السبت ٩ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم نبيل عوض طنوس

قصيدة روز شعبان «على تُخومِ الذاكرةِ»

قصيدة شخصيّة، إنسانيّة وجوديّة، غنائيّة، يكثر فيها التكرار مما يخدم المضمون بشكل كبير. تحكي لنا الشاعرة عن إنسان هذا العصر، الذي تهيمن على حياته الضبابيّة والغموض، والحيرة، فتتكرّر فيها التعابير من نفس الحقل الدلاليّ للضباب: تخوم (مرّتين)، ذاكرة (ثلاث مرّات)، حلم (مرّتين)، نور باهت (ثلاث مرّات)، ضباب (مرّتين) ونهاية القصيدة: "لست أدري، لست أدري" نهاية تؤكّد الضبابيّة. لذلك الصور باهتة. وبما أنّ ما تراه الشاعرة هو تخوم، لذلك فهي تدنو وتنأى، تقترب وتبتعد، وتخوم تعني حدود، مجاورة، ونقول: تاخم، جاور، والذاكرة: قدرة عقليّة تساعد في تخزين المعلومات واسترجاعها. والحلم: ما يراه الإنسان في المنام، ويشير أيضًا إلى الآمال والأمنيات التي يسعى الإنسان إلى جعلها واقعًا.

تتمسّك الشاعرة بأمنياتها، وتقاوم على الرغم من الضباب الذي يخنقها، والشاعرة صامدة ومقاومة خلال تمسّكها، ومقاومتها، وصمودها.

تستعمل الشاعرة لغة المناجاة، والمناجاة، هي الدّعاء والتحدّث إلى الله. والتّقرّب إليه. تعتبر المناجاة أعلى درجةً من الدّعاء. وفي الأدب، هي مناجاة الحبيب، وهي فكرة أدبيّة تتمحور حول توجّه الكاتب نحو الحبيب في نصوصه الأدبيّة، وخصوصًا في اللّغة الشّعريّة، يُعَبِّر فيها الكاتب عن أحاسيسه تجاه الحبيب بطريقة مباشرة وشخصيّة. في المناجاة يوجد تركيز على الاندماج والتّوحّد مع الحبيب، يعبِّر فيه الكاتب عن أنّ الحبيب هو جزء أساسيّ من كيانه الذّاتيّ.

في القصيدة تناجي الشاعرة روحها متوجّهة إليها بلطف وحنين، ويبرز هذا في موتيف الاحتضان إذ تقول: "أناجي روحي، انهضي... قاومي! الضبابُ يخنُقُني، دوائرُ خلفَ الدوائرِ تلاحقُني، أتمسّكُ بذاتي،

أحتضنُ ما تبقّى من ذاكرتي، تحضُنُني…"

بنية القصيدة:

بداية القصيدة (Exposition/Opening): هي السطر أو الجملة الأولى في القصيدة، ولها مكانة خاصة لجذب المتلقّي للاستمرار في قراءتها. فيجب أن تكون قويّة ومدهشة، لذلك سمّيت في الماضي حسن البداية. "على تخومِ الذاكرةِ استوقفني الحلمُ". هي بداية تجذب المتلقّي لمعرفة الحدث.

نهاية القصيدة (Ending): السطر أو الجملة الأخيرة في القصيدة، وهي عبارة عن النهاية النصيّة الفعليّة للقصيدة والتي لا يجد القارئ بعدها ما يقرأه بشكل فعلي. "أتراني غادرتُ الحلمَ؟"

الدائرة المغلقة (Inclusio) هي بنية القصيدة فنجد علاقة متينة بين البداية والنهاية: بين استوقف الحلم الشاعرة، وبين تساؤلها هل غادرت الحلم؟ وإجابة الشاعرة: لست أدري مكرّرة مرّتين، لتأكيد عدم الوضوح والضبابيّة. في هذا الأسلوب يكون غالبًا المضمون وجدانيًّا، وتريد الشاعرة أن تحتضنه كاحتضان أيّ شيء نحبّه. هنالك أمكانيَّتا تفسير:

الأولى: هي أنّ القصيدة لم تنتهِ، وعمليًّا؛ ربَّما تعود وتتكرّر الحالة.

والثانية: في هذا المبنى نجد انعدامَ المخرج من الحالة الشعريّة؛ وربّما اختناقًا...

بعد هذا كلّه تترك الكاتبة للمتلقّي وضع خاتمة (Closure) للقصيدة، ليصبح شريكًا فيها. وكما يصفها طه(2002) حسب فحماوي وتد "نشاط ما بعد النهاية من قبل القارئ"(Post ending activity).

الأسئلة الإنكاريّة: هو خروج الاستفهام عن معناه الاستفهاميّ، فيصبح إنكار الشيء المستفهم عنه، وقد يعبّر عن التهويل، والتشويق، والتمنّي والتحسّر والتوجّع، وما إلى ذلك من أغراضٍ أخرى. ومما ورد في القصيدة التعابير التاليّة:

أين تأخذينني؟

أتُراها تريدُ أن تبتلعَني؟

أتراني وجدتُهُ؟

هل سينبثقُ من بين الضبابِ؟

أتراني غادرتُ الحلمَ؟

زمن الفعل:

الماضي: استوقفني، تراءتْ، نزعتْ، اختلطتْ، تمازجتْ، أفعال بضمير الغائب. حدّقتُ فعل ماض بضمير المتكلّم، يعكس ردّ فعل الشاعرة للحالة التي تسترجعها بواسطة قدرتها على التذكّر. حدّقت وأدركت، وهنا تنتقل إلى الفعل المضارع لتصف بواسطته حالتها الجديدة وسلوكها.

المضارع: أُدركُ، أدنو، أقتربُ، ألتفتُ، أقاومُه، أتوه، أصرخُ، أناجي، أتمسّكُ، أحتضنُ، أتمسّكُ، أتراني، أجعلُهُ، أعلو، وأعلو، أتنفّسُ، فأراني، أتراني، أدري، أدري.

السيرورة المعرفيّة في القصيدة (اعتمدنا على سعادة 2001، ص166، 220، 292).

مراحل السيرورة المعرفيّة هي: المعرفة والتذكّر، الفهم والإدراك، التطبيق، التحليل، التركيب، التقويم.

مجال المعرفة والتذكّر: يركّز على نتائج التعلّم الإدراكيّة، إذ يشتمل على المعرفة، وهي التذكّر واسترجاع المعلومات، كما ورد في القصيدة:

"على تخومِ الذاكرةِ استوقفني الحلمُ، تراءتْ صورُهُ باهتةً أمامي
وما لبثتْ أن نزعتْ لثامَها، اختلطتْ ببعضها البعض، تمازجتْ ألوانُها الباهتةُ"
مجال الفهم والإدراك: يركّز على قدرة القارئ على إدراك معنى الأمور التي تَذّكَّرَها وعرَفها، ويستطيع تفسيرها، وتعليلها، واستخلاص ما يترتّب عليها من نتائج، وهكذا هو يفهم معناها الحقيقيّ، كما ورد في القصيدة:

"حدّقتُ فيها علّي أُدركُ تفاصيلَها
رأيتُني خلفَ الألوانِ"

مجال التطبيق: يركّز على القدرة على استخدام ما تذكره، وتوظيف ذلك في بناء خطّة عمل وردود فعل، لحلّ المشكلات. تتكوّن الخطّة من مراحل عديدة:

الحيرة والتأمل: كما ورد في القصيدة:

"رأيتُني خلفَ الألوانِ، أدنو وأنأى، أقتربُ من ذاتي، شيءٌ ما يشدّني إلى الوراء
ألتفتُ حولي، صورٌ غريبةٌ تحيطني، تحاولُ مَحْوي، تُدخلُني في دوائرَ لولبيّةٍ
تلاحقُني، أتوهُ… أصرخُ... أين تأخذينني؟ يخبو صوتي"

السلوك لحلّ المشكلات: كما ورد في القصيدة:

أقاومُها، أناجي روحي: انهضي... قاومي!
ردّ فعل الطرف المضادّ: الضبابُ يخنُقُني دوائرُ خلفَ الدوائرِ تلاحقُني
حيرة وتأمل الشاعرة: أتُراها تريدُ أن تبتلعَني؟
صمود الشاعرة في حلّ المشكلة: "أتمسّكُ بذاتي، أحتضنُ ما تبقّى من ذاكرتي
النتيجة: تحضُنُني… تُخفيني في تلابيبِها
أتمسّكُ بها"
خطوات نحو المستقبل: "كيف أجعلُهُ ينفجرُ ينبوعًا، يُغدقُني …يأخذُني بين دفّتيهِ
أعلو وأعلو…أتنفّسُ النورَ، تلتهمُهُ عينايَ، ينشرحُ قلبي
فأراني وأراكَ…"

في هذه المرحلة وصلت الشاعرة إلى التنور ويبرز ذلك من الكلمتين " فأراني وأراكَ" ولغويًا رأَى يَرَى، رُؤيةً، وهي الرُؤية بالعين المجرّدة ورُؤْيا رَأْيٌ فهو راءٍ بالبصيرة. والتنوّر (literacy) بوجه عامّ يعني الطرق والأساليب التي يعبّر بها الفرد عن فهمه للعالم، وعن أدوار كينونته فيه، فهو صورة لحياة الفرد تتكامل فيها مكوّنات اللّغة التي يستخدمها مع الأفعال التي يقوم بها، والقيم التي يتبنّاها، والمعتقدات التي يؤمن بها، والمعارف التي اكتسبها، والاتّجاهات والهوايات الاجتماعيّة التي يتميز بها عن غيره من البشر بصفة عامة، وعن غيره من أبناء ثقافته بصفة خاصّة (ويكيبيديا).

إجمال:

قصيدة على تخوم الذاكرة، هي قصيدة إنسانيّة وجدانيّة، تعكس حيرة إنسان هذا العصر والضبابيّة التي تكتنفه، فتجعله تائهًا، يغرق في الحلم، فتتراءى صوره باهتة، لتضفي مزيدًا من الضبابيّة والغموض، والحيرة.

تكثر في القصيدة الأسئلة الاستنكاريّة التي تعبّر عن التهويل، والتشويق، والتمنّي والتحسّر والتوجّع.
وفي قراءة عميقة للقصيدة، يمكننا الوقوف على مراحل السيرورة المعرفيّة حسب سلّم بلوم، وهي: المعرفة والتذكّر، الفهم والإدراك، التطبيق، التحليل، التركيب، التقويم.

تضفي المناجاة على القصيدة بعدًا جماليًّا، من خلال حوار الشاعرة لروحها التي تحثّها على النهوض والمقاومة والتمسّك بما تبقّى من ذاكرة، لتبقى على قيد الأمل.

مصادر

سعادة، جودت. (2001). صياغة الأهداف التربويّة والتعليميّة في جميع المواد الدراسيّة. عمان. دار الشروق.
شعبان، روز اليوسف. (2025). على تُخومِ الذاكرةِ. قصيدة من صفحة الشاعرة 16.7.2025 في الفيس بوك.
فحماوي وتد، عايدة. (2013). في حضرة غيابه، تحولات "قصيدة الهويّة" في شعر محمود درويش. إصدار: مجمع القاسمي للّغة العربيّة، أكاديميّة القاسمي ومكتبة كلّ شيء. حيفا.
الويكيبيديا: المصطلح التنور literacy

د. روز اليوسف شعبان

كاتبة، وشاعرة، عملت في سلك التعليم مدرّسة للّغة العربيّة وتاريخ الشرق الأوسط. مديرة المدرسة الابتدائيّة "د" في طرعان سابقًا. حاصلة على اللّقب الأوّل في اللّغة العربيّة من جامعة حيفا، واللّقب الثاني في موضوع التربية من نفس الجامعة، وعلى لقب الدكتوراه في اللغة العربيّة سنة 2019، من جامعة تل أبيب. موضوع الرسالة: "المنفى والاغتراب في روايات غالب هلسا".
علّمتْ في كليّة سخنين في قسم تأهيل المعلمين سنة 2012.
عضو الاتّحاد العامّ للكُتّاب الفلسطينيّين الكرمل-48، وعضو الأمانة العامّة في الاتّحاد، ناشطة في مجلس أدب الأطفال فيه، ولجنة أدب المرأة. ناشطة ثقافيّة وأدبيّة في عدّة منتديات أدبيّة وثقافيّة محليّة وعالميّة،
صدر لها ثلاثة دواوين شعر، ديوان أحلام السنابل (2020) إصدار دار الوسط رام الله، وديوان أشواق تشرين (2021) إصدار دار الهدى أ. عبد زحالقةـ وديوان قيثارة الأصيل(2023)، كما صدرت لها عشر قصص للأطفال، ورواية حسناء فارس للفتيات والفتيان، إصدار دار الهدى، أ. عبد زحالقة، وكتاب رسائل بينها وبين الشاعر د. عمر صبري كتمتو، وطن على شراع الذاكرة، إصدار دار الأسوار عكّا(2022)، وفي الدراسات صدر لها: كتاب المنفى والاغتراب في روايات غالب هلسا(2024)، إصدار دار الهدى عبد زحالقة بدعم من مفعال هبايس، وكتاب سمات الحداثة في الرواية العربيّة المعاصرة (2024)، إصدار دار سهيل عيساوي بدعم من صندوق يهوشوع رابينوفيتش، كما نُشرَت لها عدة مقالات باللغة الانجليزيّة والعربيّة نشرت في مجلّات محكّمة.

ملحق القصيدة:

على تُخومِ الذاكرةِ / روز اليوسف شعبان

على تخومِ الذاكرةِ استوقفني الحلمُ
تراءتْ صورُهُ باهتةً أمامي
وما لبثتْ أن نزعتْ لثامَها
اختلطتْ ببعضها البعض
تمازجتْ ألوانُها الباهتةُ
حدّقتُ فيها علّي أُدركُ تفاصيلَها
رأيتُني خلفَ الألوانِ
أدنو وأنأى
أقتربُ من ذاتي
شيءٌ ما يشدّني إلى الوراء
ألتفتُ حولي
صورٌ غريبةٌ تحيطني
تحاولُ مَحْوي
أقاومُها
تُدخلُني في دوائرَ لولبيّةٍ
تلاحقُني
أتوهُ… أصرخُ...
أين تأخذينني؟
يخبو صوتي
أناجي روحي
انهضي...
قاومي!
الضبابُ يخنُقُني
دوائرُ خلفَ الدوائرِ تلاحقُني
أتُراها تريدُ أن تبتلعَني؟
أتمسّكُ بذاتي
أحتضنُ ما تبقّى من ذاكرتي
تحضُنُني…
تُخفيني في تلابيبِها
أتمسّكُ بها
نورٌ باهتٌ تراءى أمامي
أتراني وجدتُهُ؟
هل سينبثقُ من بين الضبابِ؟
كيف أجعلُهُ ينفجرُ ينبوعًا
يُغدقُني …يأخذُني بين دفّتيهِ
أعلو وأعلو…
أتنفّسُ النورَ
تلتهمُهُ عينايَ
ينشرحُ قلبي
فأراني وأراكَ…
أتراني غادرتُ الحلمَ؟
لستُ أدري!
لستُ أدري!!

نشر في:

جريدة الاتحاد 8.8.2025 حيفا
موقع جريدة الاتحاد
موقع الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48 – 8.8.2025
موقع المجلة الثقافية الجزائرية 8.8.2025


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى