الأربعاء ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم سمير الطرابلسي

محاولات حرف خط الحراك الإصلاحي العربي

(شعوبية أدونيس نموذجاً)

تثير الثورات والتحركات الشعبية العربية المطالبة بالإصلاح، مخاوف قوى دولية وشعوبية من أن يشكّل هذا الحراك، على الرغم من كل التعقيدات التي تحيط به، مقدمة إنطلاقة جديدة لمسيرة النضال العربي القومي بآفاقها التحررية والوحدوية والنهضوية، بعد الانتكاسة التي أصابت هذه المسيرة برحيل القائد جمال عبد الناصر.

أول هؤلاء الخائفين هو التحالف الصهيوني الإستعماري بكل أطرافه، والذي يشعر أن إسقاط الجماهير العربية لأنظمة التبعية والقمع والفساد، أفقده كنوزاً إستراتيجية، مما جعله يتحرك بكل طاقاته لحصار حركة الجماهير العربية وإستغلال كل ثغرة يرونها في حالة السيولة السياسية القائمة للنفاذ منها بغية إغراق هذه التحركات بـ"الفوضى الخلاقة" التي تُدخِل الكل في صراعات مع الكل، وما التدخل الأجنبي في ليبيا واليمن وسورية ومصر بأشكاله المختلفة إلا أبرز دليل على ذلك.

على أن أكثر الخائفين المذعورين من حركة الجماهير العربية هم الشعوبيون المعادون للإسلام والعروبة، والذين يرون في الإنطلاقة الجديدة لمسيرة النضال القومي المستفيدة من دروس الماضي وتجاربه، كابوساً رهيباً يؤرّق نهارهم والليل، ومعضلة هؤلاء الشعوبيين أنهم يدركون أن حربهم ليست ضد أشخاص أو أحزاب أو نظم، بل ضد أمة بكل ثقافتها وتاريخها ومصالحها وطموحاتها المشتركة.

كثير من هؤلاء الشعوبيين توهموا، خلال العقود الأربعة التي أعقبت رحيل جمال عبد الناصر، أن الامة العربية باتت في طور الاحتضار، فكتب بعضهم مهللاً لـ"موت العروبة"، فإذا بالحراك الشعبي العربي يفاجئهم بحيوية الأمة التي توهموا موتها، لتنبعث من جديد "أشباح الخمسينيات والستينيات" التي عادوها وحاربوها.

وكما في كل تجارب الماضي، التحق الشعوبيون بركاب الحلف الاستعماري الصهيوني. ولما كانت الحرب الاستعمارية الصهيونية على الامة العربية في مرحلتنا الحاضرة تُخاض بمشروع تمزيقي على أسس عرقية وطائفية ومذهبية، هو مشروع الشرق الاوسط الجديد، فإن تحركات الشعوبيين تستظل بهذا المشروع وتعمل تحت سقفه وبغية إنجاحه.

بعضهم يحاول إشاعة مقولة أن أنظمة التبعية والقمع والفساد هي امتداد لمرحلة عبد الناصر، أملاً أن تؤدي اشاعة هذه المقولة الى إقامة حاجز اعتراضي يحول دون استحضار أهم تجربة تحرر ونهوض قومي في تاريخ العرب الحديث والاستفادة من إيجابياتها وانجازاتها ومن ثغراتها وعثراتها معاً، لأن الأساس عندهم هو استبعاد كل ما هو قومي عربي.

آخرون مدوا أياديهم يتسوّلون الأموال الاوروبية والاميركية التي تدفعها وكالات الاستخبارات للترويج للديمقراطية، ويتعهدون بأن يكونوا أصوات أسيادهم، سواء كان هؤلاء الأسياد المارينز الأميركي أو الفرقة الاجنبية (المرتزقة) في الجيش الفرنسي.

الإطار النظري والايديولوجي الذي يتحرك وفقه الشعوبيون، صاغه عتاة الصهاينة والمحافظون الجدد، وأوجزه برنارد لويس بكتاباته التي ترى أن المنطقة العربية من المحيط الى الخليج كانت موطناً لعشرات الأقوام والشعوب التي جاء "الاستعمار العربي الاسلامي" (هكذا يسمي الفتوحات) ليفرض عليها دينه وهويته، وليستخلص من ذلك أن إعادة ترتيب المنطقة العربية تتطلب تحريرها من العروبة والاسلام معاً، والسبيل الى ذلك إستثارة كل العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية.

