لو كنت أرضا لتقيأتهم
إن لدي رغبة مجنونة لأبصق في وجوه أغنياء الأرض جميعا.. هكذا قذف سامي بعبارته المهزوزة هذه.. وهو يجر آهة محرقة. نظرت أليه.
– سامي أنت سخيف.. لأنك تريد أن تبصق بوجوههم.. أو عفوا أنت طفل وإلا ما معنى أن تبصق بوجوههم؟ ا ما فائدة تصرفك اللا مجدي هذا؟
– حامد ألا تعلم لماذا أريد أن أبصق بوجوههم.. لأنهم حقراء.. إنهم يستطيعون التلذذ بمباهج الحياة دون أن يعيقهم عائق.
أما أنا فأي مشروع أحاول السير فيه يجهض.. يموت قبل البدء به لأنه يحتاج لمبالغ مالية.. السيارة لا تسير بلا وقود.. الإنسان لا يستمر بالعيش بدون هواء وغذاء.
هذه هي الحقيقة.. ركز نظرك على هذا الصعلوك القذر إنه يقود سيارته الفارهة بتبختر وهذه الفتاة الجميلة بجانبه. أما أنا فسأموت وأنا أحلم.. أحلم بلحظة واحدة أكون قادرا فيها على تلبية متطلباتي الملحة.
ولذا أريد أن أبصق بوجوههم لكي أشعر باللذة.. لذة احتقارهم.. أريد إشعارهم بأني إنسان ال (أنا) عندي كما هي عندهم أنا كائن حي... أريد إرغامهم للاعتراف بي..ا لاعتراف بكينونتي.. بوجودي..أ لا زلت تعتقد بأني طفل؟
– نعم إنك لازلت طفلا.. أتدري لماذا؟ لأن تصرفك اللا مقنع هذا لا يؤدي لأي نتيجة.. أنت مثالي وتتصور الأغنياء مثلك.. أنت تعتقد بأن الأغنياء يخجلون .. أو يشعرون بالاحتقار لأنفسهم عندما تبصق في وجوههم.
لا يا أخي إنهم لم يصبحوا أغنياء إلا بعد أن حذفوا كافة القيم من معاجمهم .. الكرامة..ا لأخلاق النخوة .. الخ ولذا فإن بصاقك مجرد ماء .. سيزيلونه بأحد مناديلهم الثمينة.. ثم يعقمون مكان بصاقك بالعطور المستوردة من أرقى المحلات المشهورة في العالم .. ويذهب جهدك هباء.
آنت حقا طفل .. لا أدري لماذا تذكرني بحلم سمعته من أحد الثوريين السذج . وهو أخ أحد رفاقي في الموصل وهو مجرد عامل بسيط لا يقرأ ولا يكتب .. كنا نتكلم أنا ورفيقي حازم عن الثورة الاشتراكية المقبلة وإمكانية تطبيق العدالة الاجتماعية ورفع المستوى المعيشي للطبقات الكادحة وإذا بصاحبنا الثوري هذا ينهض من مقعده هائجا .. ثم يقول:-
– هذه هي أحلامكم المتعفنة .. إن ثورتكم هذه لا تحقق حتى ذرة من أمنيات الكادحين ..حيث أن الثورة التي أحلم بها وأريد تحقيقها لا تلتقي لا من قريب أو من بعيد بثورتكم .. أنا أحلم بأن نقوم نحن الكادحون ومباشرة بعد القضاء على الطغمة الحاكمة بقطع الكهرباء وأي نوع من الإنارة ونتجول ليلا في الشوارع والبيوت وكافة الأماكن التي يتواجد بها الناس.
وهنا نبدأ بإيقاف كافة الرجال، بصورة خاصة، ونتلمس أيديهم وكل رجل يديه ملساء يتم إعدامه رأسا وبدون أي سؤال أو تحقيق وكل من يديه فيها آثار خشونة العمل نقبله. وهكذا لا نبقي إلا من يستحق الحياة .. الرجال القادرين على إسعاد المجتمع .. العمال والفلاحين، النواة الحقيقية لإسعاد البشرية .. هؤلاء الذين تعاملوا بصورة مباشرة مع الأرض أو مع الآلات والأدوات اليدوية وغيرها، أما البرجوازيين فإلى مزبلة التاريخ.
قد أسأل لماذا نقوم بعملية التنقية هذه ليلا فأجيب حتى لا ننظر لوجوه وأشكال الناس الذين قد يكون بعضهم من المعارف أو الأقرباء أو من يستحق الرأفة لكبر سنه أو مرضه .. الخ .أي حتى لا نستثني أحدا من هؤلاء.
أرأيت أنت تشبهه إلى حد ما .. إنه لا يريد البصاق بوجوه الأغنياء مثلك، ولكنه وبكل بساطة يحلم بإلغاء كافة البرجوازيين من الوجود.. ثوري من نوع خاص، أو ما يسميه هو : العنف الثوري..
أما ما أفكر به أنا فلا علاقة له لا بأمنياتك ولا بأحلام صاحبنا الذي يطلق على نفسه ثوري. أنا أكثر واقعية لكونني أقول: لو كنت أرضا لتقيأت أغنياء الأرض جميعا نعم أتقيأهم وألقيهم في مغسلة وأصب عليهم كثيرا من الماء ويذهبون إلى لا عودة لكونهم مرضا خطيرا.. سرطان قاتل.
