخانها فهي غير قابلة للنشر".

قذف القلم، وحرّك عجلات كرسيه إلى الوراء دون أن ينظر إلى قدميه المبتورتين، وثبت كرسيه أمام النافذة شارد النظر بالبرميل الصدئ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى