السبت ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥

قراءة انطباعية لنص: «نحتاج للأبنوس»*

الشريف حسين بدر

حين تقرأ نصًّا لشاعر، فهو لا يمنحك كلمات، بل يسلمك مفاتيحًا لعوالمه الداخلية، يُودِعُك أسراره في قميص من مجاز. والنص الذي قرأته للشاعر ناشد العوض لا يُقرأ، بل يُستشف ويُستنشق كعطر قديم، يحفّز الذاكرة والذائقة معًا.

"نحتاج للأبنوس"، عنوانٌ يختزل حسًا فلسفيًا في لحظة شعرية، يستدعي الأبنوس بوصفه رمزًا للقيمة والنُدرة والصلابة الجمالية. ولعل في اختياره دلالة على بحثٍ داخلي عن الثبات والعمق في زمن هشّ، تغدو فيه الحروف معلّقة بين الوهم والحقيقة.

في هذا النص، يسكن الشغف "اليتيم"، وتطل "القلادتان" كتوأمين من الذاكرة، في يد الحبيبة أو في قلب القصيدة، وتُطرح "الليمونة" نكهةً وسؤالًا، كما في بيت محمود درويش:

"الليمونةُ نسيتْ أن تكونَ صفراء… ونسيتْ طعمها"

وهنا، لا تُمثّل الليمونة مجرد عنصر طبيعي، بل هي استعارة تُعبّر عن الحنين الفطري للأصالة، وربما عن امرأة، أو وطن، أو ذاكرة مشتركة.

أما "اليراع" الذي ترتقي إليه النكهات، فهو إشارة أنيقة إلى الكتابة بوصفها طقسًا شعريًا راقيًا، كما في قول المتنبي:

"وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا"

في نص دكتور ناشد، تبدو الكتابة هي الخلاص، وهي الخيانة أيضًا، حين "يدنو الخيال من الحقيقة مُرغمًا" فتجفّ منابع القول، فيتردد صدى السياب:

"الشعرُ ما لم يذبح القلبَ، لا يُكتَب"

ويستوقفني في النص، ذلك الامتزاج الحسي بين الأشياء الصغيرة: خصلة، قلادة، رحيق، والمعاني الكبرى: العشق، الغياب، القلق الشفيف، الجمال المتأمل. هذا التداخل يذكّرنا بما فعله أدونيس في بعض نصوصه، حين قال: "أحبكِ.. لا أعرفُ شيئًا سواكِ،

لا أمتلك من العالم سوى خيط شمسٍ على كتفيكِ..."

لغويًا، النص مشبعٌ بجماليات الإيقاع الداخلي، ويحمل طابعًا حداثيًا رمزيًا يُحاكي النص المفتوح الذي لا ينتهي عند قارئٍ واحد. ويبدو واضحًا التناص مع مفردات وأمزجة عربية قديمة وحديثة، حيث تتلاقى صورة "نجمة" و"ياسمين" و"العشق" و"الرحيق" لتُشكل توليفة شعرية مألوفة وغنية.

أسلوبيًا، النص يُراهن على الإدهاش الهادئ، لا على الصرخة، ويكتب الألم بشهقة، لا بعويل. تتقدم فيه الصور الشعرية على منطق القص، وهو ما يمنح النص جاذبيته الخاصة.

وكأنما نادى الشاعر الشعر بأسمائه القديمة،

فأجابه

ثم مرّ من بين الأصابع كعشبُ الذكرى،
لتزهر قصائدًا لا تُنسى.

"نحتاج للأبنوس"... نعم،
نحتاج للظل العميق حين يعصف الضوء،
نحتاج لمَن يُربّت على قلقنا،
كما يربّت الأبد على ساعةٍ متعبة.

د. الشريف حسين بدر

نص " نحْتاجُ للأبَنُوسْ"

قَدْ عُدْتُ
مِنْ
عَيْنَيكِ أَسْأَلُنِي
عَنِ الشَّغَفِ
اليَتِيمِ،
وَرُقْعَتِي ؛
فَهُنَاكَ تَنْتَظِرُ
الحُرُوفُ
وفيَّ
تَبْحَثُ عَنْ قَلَمْ ..
وأنَا هُنَا
أَقُتَاتُ
مِنْ وَحْيِي القَدِيمِ،
وفِي يَدِي
بَعْضُ الَقوافِي
النَّاعِماتِ،
ونجْمةٌ،
وزُهَاءُ ألفٍ
مِنْ وُرُودِ الياسَمين ِ،
ولَيْلةٌ
كسْلَى ،وتَنْوِينٌ
وضَمْ ..
نحتاجُ لِلأبَنُوسِ
قَالتْ لَحْظَةٌ
وقِلادَتَينِْ
بِ"بَابلٍ"
ورحِيق "نَبْتَة"
والقَليل
مِنَ
التَّأمُّلِ والنَّغَمْ ..
وهُناكَ أُخْرىٰ
تطْرحُ اللَّيمُونَ نَكْهَةَ
أسْطُرٍ
تَرْقَى لِمنْزِلةِ
اليَراعِ،
وتَرْتَئِي
أنَّ الجَمَالَ
رِوَايةُ
القَلقِ الشَّفِيفِ
وفي مَتَاهَتِه الرُّسومُ،
وخُصْلةٌ تَغْزُو
الأَسِيلَ
ومِنْ هُناكَ
تَزُورُ فَمْ ..
والعِشْقُ يَقْتَرِحُ
الكَثِيرَ
مِنَ
الجُنُونِ،
ونَوْبةً
حَوْلَ اللَّهِيبِ،
وشَهْقَتَينِ
عَمِيقَتَينِ
وَكَمْ، وَكمْ!!
فَعَلِمْتُ أنِّي
أَسْتحِيلُ عَلى الكَتَابِة
حِينَمَا
يَدْنُو الخَيَالُ
إِلَى الحَقِيقَةِ مُرْغَمًا ؛
فَيَجِفُّ
مَكْنُونُ الكَلامِ،
وتَغْرَقُ
الأشْعَارُ فِي مَعْنَىٰ
العَدَمْ ..

ناشد أحمد عوض

الشريف حسين بدر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى