

لمّا تحكي إمّ سمير أبو الهيجا

الدّمج بين السّيرة الذّاتيّة والغيريّة في" لمّا تحكي إمّ سمير أبو الهيجا"
صدرت عام ٢٠٢٣ الطّبعة الثّانية من كتاب" لمّا إمّي تحكي" للكاتب سمير أبو الهيجا. ويقع الكتاب الّذي صمّمت غلافه الدكتورة فرح الطرزي ومنتجه وأخرجه الأستاذ خالد غباريه ودقّقه الأستاذ صالح احمد كناعنة في ١٠٦ صفحات من الحجم المتوسّط. والكتاب الّّذي طبع في مطبعة كفر قاسم، لم يصدر عن دار نشر.
عرفت سمير أبو الهيجا من خلال كتاباته الّتي اعتمدت على التأريخ الشّفويّ في تأريخه لبعض البلدات الفلسطينيّة الّتي شُرّد مواطنوها في نكبة العام ١٩٤٨، وما عانوه في تلك المرحلة.
وها أنا أقف حائرا أمام كتابه" لمّا إمّي تحكي". فقد أوحى لي عنوان الكتاب بأنّ محتواه سيكون حول حكايات أو أحداث سمعها من والدته وقام بتدوينها، وعندما قرأت الكتاب وجدتني أمام شيء من سيرة والدته" ميسّر" المولودة عام ١٩٣٥، وسبب حيرتي أنّني احترت في تصنيف الكتاب فهل هو سيرة ذاتيّة أم سيرة غيريّة؟ فالكتاب جاء بلغة الأنا على لسان الأمّ، بينما السّارد هو الإبن "سمير" كيفما سمعه من والدته، ودوّنه باللهجة المحكيّة كما لفظتها والدته.
وأدب السّيرة ليس جديدا على الأدب العربيّ فقد عرفه العرب قبل مئات السّنين، وأشهر كتب السّيرة هي سيرة خاتم النّبيّين عليه الصّلاة والسّلام، وسِيَرة الخلفاء الرّاشدين وغيرهم من السّابقين، كما عرفنا السِّيَر الشّعبيّة مثل سيرة:" أبو زيد الهلال، وسيرة عنترة، وسيرة سيف بن ذي يزن وغيرهم"، وفي عصرنا الحديث هناك العشرات ممّن كتبوا سيرهم الذّاتيّة.
ما علينا، فلنعد لكتاب سمير أبو الهيجا، وأنا هنا أتساءل حول عدم تصنيفه للكتاب" كسيرة"؟ ولماذا اختار أن يكتبه بنفس الكلمات" العامّيّة" الّتي قالتها والدته؟ وأنا هنا أوكّد على حقّه- غير القابل للنّقاش- في اختيار الأسلوب والطّريقة الّتي ارتآها وقبلها لنفسه.
التّأريخ لمرحلة معاشة
والقارئ للكتاب سيجد أنّ والدة سمير لم تتكلّم عن نفسها بطريقة مجرّدة، بل أقرنتها بالواقع الاجتماعي الّذي عاشته، حيث أنّها تحدّثت عن عادات وتقاليد ما عادت موجودة في عصرنا هذا، كما تحدّثت عن مرحلة النّكبة كما عاشتها في قريتها المهجّرة "اجزم" وعن لجوئها وأسرتها إلى دالية الكرمل، وعن زواجها من رجل من قرية عين حوض، وعن الأسرة الممتدّة الّتي كانت تعيش في بيت واحد، ،عن الزّواج المبكر التّقليدى من خلال زواجها قبل أن تبلغ السّابعة عشرة من عمرها، وعن رُمْلتها وهي في الحادية والعشرين من عمرها، وهي أمّ لثلاثة أطفال أصغرهم رضيعة كانت بنت أربعة عشر شهرا، وكيف رفضت الزّواج ثانية؛ لتبقى حاضنة ومربّية لأطفالها.
وتحدّثت عن معاناة ومكابدات النّساء وغيرتهنّ الّلامحدوة خصوصا غيرة" السّلافات". وتجربة الأمّ "ميسّر" الحياتيّة المعاشة لم تكن معزولة عن محيطها الاجتماعيّ، وكأنّي بها تؤرّخ لتلك المرحلة بطريقة عفويّة ودون قصد منها، ودوّنها ابنها سمير بعفوّية وصدق أيضا دون أن يقصد التأريخ.
كما تحدّثت عن الأطفال وحرمانهم في خمسينات وستّينات القرن الفارط من خلال أطفالها، وإذا كانت النّساء يعملن ويشقين في تلك المرحلة، فإنّ الأطفال أيضا ليسوا استثناء، فقد كانوا يحتطبون ويأتون بالحطب لأمّهاتهم ليطبخن ويخبزن عليه، ويجلبن الماء من العين على رؤوسهن أو على الحمير، فقد كان الأطفال يفعلون الشيء نفسه. كما كانوا يرعون الخراف والجديان والعجول أيضا.
الأمّ المضحيّة الرّاعية لأبنائها
والقارئ للكتاب سيجد هذه الأمّ الكادحة والّتي ترمّلت في سنّ مبكرة كانت الرّاعية لأبنائها، وهي بمثابة الأمّ والأب لأطفالها، مع عدم إغفال دور الجدّ في عطفه وحنانه على أحفاده الأيتام.
الأبناء البارّون
لم ينس ابناها محمد وسمير فضل والدتهم عليها، فقد سدّدوا جزءا من دينها عليهم،فووفرّوا لها سبل الحياة الكريمة عندما شبّوا وعملوا، وقد اصحبها ابنها سمير لآداء العمرة، وموّل ابنها محمد حجيجها هي وابنها سمير إلى الدّيار المقدّسة، كما أبقاها-حسب اختيارها-؛ لتعيش معه في بيته بعد أن انفصل ابنها سمير للعيش هو وأسرته في بيت مستقل.
ولم تكن ابنتها استثناء فرغم زواجها وإنجابها إلّا أنّها كما قالت الأمّ:" الله يرضى عليها بتيجي عندي كل يوم بعد متخلّص شغل بيتها، بتحممني
وبتغسلّي وبتساعدني على بعض الشّغلات، وبتسلّى أنا ويّها."ص٩٠.
اللغة والأسلوب:
استعمل الكاتب اللهجة المحكيّة كما لفظتها والدته، وأسلوبه في هذا الكتاب انسيابيّ، يطغى عليه عنصر التّشويق.
وماذا بعد؟
القارئ لهذه السّيرة يجد أنّها تنطبق على أمّهاتنا الّلواتي من جيلها، مع الفارق في بعض الخصوصيّات. وهذه العجالة لا تغني عن قراءة الكتاب الّذي يشكّل إضافة نوعيّة، وحسب معلوماتي المتواضعة فإنّ هذا الكتاب غير مسبوق بأن يكتب ابن سيرة والدته... صحيح أنّ هناك كثيرون كتبوا عن أمّهاتهم، لكنّ أحدا لم يفكّر بكتابة سيرة والدته بهذه الطّريقة.