

«صورة دوريان جراى» الرواية التي قتلت مؤلفها

ولد أوسكار فينجال أوفلا هيرتي ويلز وايلد، الشاعر والكاتب المسرحي والروائي الأيرلندي الأصل ذائع الصيت فى دبلن يوم 16 أكتوبر 1854 من عائلة بروتستانية ملتهبة الطباع مختلة المزاج، وتوفي ـ بعد أن كان المال ينساب بين يديه، يبعثره ذات اليمين وذات الشمال من غير حساب، فى عوز قاس مهين طريدا منبوذا مغتربا، تمتد إليه يد المروءة والإحسان ـ فى باريس يوم 30 نوفمبر سنة1900، وهي نهاية شديدة القسوة على وايلد، بعد الشهرة التى حققها كاتبا مسرحيا مرموقا، ومؤلفا روائيا لرواية ستظل إحدى روائع الأدب العالمي، أي رواية "صورة دوريان جراى" والتي كانت أهم الأسباب الرئيسية فيما آلت إليه نهايته المفجعة، على الرغم مما حققته من تقدير من قبل النقاد. وقبل أن نقدم نبذة عن هذه الرواية يحسن أن نلم بفلسفة أوسكار وايلد ونظرته للفن إلى جانب الإشارة إلى أبرز أعماله الأخرى.
كان أوسكار وايلد نابها فى طلب العلم متفوقا من الناحية الأكاديمية، تخرج فى جامعة أكسفورد المشهورة عام 1878، حيث تلقى العلم على يد نخبة من كبار الأساتذة على رأسهم جون رسكين أستاذ الفنون بها، الذي كان يبشر بضرورة الجمال ونبل العمل ويهاجم المادية واستخدام الآلة التى شوهت جمال الطبيعة، وقد تأثر التلميذ بأستاذه تأثرا كبيرا، إلا أنه رفض ما لدى أستاذه من تشديد وربط للفن بالأخلاق، ولذلك وجد بغيته فى أستاذ آخر من أكسفورد أيضا هو "والتر باتر" حيث فتن وايلد بدعوته إلى الانطلاق والوثنية اليونانية بما تتضمنه من مبدأ عبادة اللذة وقد صرح وايلد نفسه بأن "كيتس" و "فلوبير" و "والتر باتر" هم أكثر الأدباء الذين تأثر بهم على الإطلاق مما كان له أثره الواضح فى تشكيل رؤيته للفن، وقد لخص الدكتور رمسيس عوض (أبرز من تعمقوا فى دراسة أدب وايلد) هذه الرؤية والفلسفة للفن عند وايلد بقوله: "ترتكز نظرية وايلد فى الفن على رفض الواقعية وتأكيد وسمو الفن على الطبيعة والحياة، وعلى المناداة بالفصل عن الأخلاق.
كتب أوسكار وايلد فى بداية حياته مأساة مسرحية بالشعر الحر بعنوان "دوقة بادوا" وقصيدة شعرية بعنوان "أبو الهول"، غير أن أبرز أعماله ظهر فى مجال المسرح النثري والرواية. ففى المسرح كتب: مروحة الليدي ويندومير سنة1892 ـ امرأة لا أهمية لها 1893 ـ سالومي 1893 ـ الزوج المثالي 1895 ـ أهمية أن يكون المرء جادا 1895. وفى مجال الرواية نشر وايلد الأعمال الروائية التالية: جريمة اللورد سافيل 1887 ـ شبح كانترفيل 1887 ـ منزل الفاكهة 1891، صورة دوريان جراي 1891 وفى سجنه الذي استمر عامين كتب " من الأعماق" فى شكل رسالة بعث بها إلى مصدر شقائه وسعادته اللورد ألفريد دوجلاس.
ولم يكتب أوسكار وايلد شيئا ذا بال بعد أن خرج من السجن عام 1897 سوى " قصيدة من سجن ردينج " سنة 1898.
"صورة دوريان جراى" الرواية التي قتلت مؤلفها:
يعتبر النقاد " صورة دوريان جراى " تحفة أوسكار وايلد الأدبية رغم أنهم نعتوها عند صدورها بأبشع الأوصاف، حتى والتر باتر نفسه الذي تجسد هذه الرواية كثيرا من معتقداته استقبلها بفتور، وقد استمد وايلد أحداث قصته من واقعة حقيقية (رغم مناداته بالفصل بين الفن والواقع) وقعت له، ففى عام 1884 توجه وايلد إلى مرسم صديق له اسمه "بازيل وارد" فرآه يرسم صورة لشاب جميل، ولما فرغ من رسمها وانصرف الشاب التفت إليه وايلد وخشي أن يختفي شبابه النضير عندما يتقدم به العمر، فوافقه الرسام على رأيه وتمنى لو احتفظ الشاب بنضارته فى حين يصيب الصورة الهرم.
تبدأ رواية "صورة دوريان جراى" بحديث بين الرسام بازيل هولوورد واللورد هنرى ووتون، نعرف منه أن الرسام فى سبيله للانتهاء من رسم صورة بالحجم الطبيعي آية فى الروعة والإبداع لشاب آية فى الجمال والنضارة اسمه "دوريان جراى" وأنه لا ينوي عرضها لأنه لا يحب أن يتطلع السفهاء إلى روحه وقد تجردت من كل ما يسترها ويستر الرسام فى أذن صديقه اللورد بمشاعر الوله التي اجتاحته عندما وقعت أبصاره على دوريان جراي لأول مرة، ويبدو أنه نسي نفسه فهو يعلم ما فى صديقه اللورد من فساد خلقي، لذلك يحاول أن يمنع صديقه من الاتصال بالشاب دوريان جراى، لكن دون جدوى، حتى لا يفسده بآرائه الأخلاقية العابثة، إذ يخفق فى ذلك، وتقوم صداقه متينة بين دوريان جراى واللورد ووتون فتروق له آرائه ويخضع لها ويتأثر بها خاصة بعد انتحار حبيبته سيبيل، وكأن دوريان جراى قد أخذ صورته من الرسام، فأخذ يتأمل فيها وتمنى أن تهرم الصورة ويبقى شبابه نضرا، ويتحقق له ذلك فى الوقت الذي يكون وصل فيه إلى الدرك الأسفل من الموبقات والفساد الخلقي، وعندما علم الرسام بما آل إليه حال صديقه الفتى، لامه ونصحه أن يثوب إلى رشده، وأراد الفتى أن يعطي الرسام فكرة عن تطور روحه فأطلعه على ما طرأ على الصورة من تغيرات فهالت الرسام بشاعتها، واجتاح الفتى غضب مجنون واعتبر الرسام مسئولا عما هو فيه فطعنه أمام الصورة طعنة نجلاء، قضت عليه، ثم حاول أن يخفى معالم الجثة بتحليلها كيميائيا، ثم خرج كعادته يسعى إلى المجون، فقابل مصادفة جيمس فين أخ سيبيل التي انتحرت من أجله، فأراد الأخير أن يقتله ولكنه نجا من القتل، غير أنه عاد وانتقم منه مدبرا له حادث أودى بحياته، مما يدل على تمكن نزعة الشر منه، وتبلغ الرواية ذروتها عندما يبلغ الاشمئزاز بدوريان جراي كل مبلغ، جعله يقرر تدمير صورته الشاهدة على مدى تدهوره وانحطاطه وانحداره، فصوب إلى الصورة طعنة نافذة تحولت إلى صدره فمات، وسمع الخدم صوت ارتطام جثته بالأرض فأسرعوا إليه ليشاهدوا جثة رجل شائه قبيح اعتلت وجهه الغضون، فلم يكن فى استطاعتهم التعرف عليه لولا الخاتم فى يده وبجواره استقرت صورة لشاب يفيض بالجمال والنضارة وربيع الحياة.
والرواية فى زعم كثير من النقاد تعكس شخصية أوسكار وايلد نفسه الحقيقية وكذلك تعبر خير تعبير عن نظرته للفن، لكن المشين أن تكون هذه الرواية الرائعة أحد الأدلة الرئيسية فى إدانة وايلد أثناء محاكمته حيث اتهم بإشاعة الرذيلة والشذوذ الجنسي وقد قُرئت فقرات من الرواية وكأنها مطابقة للواقع الحقيقي، فحكم على وايلد بالسجن لمدة عامين (1895 ـ 1897 ) ليخرج بعدها محطما، وقد جف نبع الإبداع عنده لتنتهي أسطورة كاتب ملأ النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهرة.
(انتهت)