– حامد في هذه الحالة بماذا تختلف عن صاحبك الثوري الساذج فهو يريد إعدام البرجوازيين وأنت تريد أن تقضي، بطريقتك الخاصة، على جميع الأغنياء؟.
– لك الحق ولكن الفرق كبير جدا فهو يريد القضاء على أكثر من سبعين بالمائة من الرجال بينما الأغنياء لا يشكلون أكثر من واحد من بين كل ألف من المواطنين.
نظرت إلى سامي.. غمامة رعناء تغلفه .. تقلصات وجهه تعبير واضح عما يعانيه من صراع داخلي.. إنه يختنق .. مسكين سامي يتصور نفسه أحد الفرسان.. أو العباقرة الذين لم تسمح لهم الظروف بإظهار قدراتهم .. هو يحمل على كتفيه معاناة سنوات طويلة من الفقر والضياع.
– حامد أتدري بماذا كنت أفكر .. لا تحاول لكونك سوف لا تستطيع الوصول إلى نتيجة .. أنا إنسان منبوذ .. الحياة ليتها تتقيأني أنا أستحق ذلك . لأني لا يمكن أن أكون غنيا في يوم من الأيام .. كتبت علي اللعنة منذ مدة طويلة.
الأغنياء..أغلبهم جمع ثروته بطرق لا مشروعة بل دعني أقول جميعهم.. حسنا سأقص عليك قصتي. قبل حوالي سنتين فصلت من الشركة، شركة النفط التي عملت بها لمدة ستة أشهر.. نعم فصلت على اثر إصابتي بحادث أثناء العمل من جراءه فقدت ثلاثة أصابع من يدي اليمنى.
لقد فصلتني الشركة لأن رئيس القسم الذي كنت أعمل به رفع تقريرا يوضح فيه بأني أصبحت غير مؤهل للعمل ككهربائي سيارات ولكن الفصل لم يثر في أي شعور بالحقد على رئيس القسم أو غيره، لأني عوضت عن العجز الجزئي الذي أصابني أي عن أصابعي مبلغا قدره مائتي دينار.
لأول مرة في حياتي استلم مثل هذا المبلغ .. استلمت عشرين ورقة من فئة عشرة دنانير .. قضيت يوما كاملا ..أجوب محطات تعبئة الوقود حتى استطعت تصريف كافة هذه الأوراق.. من عشرة دنانير إلى دينار واحد .. وهكذا أصبح لدي مائتي ورقة نقدية من فئة دينار .مائتين . أتصدق!!!؟
كنت في ذلك الوقت أسكن في عمارة لأحد الذين أحقد عليهم .. كان لدى صاحب العمارة نسخة من مفتاح غرفتي كما كان لديه مفاتيح لكافة الشقق والغرف الأخرى في العمارة.
أنا مجنون .. كنت مساء كل يوم .. أغلق باب الغرفة جيدا وأتمدد على سريري وأخرج المائتي ورقة وأنثرها على رأسي .. كنت أشعر بلذة لا يمكن تصورها ..كنت أشعر بأن كافة مباهج أكبر إمبراطور في العالم لا تعادل لحظة صغيرة من تلك اللحظات ... مجنون يلعب بأصابعه المقطوعة ويشعر مع ذلك بالسعادة الكاملة.
آه لو خيرت بين أية جنان أو مباهج وبين تلك اللحظات لما وافقت نهائيا . كنت عندما أستيقظ صباحا ..وأنظر الدنانير مبعثرة .. أشعر بأني أحيا .. ثم أقوم بجمعها وعدها .. مرتين أو ثلاثة قبل أن أعيدها إلى مكانها وأذهب إلى عملي.
أنت تتذكر يا حامد عندما كنا نعمل معا في محل تصليح السيارات لصاحبه حاج عبد الخالق .. وكانت أجرتي ربع دينار يوميا
كنت أقضي كل احتياجاتي وحتى إيجار الغرفة بهذا المبلغ التافه .. لأني لم أكن أريد أن تنقص أي ورقة من المأتي دينار.
عندما جاءت أمي من قريتنا وكانت مريضة .. أنت تتذكر جيدا ..نعم أمي لم أستطع أن أسحب لعلاجها من المأتي دينار ..استدنت منك خمسة دنانير لأخذ أمي للطبيب وشراء الدواء طبعا . وبقيت شهرين أعاني من الحرمان لأوفر الخمسة دنانير التي أعدتها لك.
لم أكن أرغب أن تنتهي تلك اللذة .. كل مساء انثرها من جديد وفي الصباح اجمعها واعدها عدة مرات ثم أضعها في الدولاب الخشبي الذي في غرفتي وأغلقه.
كنت متأكدا بأن هذه اللذة لا تزول أبدا .. كنت أعمى أنا حقا طفل كما تقول ..طفل يخدع ..خدعت بالحياة آه لا أريد أن أطيل عليك في أحد الأيام جئت مساء إلى غرفتي.. فتحت الدولاب.. مددت يدي لأخذ كنزي وأنا كلي ثقة بأن اللذة ستدوم.. وإذا بيدي لا تلمس إلا الجدران الخشبية.
أصبت بالهوس ..ضربت الدولاب بقوة .. دخل أكثر من مسمار بيدي.. الدماء تقطر.. أصبت بالإغماء . استيقظت وإذا بي على سرير في إحدى المستشفيات.
تذكرت كل شيء ..تذكرت أيضا المفتاح الذي لدى صاحب العمارة.
كتبت في الموصل في شهرآيار سنة 1966
