

عذارى في وجه العاصفة... أنوثة الأرض وميلاد الذاكرة

صدرت رواية "عذارى في وجه العاصفة للأديب جميل السلحوت عام ٢٠١٧ عن مكتبة كل شيء في حيفا، ويحمل غلافها الأوّل لوحة تشكيليّة للفنّان الأديب محمود شاهين.
1. العاصفة لا تمرّ، إنها تُقيم
في روايته «عذارى في وجه العاصفة»، لا يكتب جميل السلحوت عن النكبة بوصفها حدثًا تاريخيًا، بل عن النكبة كقدرٍ دائمٍ يسكن الجسد الفلسطيني.
العاصفة التي يصفها ليست فقط رياح الحرب والتهجير، بل هي تاريخٌ يتكرر بوجوهٍ مختلفة: وجه الاحتلال، وجه الذكورة القاسية، وجه الخيانة، ووجه الصمت.
في هذه الرواية، لا تُكتب الذاكرة بالحبر، بل بالمشي على الجراح. لا يروي السلحوت حكاية، بل يفتح جرحًا كي نسمع نبضه.
2. رحاب... المرأة التي تحمل وطنًا في رحمها
ليست رحاب بطلة الرواية فحسب، بل بنية رمزية عميقة تُجسد تلاقي الأنثى بالأرض.
هي امرأة تُنجب في التيه، تلد في العراء، لكنها لا تلد طفلًا فقط، بل تلد استمرارية الوجود الفلسطيني.
في مشهد المخاض داخل الخيمة، يصبح جسدها نقطة تقاطع بين الأمومة والوطن، بين الألم والخلق، بين الفقد والولادة.
كلما نزفت رحاب، نزفت فلسطين، وكلما صرخت، انشقّ عن صوتها فجرٌ صغير في قلب العتمة.
إنها المرأة التي رفضت أن تموت رغم أن كل شيء من حولها يموت.
وهنا ينجح السلحوت في تجاوز ثنائية الضحية والمظلومة، ليمنح رحاب بطولة الوعي والبقاء. فهي لا تحارب بالسلاح، بل بـ القدرة على النجاة دون أن تفقد إنسانيتها.
3. الرواية كخريطة للألم الجمعي
يمتد النص كرحلة عبور قاسية، من قرية حطّين إلى بحيرة طبريا فإلى الجولان وجرمانا، وكل محطة هي فصل من رواية التيه الفلسطيني الكبرى.
يحوّل السلحوت المكان إلى شخصية حيّة، تتألم وتتنفس وتبكي مع الناس.
المكان في الرواية ليس جغرافيا بل كائن منفيّ مثلهم، يهرب من قذائف الحرب إلى عراء الذاكرة.
في المقابل، الزمن لا يسير إلى الأمام، بل يدور في حلقة لا تنتهي — فكل جيل يولد في خيمةٍ جديدة.
حتى الوليد "كمال" في ختام الرواية لا يولد في وطن، بل في ظلّ وطنٍ غائب.
إنه "كمال ناقص"، يولد في الخسارة، ليصبح رمزًا لاستمرارية الغياب.
4. صوت اللغة: موسيقى الرماد
لغة الرواية هي لغة الرماد المشتعل — بسيطة في ظاهرها، لكنها تحترق من الداخل.
يكتب السلحوت بصدقٍ موجع يجعل القارئ يعيش المشهد كما لو كان لاجئًا آخر.
في الحوار بين الشخصيات تتسلل فلسفة الحياة والموت، وفي السرد تتجلى موسيقى الوجع الشعبي الفلسطيني، الممزوجة بالأمثال والحِكم والدعاء.
"يا لوعتي، ما أصعب الفراق!"
بهذه العبارة تختزل رحاب الرواية بأكملها — الفراق ليس عن البيت فقط، بل عن الذات الممزقة بين الماضي والحاضر.
5. نقد المجتمع الذكوري والتواطؤ الإنساني
لا يكتفي الكاتب بفضح الاحتلال، بل يجرؤ على تفكيك الاحتلال الداخلي أيضًا:
ذلك الذي يمارسه الأب على ابنته، والزوج على زوجته، والمجتمع على المرأة.
يُعرّي النص العنف الناعم الذي يلبس ثوب التقاليد، فيجعل القهر "مُباحًا" باسم الشرف والطاعة.
وهكذا تصبح رحاب ضحية ثلاثية الأبعاد:
ضحية الاستعمار الخارجي،
وضحية السلطة الذكورية،
وضحية المجتمع الصامت الذي يغسل يديه من الألم كما يغسلها من الطحين في مشهد النزوح الأول.
السلحوت هنا لا يكتب عن امرأة فحسب، بل عن بنية قهر عربية متوارثة.
6. البنية الرمزية: من "رحاب" إلى "كمال"
كل اسم في الرواية مشحون بدلالته:
رحاب: من الرحابة، النقاء، الاتساع… لكنها تعيش في ضيقٍ خانق.
خالد: اسم يوحي بالبقاء، لكنه أول من ينهار أمام الخوف.
كمال: ابن الولادة الجديدة، لكنه يولد في النقص، في غياب الوطن، كأن اسمه سخرية قدرية من مصيرٍ لا يكتمل.
تتحول الشخصيات إلى رموز:
المرأة = الأرض
الجنين = الذاكرة
الخيمة = الوطن المؤقت
الماء = الاغتسال من الخوف دون تطهير من الفقد
وهكذا يكتب السلحوت روايةً تحوّلية تتجاوز الواقع إلى الأسطورة الإنسانية.
7. فلسفة النص: بين الوجود والمحو
في العمق، هذه الرواية ليست عن اللاجئين فقط، بل عن جوهر الإنسان حين يُسلب منه المكان والكرامة.
إنها سؤال فلسفي كبير:
هل يبقى الإنسان إن لم يبقَ له وطن؟
يجيب السلحوت – ضمناً – أن الوجود لا يقاس بالأرض التي نسكنها، بل بالذاكرة التي تسكننا.
من هنا تتحول الرواية إلى تأمل في معنى الهوية، في علاقة الجسد بالذاكرة، والأنثى بالخلق، والرحيل بالبعث.
وهي بهذا تُقارب روح "الوجودية المقاومة" التي تجعل من الألم مادة للبقاء.
8. ابتكار السلحوت الجمالي
يتميّز العمل بجرأة في الجمع بين الوثيقة والوجدان.
إنه لا يقدّم النكبة بلغة المؤرخ، بل بلغة القلب، فيجعل التاريخ إنسانيًا لا سياسيًا.
كما يبتكر السلحوت ما يمكن تسميته بـ الواقعية الحنينية —
أسلوبٌ يمزج الواقعية القاسية بالحنين الذي يجعل الذاكرة قابلة للحياة لا للموت.
في ذلك، يقترب من غسان كنفاني في الروح، ويبتعد عنه في المنهج، إذ يختار السلحوت الرحمة لا الغضب، والبوح لا الشعارات.
9. الخاتمة: أنوثة الحكاية وذكورة الألم
تخرج من الرواية شاعرةً أن كل وطن أنثى، وكل أنثى وطنٌ مؤجل.
رحاب لم تهزمها الحرب ولا الذكور ولا الخيام، لأنها ببساطة تحوّلت إلى ذاكرة تمشي على قدمين.
لقد استطاع جميل السلحوت أن يمنح للنكبة قلبًا ينبض باسم امرأة،
وأن يجعلنا نصدّق أن الكتابة أحيانًا شكلٌ من أشكال المقاومة الهادئة.
إنهم لم ينتصروا، ما دام أحد ما لا يزال يكتب، وما دامت امرأة تلد رغم العاصفة.
خلاصة نقدية
رواية عذارى في وجه العاصفة عملٌ يتجاوز حدود السرد التقليدي إلى أفقٍ تأمليٍّ فلسفيٍّ وإنسانيٍّ عميق.
إنها تضع المرأة في قلب التاريخ، لا على هامشه،
وتقدّم الفلسطيني لا كرقمٍ في إحصاء الأمم المتحدة، بل ككائنٍ يقاوم الموت بالحبّ،
ويعيد كتابة الوطن على مقاس رحمٍ يتّسع للحياة رغم الخراب.