غير أن هذا الاطار الايديولوجي العدواني والعنصري والحاقد، يحتاج الى صياغة عربية تسوّقه وتسوغه وتغطي وتبرر كل تحركات الشعوبيين. وهنا يبرز دور الشاعر أدونيس، المؤهل الأول للاضطلاع بهذا الدور، فهو من جهة متمكّن من اللغة العربية وبالتالي قادر على التلاعب بالكلمات والرقص فوق حبال الأفكار لإخراج صياغات مقبولة ومنمّقة للأفكار العدوانية والعنصرية والحاقدة، ومن جهة اخرى فإن حقده على الإسلام والعروبة متأصل وهو الذي كرّس غالبية نتاجه لمحاربتهما.

في "رسالة مفتوحة الى المعارضة حول التغيير في سورية وبخاصة تغيير الدستور"، طرح أدونيس نظريته ورؤيته لمسألة التغيير في المنطقة العربية، رغم أن الخطاب المباشر هو لقوى المعارضة السورية، فتساءل في مستهلها "لماذا عجز العرب عن بناء دولة مدنية تكون فيها المواطنة أساس الإنتماء؟" وأجاب: "فالحق أن ما نطلق عليه إسم مجتمع ليس إلا "تجمعات" من عناصر متناقضة تتعايش في مكان واحد يطلق عليه إسم وطن"!. وفي السؤال والجواب معاً يكمن المفتاح في فهم ما يريد أدونيس قوله، فهو يدرك ولا شك في اطلاعاته الواسعة ما خلص إليه علم الاجتماع من أن الإنتماء أساسه الارض الواحدة واللغة والثقافة الواحدة والتاريخ المشترك والمصالح والآمال المشتركة. والانتماء بالتالي راسخ، أما المواطنة فهي صيغة تحدد بموجبها حقوق الأفراد وواجباتهم تجاه دولهم، وحقوق سلطات الدولة وواجباتها تجاه أفرادها، وبالتالي فهي صيغة متغيّرة. فالمواطن الالماني الذي عاش في زمن النازية ثم امتد به العمر الى مرحلة إلمانيا المقسّمة بين شرق وغرب ثم امتد به العمر ليعيش في مرحلة ما بعد توحيد المانيا، شهد في حياته ثلاث صيغ للمواطنة ولكنه في كل الحالات ظل إلمانياً وانتماؤه واحد.
ومن جهة اخرى، فإن أدونيس لا شك قرأ أن فكرة الدولة القومية مؤسسة على مقولة بسيطة مفادها أن من حق كل أمة أن تبني كيانها السياسي الموحّد والمعبر عن هويتها ووحدتها المجتمعية، وبالتالي فإن الانتماء هو أساس المواطنة. ولكن نظراً لحقد أدونيس المتأصل على هوية الأمة المرتكزة على العروبة والاسلام، وانسجاماً مع أيديولوجية "مشروع الشرق الاوسط الجديد" المعادي لكل ما يوحّد والمبشّر والمحرّض على كل ما يفرّق، فإنه أراد في افتتاحيته أن يستبعد عنصر الهوية المُوحَّدة والمُوحِّدة في صياغة النظام السياسي داخل أي قطر عربي، بمعادلات مقلوبة. فعوضاً من أن يكون الانتماء أساس المواطنة، طرح أدونيس صيغة جعل فيها المواطنة أساس الانتماء، لأننا بنظره لسنا أمة واحدة ولا مجتمعاً واحداً ولا أبناء وطن واحد، بل "تجمّعات متناقضة تتعايش في مكان واحد"!. أوليس هذا ما تكلم به برنارد لويس، وما يريده دعاة الشرق الاوسط الجديد أن نفكر به ونعمل على أساسه؟ والمثال الساطع ما فرضوه في "دستور بريمر" في العراق حينما نصّ على عراق متعدد القوميات والطوائف وإلغاء النص على عروبته ووحدته!

ثم يمضي أدونيس في رسالته فيطلق حملة تشويه وتبخيس بالإسلام والعروبة وتحريض على الانقسامات، زاعماً أن "منطق الفتح والغلبة والصراع الديني الذي ينتمي الى تاريخ البدايات الاسلامية (حتى لا يقول الفتوحات) هو ما يستمر وهو ما يحكم".. وإن "أهل الذمة في سورية وهم سكانها الأصليون لا يزالون يدفعون الجزية في وطنهم الأصلي الذي لا تزال تهيمن عليه ثقافة الفتح والغلبة".. وأن تاريخنا العربي كله هو "تاريخ صراعات وفتن لا تنتهي وترتبط على نحو عميق بالمسألة الدينية"!

ونصّب أدونيس نفسه مدافعاً عن ما سمّاه "الأقليات المهضومة الحقوق في وطنها الأصلي" وعن "المرأة المظلومة بشريعة الاسلام"، ليخلص بعد ذلك كله الى دعوة المعارضة السورية ومن خلالها المعارضة العربية إلى "أن تعمل لازالة العقبات التي تحول دون نشوء مجتمع ديمقراطي حر وعادل" عبر "الخلاص من مرتكزاته الثقافية والتاريخية" المتمثلة في العروبة والاسلام.. كل ذلك كتبه أدونيس بصياغة بهلوانية تتلاعب بالحقائق وتطرح المغالطات وتحاول أن تدس السم بالدسم كما يقال.

وإذا كان المجال لا يتسع للرد على كل مغالطات أدونيس، أكتفي بالاشارة الى مسألتين:
الأولى: إن أهم مصادر قوة الهوية العربية، كما يراها العروبيون، أنها هوية حضارية موحدة وحاضنة للتنوع الديني والعرقي في المنطقة العربية، خلافاً لكثير من القوميات التي سعت لتحقيق وحدتها بالتطهير العرقي والديني والذي ما زالت آثاره حتى اليوم بادية في كاتالونيا والباسك في إسبانيا مثلاً، وفي كورسيكا وفي بريتاني في فرنسا.. ألخ. أما الشعوبيون ومن ورائهم منظرو الشرق الاوسط الجديد، فيسعون إلى إضفاء الطابع العنصري الطائفي على الهوية العربية، تحريضاً على الفتنة وتفجيراً للانقسامات. أما إذا احتكمنا الى وقائع التاريخ التي لا شك يعرفها أدونيس، نجد أن الشعب العربي تبنّى المفهوم الحضاري للعروبة وترجمه عملياً ورفض التحريض الشعوبي التمزيقي، والدليل الأبرز قدّمه شعب سورية الذي أحبط المحاولة الفرنسية لاقامة دويلات طائفية ومذهبية في بداية عهد الانتداب، وانتفضت قيادات وطنية من كل شرائح المجتمع السوري تتمسك بوحدتها الوطنية وهويتها العربية، فكان ابراهيم هنانو الكردي وسلطان باشا الأطرش الدرزي وصالح العلي العلوي وفارس الخوري المسيحي وشكري القوتلي السني.. ألخ، طليعة هذا النضال الذي أكّد فيه شعب سورية بكل تنوعاته، تمسكه بوحدته الوطنية وعروبته فاستحق عن جدارة صفة قلب العروبة النابض.

والمسألة الثانية: هي حرص أدونيس على التقيد بـ"التعميم الاستعماري الصهيوني الشعوبي" القاضي باستغلال كل مناسبة للتهجم على جمال عبد الناصر وعصره، أملاً منهم في طمس المشروع القومي الذي حمل راياته جمال عبد الناصر طوال ثمانية عشر عاماً، وكان شعب سورية العربي أكثر شعوب الامة العربية تجاوباً معه والتصاقاً به. فأدونيس، كما كل الشعوبيين، يخاف إنبعاث هذا المشروع القومي وتجدده، وأول مستلزمات هذا الانبعاث والتجدد هو في عودة الفعالية الشعبية السياسية والنضالية وفي احترام السلطات العربية للارادة الشعبية. وحيث أن أدونيس مذعور من تحقق ذلك، فإنه يدعو الى ترك النضال من أجل الاصلاح الديمقراطي وإطلاق حرب على العروبة والاسلام.

إن رسالة أدونيس ومؤتمر إنطاليا وحوارات المفكر الصهيوني الفرنسي برنار هنري ليفي، كلها مؤشرات الى التحرك المحموم للقوى الشعوبية لحرف مسارات الحراك الشعبي المطالب بالاصلاح، فهل ستواجه القوى والفعاليات العروبية في سورية تحركات الشعوبية لصدها واحباطها؟ وهل ستدرك السلطة في سورية أن الاحترام الذي راكمته بمواقفها الرافضة للخضوع للاملاءات الاستعمارية والصهيونية، مهدد بالضياع إذا فرض العقل الفئوي الحل الامني سبيلاً وحيدا للتعامل مع المطالب الشعبية، وأن الطريق الوحيدة لتحصين الصمود السوري هو في إصلاح حقيقي يلبي مطالب الجماهير؟ وهل ستدرك قوى المعارضة القومية والوطنية أن بعض من يرفعون شعارات معارضة النظام هم معارضون لوحدة سورية وعروبتها واستقلالها، فيتمّ الفرز بين الطرفين وتحصن المعارضة الوطنية والقومية موقفها باعلان واضح وصريح بالتمسك بكل الثوابت الوطنية والقومية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى