الأربعاء ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

قراءة في قصة غســان كنفاني (القميص المسروق)

تعد قصة غسان كنفاني "القميص المسروق" من أوائل القصص التي كتبها، وقد فاز عليها، بجائزة القصة القصيرة في الكويت، ولم ينشرها في مجموعته القصصية الأولى "موت سرير رقم 12" (1958)، وصدرت، فيما بعد، في الآثار الكاملة: الأعمال القصصية تحت عنوان "وقصص أخرى"، جمعتها لجنة تخليد أعمال كنفاني، وأصدرتها منشورات الأسوار في عكا تحت عنوان "المدفع" في العام 1978. ومنذ فاز غسان بالجائزة عرف كقصاص.

قراءة بدئية للعنوان:

حين يقرأ المرء العنوان، قبل أن يقرأ القصة، يتبادر إلى ذهنه أنها تدور، بالفعل، حول قميص مسروق. وهي في حقيقتها ليست كذلك، وإن كانت عبارة القميص المسروق ترد فيها، ويرد فيها مفردة القميص غير مرة. وبعد أن ينتهي المرء من قراءتها سيعرف أن القميص المسروق هو من ثمن طحين الفقراء اللاجئين المسروق.
في القصة عبارة طريفة ترد على لسان أبي العبد. يسأل أبو سمير أبا العبد، في الليل، حين يمر به: ماذا تفعل يا أبا العبد، فيرد عليه الأخير:
  إنني أحفر طحينا.

فكيف كان أبو العبد يحفر طحينا؟
سنرى أن في العنوان انزياحاً. كان أبو العبد يحفر خندقا، ولكنه كان يفكر في الطحين الذي ستوزعه وكالة غوث اللاجئين على أبناء المخيم، وإذا كان المثل يقول: "اللي على بال أم حسين تفكر فيه في الليل" فإن الذي كان على بال أبي العبد، مثل أبناء المخيم أكثرهم، هو الطحين. وهكذا نجده يقول إنني أحفر طحينا. ويمكن أن يكون عنوان القصة " الطحين المسروق" لا القميص المسروق. فما هي القصة؟

أبو العبد لاجئ فلسطيني يقيم في المخيم، يعيش مثل أكثر اللاجئين، بعد النكبة، عالة على الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين، ينتظر نهاية كل شهر لاستلام كيس من الطحين يعتاش من ورائه هو وزوجته أم العبد وابنهما عبد الرحمن. وأبو العبد بلا عمل، لأن العمل مفقود. علينا هنا ألا ننسى أن القصة أنجزت في العام 1957 تقريبا، وإن أكثر اللاجئين كانوا بلا عمل، فهم في أكثرهم من الريف الفلسطيني، حيث كانوا مزارعين، أو من أبناء المدن، حيث كانوا حرفيين، ولما فقد اللاجئ أرضه هو المزارع، فقد غدا بلا عمل.

ويقيم أبو العبد في خيمة من خيام اللاجئين، وذات شتاء ماطر، يضطر لأن يحفر حول الخيمة حتى يثبت أوتادها، ويسهر لإنجاز ذلك، وأيضا هرباً من أسئلة زوجته الملحة، طالبة منه طعاما وملابس لعبد الرحمن تقيه البرد، وهو بحكم حياة اللجوء غير قادر على إيجاد فرصة عمل. هكذا يهرب من داخل الخيمة إلى خارجها، لأنه لا يريد أن يشعر بمزيد من المرارة والخيبة والعجز.

وفيما هو يحفر خندقا يمر به أبو سمير، والأخير موظف في وكالة غوث اللاجئين. إنه لاجئ، ولكنه أفضل حالا من أبي العبد، ومع ذلك يقدم أبو سمير على سرقة طحين اللاجئين، بالاتفاق مع موظف أمريكي ذي عيون زرقاء. وحين يرى أبو سمير أبا العبد خارج الخيمة، ويخاف من أن يكتشف أمر السرقة، يعرض على أبي العبد أن يشترك معه في اللعبة، و يوضح له أن الموظف الأمريكي أيضا شريك.

كل شهر يتأخر توزيع الطحين على لاجئي المخيم عشرة أيام، وسبب التأخير يعود إلى تآمر الموظف الأمريكي مع أبي سمير وآخرين، حيث يبيع هؤلاء الطحين لتجار ويربحون من وراء ذلك مبلغا من المال، يتقاسمونه، فيما بينهم. ويدرك أبو العبد السبب الحقيقي لتأخير توزيع الطحين. وهنا يصبح في حيرة من أمره: أيشترك معهم في هذه اللعبة القذرة، ويربح مبلغا من المال، يشتري به قميصا لابنه عبد الرحمن، أم يرفض ذلك، حتى لا يجوع اللاجئون عشرة أيام أخرى، ينتظرون فيها أكياس الطحين توزع عليهم؟ أينتمي إلى اللصوص ليشتري قميصا لابنه أم ينتمي إلى جموع اللاجئين ولا يتأخر جوعهم عشرة أيام؟

تنتهي القصة بالفقرة التالية:

"لم يدر كيف رفع الرفش إلى ما فوق رأسه وكيف هوى به بعنف رهيب على رأس أبي سمير... ولم يدر أيضا كيف جرته زوجته بعيداً عن جسد أبي سمير، وهو يصيح في وجهها أن الطحين لن يتأجل توزيعه هذا الشهر.

كل ما يدريه هو أنه عندما وجد نفسه في خيمته مبلولا يتقطر ماءً ووحلاً، ضم إلى صدره ولده عبد الرحمن وهو يحدق في وجهه الهزيل الأصفر...
كان لا يزال راغبا في أن يراه يبتسم لقميص جديد... فاخذ يبكي....".
إن أبا العبد ينحاز، كما يتضح، للاجئين الفقراء، لجموعهم، لا لمصلحة ذاتية، كما فعل لاجئ، آخر هو أبو العبد.

وربما يجدر أن نتوقف أمام عبارة وردت على لسان أبي سمير، لنتأكد من الانزياح في دال القميص. حين يفاوض أبو سمير أبا العبد من أجل الاشتراك معه في السرقة يقول له:

 اسمع يا أبا العبد، إن رأيت الآن كيس طحين يمشي من أمامك فلا تذع الخبر لأحد!
  كيف؟
قالها أبو العبد، وصدره ينبض بعنف، وشم رائحة التبغ من فم أبي سمير وهو يهمس وقد فتح عيونه على وسعها:
  هناك أكياس طحين تمشي في الليل وتذهب إلى هناك...".

طبعا أكياس الطحين لا تمشي. الذين يسرقونها هم الذين يمشون، وهؤلاء نكرة، لأنهم متنكرون.

مرايا الذات والآخر في القصة
تبرز هذه القصة صورة للاجئ الفلسطيني بعد العام 1948.

اللاجئ الفلسطيني عالة على الأمم المتحدة، يأكل من الطحين الذي توزعه عليه وكالة غوث اللاجئين. واللاجئ يقيم في الخيام، فيعاني من برد قارس، وهو إنسان له مشاعر وأحاسيس، عليه واجبات لا يستطيع أن يلبيها، فيشعر بالعجز، وقد يدفعه هذا إلى السرقة ويحوله إلى لص. وإذا كان ثمة لاجئ، هو أبو سمير، وقد غدا لصا غير عابئ باللاجئين الآخرين، مفضلا مصلحته الذاتية على ذلك، فإن ثمة لاجئا آخر يرفض ذلك، هو أبو العبد الذي ينحاز لجموع الفقراء.
مقابل اللاجئ الفلسطيني هناك الآخر الأجنبي الذي يعمل موظفا في وكالة غوث اللاجئين، ويغدو هذا لصا دون مبرر، فهو يقبض من المال ما يكفيه، ولكنه لا يقنع، إذ يلجأ إلى السرقة لجني المزيد من المال.

ويبرز أبو سمير الصورة التالية للأمريكي:

"اسمع هذا الأمريكي صديقي، وهو إنسان يحب العمل المنظم، إنه يطلب مني دائما أن أضع الوقت بالمقدمة. وهو لا يحب التأخير في المواعيد...".
وربما تذكرنا هنا قصيدة مظفر النواب "تل الزعتر" (1976)، وما ورد فيها عن الغرب. يقتل الغرب القتيل ويمشي في جنازته، ويطلب ممن قتلهم أن يكونوا منظمين. يقول مظفر:

"هذا النجس الشرقي رخيص
يا سيد من بلد الحرية
هذي المقل المقلوعة آخر أنماط صدرها
تمثال الحرية"

وأما سارد قصة كنفاني فيصف الأمريكي على النحو التالي:
"يأتيه الأمريكي كل شهر ويقف أمام أكوام الطحين يفرك راحتيه النظيفتين، ويضحك بعيون زرقاء كعيون قط يتحفز أمام جحر فأر مسكين".

 القميص المسروق ورجال في الشمس:
هل تعد قصة "القميص المسروق" بذرة رواية "رجال في الشمس" التي صدرت في العام 1963- أي بعد ست سنوات من كتابة "القميص المسروق"؟ ربما. ولكن ماذا عن الدليل إن سأل سائل عما حرك السؤال المثار؟

ربما يتذكر المرء، وهو يقرأ سؤال المرأة- أم العبد- زوجها أن يعمل ليطعمها وابنها، وليحضر له قميصا يقيه برد الشتاء، ربما يتذكر سؤال أم قيس زوجها، وإلحاحها فيه، أي في السؤال، من أجل أن يسافر أبو قيس مثل الآخرين إلى دول النفط ليعمل فيها، حتى يتمكن من تعليم أبنائه، فقد ظل أبو قيس ينتظر سنوات طويلة، دون أن يفعل شيئا، وأخيرا قرر السفر إلى الكويت.

وإذا كان أبو العبد في قصة "القميص المسروق" فعل شيئا في النهاية، ورفض السرقة، وهوى بالرفش على رأس أبي سمير، فإن أبا قيس في الرواية يموت في الخزان دون أن يفعل شيئا. ترى هل السبب في ذلك يعود إلى أن الرواية كانت ذات بعد رمزي يعبر عن جموع، في حين أن القصة لم تكن ذات دلالة رمزية، وكانت تصور حالة فردية؟ ربما.

بين كنفاني وسميرة عزام:

يربط بعض الدارسين، ومن ضمنهم وليد أبو بكر في كتابه عن سميرة عزام، الصادر في العام 1985، بين سميرة وكنفاني، ويرى أن الثاني تأثر ببعض قصص الأولى. وفي رثاء كنفاني لسميرة عزام التي توفيت في 8/8/1967 يذكر أنها معلمته.
ولا أدري بالضبط متى نشرت القاصة قصتها "لأنه يحبهم" التي ظهرت في مجموعة "الساعة والإنسان" (1963)، التي يمكن أن تعد بذرة لرواية "رجال في الشمس" (1963)، مع فارق أن بطل قصة سميرة يتمرد، فيقدم على إحراق مخازن وكالة الغوث، في حين أن أبطال كنفاني ماتوا في الخزان، ولم يدقوا جدرانه- أي أنهم لم يتمردوا.

فعل التمرد في قصة سميرة عزام نجده واضحا في قصة "القميص المسروق" إذ أن أبا العبد حين يرى تجرؤ الأمريكي والفلسطيني اللاجئ على أموال اللاجئين لا يصمت، ويلجأ إلى ضرب اللص بالرفش. هل نستطيع أن نثير السؤال معكوساً، ونقول أن سميرة عزام تأثرت بغسان كنفاني في قصته "القميص المسروق" حين كتبت قصتها "لأنه يحبهم"؟ مجرد سؤال، علماً بأن الواقع الفلسطيني في المخيمات في تلك الفترة يتشابه، ولعل أبناء المخيمات ممن كانوا شهودا على تلك الفترة يتذكرون شخوصا يشبهون تلك التي برزت في قصة كنفاني وقصة سميرة عزام لأنه يحبهم وبين شخوص عرفتهم في المخيم الذي نشأت فيه، علما بأنها- أي سميرة- عاشت في لبنان، وليس في الضفة الغربية، وعاش غسان في الخمسينات في مخيمات سورية، قبل أن يذهب إلى الكويت.

اللغـــة:

ما يثير الدهشة حقا أن كنفاني حين كتب "القميص المسروق" لم يكن يتجاوز الثانية والعشرين من العمر، وتبدو لغتها عربية فصيحة، لا يعثر المرء على شبيه لها لدى كتابنا ممن هم في الثانية والعشرين. هل كانت اللغة التي صاغ بها غسان قصته لغته هو؟
يذكر بعض الدارسين أن غسان الذي تعلم في مدارس الفرندز والغرير في يافا أتقن الإنجليزية أكثر من إتقانه العربية، وكانت لغته العربية، يوم كان يدرس البكالوريا في الشام موضع تندر زملائه، ما جعله يبذل جهدا كبيرا لإتقانها، وهو ما سيبدو لافتا في أكثر أعماله الأدبية.
لغة السرد في القصة هي العربية الفصيحة، وكذلك لغة الحوار، ما يعني أن الكاتب أدخل لغة شخوصه أيضا في مياه نهر (ليثي)- أي جعلها ذات مستوى واحد.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى