من وليمة الأثرياء إلى دعوة الرعاة
استعادة جوهر الميلاد
مع مرور الأيام واقتراب عيد الميلاد، يظل سؤال يطنّ في أذن الكثيرين: كيف نحتفل بولادة السيد المسيح ونتحدّث عن السلام والمحبة، فيما تفيض الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي بالحقائق القاسية المُرّة للحرب والدمار والموت؟ يبدو أحيانًا أن الظلام قد طغى على العالم. وفي مثل هذه اللحظات العصيبة، نتساءل: لماذا وُلد المسيح في عالم يشبه عالمنا، عالم يبدو مقاومًا للمحبة والسلام اللذين جاء ليقدمهما؟
ربما تكمن الإجابة في طبيعة ذلك الميلاد الأول. لم يأتِ الله إلى هذا العالم ليعيش في القصور المتلألئة أو في راحة خالية من القلق. لقد وُلد في إسطبلٍ خفيٍ، إلى عائلة بلا نفوذ، في أرض محتلة. ولم يُعلَن عن مولده للملوك أو الأمراء، بل للرعاة—رجال يعيشون على هامش المجتمع. وهذا يبيّن حقيقة أساسية: عيد الميلاد هو، وكان دومًا، عيد الفقراء والمهمشين.
وفي زمننا هذا، قد يبدو أن هذه الحقيقة قد دُفنت تحت التراب. نرى الأسواق الصاخبة، وشراء الهدايا الباهظة، والمأكولات الفاخرة—مشهدًا يشارك فيه أصحاب الثراء في وليمة مادية. وقد يبدو أن عيد الميلاد قد تمّ تجريده من جوهره، فتحوّل من قصة ميلاد متواضع مقدّس إلى مناسبة للمقتدرين فقط. أما العائلات الجالسة في منازلها بهدوء، المثقلة بالصعوبات المالية أو الوحدة، فقد تبدو لهم فرحة الموسم وكأنها صدى بعيد، حلم بعيد المنال، حفلة لم يُدعوا إليها.
لكن على العائلات الفقيرة أن تفرح وتتجاوز شعورها بالإقصاء والوحدة؛ فقد وُجهت الدعوة الأولى لقصة الميلاد إليهم، وإلى المتعبين، والمهمشين، ومن يتحلون بالأمل. نعم، كانت رسالة الملائكة لكل الناس، لكنها لامست أعمق أثرها أولئك الذين لم يكن لديهم ما يقدمونه سوى حاجتهم. أمل عيد الميلاد لا يعتمد على ما نملك، بل على ما يُمنح لنا: محبة تلتقينا في فقرنا، مهما كان شكلها.
وهكذا، من الأرض التي احتضنت أمير السلام، نجرؤ على توجيه رسالة تجمع بين القدم والحداثة: رسالة محبة وسلام وأخوّة لجميع البشر. ليست هذه رسالة سلام ساذجة تتجاهل الصراعات، بل رسالة سلام مُتحدّية—سلام يختار الرحمة في وجه الكراهية، والتعاطف بدل اللامبالاة. إنه السلام الذي جسّده المسيح، محبة جذرية تكسر الحواجز وتعترف بأخ أو أخت في كل وجه إنساني، بغض النظر عن الحدود أو العقيدة أو المكانة.
دعونا في هذا الميلاد نسعى للشعور بالروح الحقيقية، ليس في وهج الأضواء الزاهية، بل في فعل الخير. فلنعظّم ميلاد الملك بلا مأوى بتذكر المشرّدين، ولنحتفل برحلة العائلة المقدّسة باستقبال الغريب. ولنجسّد هبة محبة الله بمنح وقتنا وانتباهنا وتعاطفنا لأولئك الذين يشعرون بالفقر الروحي.
النور يشرق في الظلمة، والظلمة لم تغلبه. كان العالم مظلمًا عند ميلاد المسيح، وما يزال مظلمًا الآن. لكن وعد عيد الميلاد هو أن نورًا واحدًا—وُلد في المذود وولد في قلوبنا—يكفي ليُعيد لنا البدايات ويضيء طريقنا من جديد.
