الأربعاء ١ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم محمد العادل لطيف

شيوخ ابن خلدون وتأثيرهم في فكره من خلال ” العِبَرْ “

مقدمة :

نضجت أفكار ابن خلدون ضمن تيار فكري مرتبط أشد الارتباط بواقع عصره. ورغم التساؤلات والنظريات العميقة والجديدة التي وضعها بالمقدمة؛ كان من المستحيل بالنسبة إليه أن يفكر فيما لا يمكن التفكير فيه، أي أن يخرج عن التوجه الثقافي السائد في القرون الوسطى المتأخرة والذي عمّق ”ثقافة الخوف“ التي اكتسحت كل مجالات الفكر والعمل بطريقة ممنهجة ومنظمة ومؤطّرة من قبل السلطة الشرعية ومؤسساتها الدينية الضابطة لقواعد السلوك بتزكيتها أو بإقصائها لما ينسجم أو لا ينسجم مع رؤيتها للعالم. فلا يمكن للأهداف المنشودة من قبل الإنسان أن تتحقق إلا في إطار هذه المنظومة المعرفية وداخل الدائرة المركزية التي تمنع التفكير بتصورات وآفاق أخرى، وبالتالي فإنها تهدر الطاقات الدفينة للإنسان وتحُولُ دون تخيّل إمكانية حصول أو تحقيق أهداف جديدة في سيرورته وسعيه.

لذلك فإن التعريف بشيوخه والتعرُّف عليهم، على توجُّهاتهم الفكرية وعلى مدى تأثيرهم في فكره، سيمكننا من كشف بعض الأبعاد المعرفيّة والتناقضات الفكرية التي كابدها صاحب العبر الذي نوّه بالعديد منهم.

إضافة إلى والده، اكتفى ابن خلدون باستعراض سبعة وعشرين شيخا من بين مجموعة كبيرة من الشيوخ الذين تلقّى عليهم بطريقة أو بأخرى نوعا أو أنواعا من العلوم السائدة في عصره وهم :

1) علماء و فقهاء إفريقية :

1. والده محمد الذي أخذ عنه « صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه» (7/510) توفي سنة 749 ه‍ /1348م بالطاعون خلال تلك السنة وابن خلدون لم يتجاوز 16 سنة شمسية.

2. محمد بن برّال الأنصاري، أبو عبد الله. وهو أندلسي، بلنسي من جالية الأندلس، تتلمذ على مشيخة بلنسية قبل هجرته إلى إفريقية، أخذ عنه ابن خلدون عدة مواد علمية، درس عليه القرآن والقراءات برواية يعقوب وعرض عليه قصيدتي الشاطبي اللاّميّة والرائية المعروفة بـ”حرز الأماني وعقيلة أتراب الفضائل في القراءات والرسم القرآني“ كما درس معه كتابي التفسير لأحاديث الموطأ والتمهيد على موطأ مالك لابن عبد البر وكتاب تسهيل القواعد لابن مالك الذي جمع فيه قواعد النحو بإيجاز، إضافة إلى مختصر ابن الحاجب في الفقه المالكي ويسمى المختصر الفقهي والفرعي والجامع بين الأمهات والذي عني بشرحه العديد من فقهاء المغرب .

3. الحصايري : أبو عبد الله محمد العربي : درس عنه كذلك كتاب التسهيل المذكور آنفا وأخذ عنه علوم القرآن والحديث والفقه والبعض من علوم العربية.

4. ابن الشاوش: أبو عبد الله محمد الزرزالي أو المزازي: يشير ابن خلدون إلى اسمه فقط ولا يمكِّننا من المزيد حول شخصيته ولا على أنواع الدروس التي أخذها عنه.

5. ابن القصّار: أبو العباس أحمد، أخذ عنه علوم النحو ويشير ابن خلدون إلى أن لشيخه هذا شرحا لقصيدة البردة وهذا دليل على إمكانية اهتمام هؤلاء الفقهاء والمدرسين بعدة مواد وعلوم تجمع بين التفسير والعربية والتصوف.

6. ابن بحر: أبو عبد الله محمد، أخذ عنه علوم اللسان وشجعه على حفظ عديد القصائد بما فيها الأشعار الستة وشرح شعر أبي تمام ضمن قصائده المتضمنة في كتاب الحماسة ، هذا الشرح قام به الأعلم الشمنتري الأندلسي ويذكر ابن خلدون انه حفظ الكثير من شعر أبي تمام والمتنبّي ومن الأشعار الواردة بكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والذي نقل عنه ابن خلدون نصوصا طويلة نجدها بالكتاب الأول من العبر وخاصة بفصل : ” في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء.“ (1/170)

7. الوادآشي : شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر القيسي الأندلسي توفي ( ت : 749 ه‍ / 1348م ) بالطاعون وذكره ابن القنفد كرَاوية، ويشير ابن خلدون أنه أجازه إجازة عامة في كتب كثيرة في العربية والفقه واعتبره إمام المحدثين فسمع عنه عديد الأحاديث النبوية من موطأ مالك وصحيح مسلم، وصفه بصاحب الرحلتين، أي أنه قام برحلتين إلى الشرق الأولى سنة (720 ه‍ /1320م) والثانية سنة (734 ه‍ /1333). ترجم له العسقلاني قائلا: « عارفا بالنحو واللغة والحديث والقراءة ... استكثر من الرواية حتى صار راوية الوقت.»

8. الجيَّاني : أبو عبد الله محمد بن عبد الله [ المعروف بالبغدادي ] لم نتحصل على أية معطيات حوله وابن خلدون يشير لاسمه فقط وبأنه أخذ عنه الفقه.

9. القصيّر: أبو القاسم محمد، درس معه ابن خلدون كتاب التهذيب في اختصار المدوّنة لأبي سعيد البراذعي، درّس ”بمدرسة ابن اللوز“، يباشر فيها تفسير القرآن دون حفظه، « فأنكروا عليه ذلك وقال له أحد أصحاب الزوايا وهو أبو الحسن علي العبيدلي : لا يجوز لك تفسير القرآن حتّى تحفظه كلّه، فأخذ ذلك منه بالقبول وأقبل على درس القرآن حتى حفظه.» قرأ عليه ابن خلدون كذلك مختصر المدوّنة وكتاب المالكية لكننا لا نعلم أيّها من عشرات الكتب التي كتبت في المالكية.

10. ابن عبد السلام الهواري : ( ت : 750 ه‍ / 1349 م ) أبو عبد الله محمد المنستيري التونسي، قاضي الجماعة وشيخ الفتيا، شَارِحُ مختصر ابن الحاجب الفرعي في الفقه، توفي بالطاعون سنة 749 . حضر مجالس السلطان أبي الحسن المريني عندما زحف على إفريقية وأثبت جدارته وكفاءته، إذ يشير المقّري في أزهار الرياض إلى مناظرة دارت بمجلس السلطان المريني بتونس قائلا :

« ... وتوجّهت مطالبة فقهاء المغرب له، فكان رحمه الله على ما وصفه [السطّي] من أرّخ الواقع كأنّه بحر تلاطمت أمواجه فكان يقطعهم واحد بعد آخر ... إلى أن قال أبو عبد الله السطّي : يا علي، كذا يكون التحصيل وكذا يُقرأ الفقه، ولو لم يكن بتونس إلاّ هذا الإمام، لكان بها كل خير، فلا بد من ملازمة هذا المجلس حتى ينتفع به أصحابنا وننتفع بطريقه.» لكن هذه الرواية ينفيها نفيا قاطعا ابن ناجي في معالم الإيمان حيث يقول : «... وكان الشيخ أبو عبد الله محمد السطّي مفتي فاس وصل مع السلطان أبي الحسن إفريقيّة ودخل تونس ورأى مشيختها وحضر مجلس ابن عبد السلام... فقيل للشيخ أبي عبد الله محمد السطّي : من رأيت بإفريقيّة؟ قال : ما رأيت فيها أفقه من الرمّاح بالقيروان. فقيل له : فابن عبد السلام؟ فقال : لا ابن عبد السلام ولا غيره.» ويشير النبهاني في المرقبة العليا إلى أنه « برع في المعقولات وقام على حفظ المنقولات...صنّف كتبا منها شرحه لمختصر أبي عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب، الفقهي المتداول لهذا العهد بأيدي النّاس » ويروي إشكالية ظهرت بمدينة القيروان يوم جمعة عندما كان أبو الحسن المريني فارًّا إليها من أعدائه. وتتمثل الإشكالية في ضرورة قيام خطبة الجمعة. لكن باسم من تقام الخطبة؟ هل تكون باسم أبى العباس الحفصي؟ أم باسم أبي الحسن المريني؟ فتدخل ابن عبد السلام قائلا: « لم يثبت لدنيا ما يوجب العدول عن طاعة السلطان أبي الحسن، واستصحاب الحال حجّة لنا وعلينا... وحصلت السلامة للقاضي بحُسن نيته...حدثني بهذه الحكاية غير واحد من الثقات الأثبات منهم صاحبنا الفقيه المتفنن الأصيل أبو زيد عبد الرحمان بن محمد بن خلدون الحضرمي.»

كان ابن عبد السلام من شيوخ المدرسة الشمّاعية الواقعة قرب جامع الزيتونة وسوق العطارين، انتدبته الأميرة فاطمة أخت السلطان أبي يحيى أبي بكر زكرياء سنة 742 ه‍ /1341م للإدارة والتدريس بالمدرسة العنقيّة فكان يقسم الأسبوع بينها وبين الشمّاعية إلى أن صرفته الأميرة عنها متهمة إيّاه بالتقصير. « ثم إن الحرة عزلته من مدرستها ونسبته للتفريط.» سمع عنه ابن خلدون كتاب الموطأ.

2) علماء و فقهاء المغرب الأقصى :

لقد كانت الحملة التي قام بها أبو الحسن المريني على إفريقيّة سنة 748 هجري (1347 م) فرصة لابن خلدون كي يتعرّف على مجموعة كبيرة من أهل العلم المغاربة، استقدمهم السلطان معه « يلزمهم شهود مجلسه ويتجمّل بمكانهم فيه» (7/513) ويقال أن عددهم بلغ 400 من فقهاء وقضاة وأدباء وشعراء وغيرهم.

لقد تمكّن ابن خلدون من ملازمة بعضهم بتونس واللحاق بهم بفاس، فكان لهم عليه تأثير كبير ولا سيما الآبلي وأبو البركات البلفيقي والشريف الحَسني. فلهؤلاء الثلاثة من بين ثمانية عشر شيخا، أبدى ابن خلدون نحوهم تبجيلا كبيرا معترفا بعلمهم وكفاءاتهم ولما قدّموه له من علم ومعرفة ومنهج في التفكير.

لكنّنا سنضيف ثلاث شخصيّات أخرى كان لها أيضا أثر بالغ في تكوينه العلمي والمعرفي والسّلوكي، لم يذكرهم ابن خلدون كشيوخ له، لكن احتكاكه بهم ومباشرته لهم أدّت إلى التأثير عليه وهم : إبراهيم ابن زرزر اليهودي طبيب بلاط ابن الأحمر وفارس بن ميمون بن ودرار وزير أبي الحسن المريني وأخيرا صديقه ذو الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب.

1) الآبلي : يكفي أن نورد هذه الصفات التي وصفها به ابن خلدون في كتابه ”لباب المحصّل في أصول الدّين“ كي نعلم مدى أهميّة هذا الشيخ في المسيرة العلميّة لتلميذه : « ... إلى أن طلع الآن شمس نور آفاقه، ومدّ على الخافقين رواقه، وهو سيّدنا ومولانا الإمام الكبير العالم العلاّمة فخر الدنيا والدين، حجة الإسلام والمسلمين، غيّاث النفوس، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي، رضي الله عن مقامه وأوزعني شكر إنعامه، شيخ الجلالة وإمامها، ومبدأ المعارف وختامها، ألقت العلوم زمامها بيده وملّكته ما ضاهى به كثيرا ممّن قبله وملّكته ما لا ينبغي لأحد من بعده، فهي جارية على وفق مراده، سائغة له حالتَيْ إصداره وإيراده. فاقتطفنا من يانع أزهاره واغترفنا من معين أنهاره، وأفاض علينا سيب علومه وحلاّنا بمنثور درّه ومنظومه... »

لقد حافظ ابن خلدون على رأيه وموقفه من شيخه الآبلي، إذ نلاحظ نفس صفات التِجِلَّة والوقار بالتعريف الذي كتبه في أواخر حياته، في حين أن اللباب قد كتبه بتونس وهو لم يتجاوز العقد الثاني من عمره. فيصفه بالتعريف قائلا : « ... شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقلية، ومفيد جماعتهم ... » (7/386) ونظرا لأهميّة هذه الشخصيّة في حياة وتكوين ابن خلدون، رأيت من الضروري التعرّف على مدى تأثّره بشيخه مقارنة ببقيّة شيوخه.

ولد الآبلي بتلمسان سنة 681 هجري ( 1282 م) وتوفّي سنة 757 ( 1356م) بفاس، أندلسي الأصل من مدينة آبلة الواقعة بالشمال الغربي لمدريد، كان والده قائدا عسكريّا ضمن جيوش الدولة الزيانية في عهد يغمراسن بن زيّان الذي عدّد ابن خلدون خصاله مشيدا بفطنته السياسيّة وبحزمه في إدارة شؤون الدولة وبحكمته.
كان جدّ الآبلي للأمّ الذي قاضيا اعتنى بحفيده في غياب والده الذي كان دائما ضمن تنقّلات الجيش، وهذه الرعاية سمحت للآبلي بتفتّق إمكانياته الذاتيّة فنشأ ميّالا إلى « انتحال العلم عن الجنديّة التي كانت منتحل أبيه وعمّه.» (7/519) ورغم صغر سنّه فقد استطاع استقطاب أنظار وشغف طالبي العلم بمدينته واشتهر بتحكّمه في العلوم العقليّة والتعاليم، « فعكف الناس عليه في تعلُّمها.» (7
/519)

عاش الآبلي عدّة مآسي لحقت بتلمسان تتمثل أساسا في حملة يوسف بن يعقوب الناصر المريني (685-706 ه‍ / 1286-1290م) على هذه المدينة وحصاره لها بداية من شهر شعبان سنة 698 ه‍ (ماي1299م) ودام الحصار ثماني سنوات، فشاهد الآبلي عن قرب كل الأحداث إذ كان « في صباه قهرمان دارهم » (7/127) أي تُرجمان، من أمناء الملك وخاصّته والخازن والوكيل والحافظ لما تحت يديه والقائم بالأمور.

في بداية الحصار كان للآبلي سبعة عشر سنة شمسية وهي سن تخوّل له في تلك الفترة، القيام ببعض الشؤون الإداريّة، فحسب التفسير الذي يقدِّمه ابن خلدون، يبدو أنَّ مهمة القهرمان قد تطوّرت وكانت أصلا لمنصب الحجابة. وبالتالي نستنتج أنَّ الدور الذي قام به الآبلي داخل الدولة الزيانية لا يقل أهمية عن دور الحاجب، لا سيما خلال فترة الحصار التي عاينها الآبلي وكان المصدر الرئيسي لابن خلدون في سرده لهذه الأحداث، انتهى الحصار بمقتل السلطان يوسف بن يعقوب وقد بلغ الآبلي 25 سنة، لكنه لم يقض كامل فترة الحصار داخل المدينة، إذ فضَّل تسوُّر أسوار تلمسان للِّحاق بوالده الذي تم اعتقاله من قبل القوّات المرينية حسبما بلغه من أخبار.
لا يذكر لنا ابن خلدون تاريخ خروج شيخه من تلمسان إلى معسكر يوسف بن يعقوب المريني لكننا نستطيع استنتاج ذلك من خلال تتالي الأحداث. إذ يعلمنا صاحب العبر بأن الآبلي كان متواجدا للمرة الثانية بتلمسان اثر « مهلك يوسف بن يعقوب وخلاص أهل تلمسان من الحصار» (7/520) بعد غياب طال سبع سنوات قضاها الآبلي بالمشرق.

اندسّ الآبلي متنكرا ضمن مجموعة من المتصوفة والتقى بأحد المنتسبين لآل علي بن أبي طالب وانظم إلى جماعته وسافر في موكبه قاصدا البقاع المقدسة عبر تونس برًّا حيث أقلَّتهم سفينة نحو الإسكندرية ومنها اتجهوا نحو مكة، وبعد أداء الفريضة انتقلوا نحو كربلاء ومنها تمّت العودة إلى المغرب الأقصى.

لا يمكّننا الآبلي عن طريق تلميذه بأيّة معلومات شافية حول علاقاته ومشاهداته للأحداث التي واجهته خلال هذه الفترة التي تعتبر طويلة نسبيّا، [ 7 سنوات ] فقد يكون لها دور أساسي في تحصيله المعرفي وفي توجهاته الفكرية. ونعتقد أنَّ الآبلي اختلق حكاية غريبة لا أساس لها من الصحة تجعل المحيطين به ببلاده يعتقدون في أنه لم يستوعب شيئا من أحداث ومعارف وعلوم المشرق ولم تكن له أيَّة اتصالات مريبة بالشخصيَّات الفاعلة في الأحداث بالشرق.

تتمثل حكاية الآبلي في أنه تناول عن طريق الخطأ، وهو على متن السفينة بين تونس والإسكندرية، مادة الكافور، فاختلط عليه الأمر، وفقد إمكانية تمييزه للأشياء حتى إنه قابل البعض من فقهاء البلاد المصرية وهم « تقي الدين بن دقيق العيد وابن الرفعة وصفي الدين الهندي والتبريزي وغيرهم من فرسان المعقول والمنقول، فلم يكن قُصَارَاه إلا تمييز أشخاصهم» (7/520) فإن كان الآبلي على هذه الحالة من الاختلاط، فكيف استطاع القيام بمناسك الحج؟ وان كان المرض قد أصابه على السفينة، فلماذا لم يبادر الشيخ العلوي الكربلائي إلى ردّ الآبلي إلى بلده انطلاقا من الإسكندرية؟ أو لماذا قبل به لمواصلة الرحلة معه إلى الحجاز ثم إلى كربلاء وقد كان بإمكانه أيضا ردّه إلى المغرب رفقة وفود الحجيج المغاربة العائدة بعد أداء فريضة الحج؟

لا يطرح ابن خلدون هذا التساؤل ولا يقدم لنا الآبلي أي تفسير سوى أنه استطاع استرجاع مداركه العقلية فجأة عندما أصبح ببلاده ثانية. من الصعب جدًّا تصديق رواية الآبلي هذه ونحن نعتقد فعلا في اختلاقها من قِبَلِهِ تجنّبا لكل الاحتمالات السيئة.
ماذا فعل الآبلي طوال هذه الفترة التي قضاها بالعراق؟ هل زار بغداد؟ ومن الأكيد أنه استقرّ ولو لفترة بدمشق والقاهرة، ما هي الكتب التي طالعها؟ هل لاحظ مخاوف السكان من اجتياح التتار لبلاد الشام؟ تساؤلات عديدة ستظل دون إجابة، لكننا نستطيع أن نستشفّ التوجّهات الكبرى للآبلي من خلال ما عُرف عنه وما اشتهر به وما نقل عنه تلامذته وهم المقّري الجدّ ويحيى ابن خلدون وشقيقه صاحب العبر إضافة إلى بعض الإشارات المقتضبة التي أوردها لسان الدين ابن الخطيب بكتابه الإحاطة، أمَّا بقية المصادر فتظل نسخا شبه مشوهة لما ورد لدى هؤلاء.

يُمكن تقسيم حياة الآبلي إلى ثلاث فترات غير متوازنة من حيث المدة الزمنية : الأولى إلى سنِّ الثامنة عشر التي قضاها بمسقط رأسه، والثانية تمتد على سبع سنوات قضاها في رحلته إلى الشرق، والثَّالثة تتمثّل في استقراره أخيرا بالمغرب الأقصى بين تلمسان وفاس، وهي الرحلة الأخيرة التي انتهت بوفاته لكنها تعتبر الأكثر خصوبة، خصّصها الآبلي للدراسة والتدريس مفضلا العلوم العقلية التي تلقَّاها على مجموعة من مشاهير شيوخ المغرب آنذاك منهم أبو موسى ابن الإمام وابن البنّاء بكلٍّ من تلمسان وفاس ومرّاكش وأصبح متضلِّعا في الحساب والرياضيات والمنطق والفلسفة.
لكننا نعتقد بأنَّ ما قدّمه له ابن الإمام وابن البنّاء، غير كاف، وان الصّيت الواسع الذي أصبح له لدى العامة والخاصة كان نتيجة لمطالعاته الشخصية التي من الأكيد أن يكون قد تحصل عليها ببلاد الشرق وبجبل الهساكرة الذي امتنع فيه مدة في ضيافة أحد شيوخ هذه القبيلة وهو علي بن محمد بن تروميت.

يشير يحيى بن خلدون إلى أن الآبلي قد عرف بعض علماء الشرق واستفاد من دروسهم لكنه لا يذكرهم ولا يذكر نوعية الدروس التي تلقّاها منهم، أما المتأكد فعلا فهو أن الآبلي كان على علم بكلِّ الفلسفة الشرقية من خلال كتاب الرّازي ” محصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين “ والذي اقترح على ابن خلدون مراجعته وتلخيصه فأخرجه التلميذ بعنوان ”لباب المحصَّل في أصول الدين “.

لقد قرأ الآبلي لأبي عبد الله الرّازي (606 ه‍ / 1210م) الذي اعتبره أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل وله العديد من المؤلفات، كما قرأ لنصير الدين الطوُّسي (672 ه‍ / 1274م) الذي اشتهر بتحكّمه في بناء المراصد ووضع الآلات الفلكيّة الدقيقة، وبمؤلَّفاته الفلسفية، لكن الفكر السنّي يتّهمه بالدخول في خدمة هولاكو (ت : 663 ه‍ /1265 م ) ويعتبره من المتسبّبين في سقوط بغداد بيد المغول، لذلك نجد تشنيعا كبيرا بشخصه وبكتبه. من تلامذته القطب الشيرازي ( ت : 710 ه‍ /1310م ) الذي كان متواجدا بالعراق خلال نفس الفترة التي تواجد خلالها الآبلي بالشرق.

إننا نعتقد بأن الإقامة الطويلة للآبلي بالشرق، قد مكّنته من الإطلاع على عديد الكتب الفلسفية ولا سيما للرّازي والطّوسي مُمَثِّلاَ خطَّ التواصل مع أبي حامد الغزالي بالنسبة للأول، ومع ابن سينا بالنسبة للثاني. ويعترف ابن خلدون بأن شيخه الآبلي قد درّس كتاب الإشارات لابن سينا إلى تلميذه الشريف الحسني الذي سيكون بدوره شيخا لابن خلدون، الذي يقول عنه « صاحبنا »، وفي مكان آخر يشير صراحة إلى هذا الكتاب المذكور قائلا : « لمّا كان هو [ الحسني ] أحكم ذلك الكتاب [ الإشارات ] على شيخنا الآبلي .» (7/536)
إنَّ جملة هذه المعطيات تؤكد معرفة الآبلي بكتب الفلسفة والمنطق، ثم إنَّ ابن خلدون يشير إلى أن هذا التواصل المعرفي في مجال العلوم العقلية رغم تقلّصه ببلاد المغرب، كان لا يزال له الأثر الهام في شخص ابني الإمام عن طريق المشذالي وابن عبد السلام وعبد الله بن شعيب الدكالي والقاضي أبو القاسم بن زيتون الذي أدرك تلامذة الرّازي بالشرق « فأخذ عنهم ولقّن تعليمهم وحذق في العقليّات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن. » (1/544)
إضافة إلى هذه المعطيات الجليّة التي أشار إليها ابن خلدون فإننا يمكن أن نستخلص المزيد من الاستنتاجات انطلاقا من بعض التلميحات الواردة بالعبر.

أثناء استعراضه لقبائل المصامدة البربرية أكّد ابن خلدون على قبيلة هسكورة التي لجأ إليها الآبلي هروبا من أبي حمّو أمير تلمسان الذي أراد استخدامه في « ضبط أمواله ومشارفة أحواله ... فأعذل الحيلة في الخلاص منه ولحق بفاس ... ثم استدعاه شيخ الهساكرة وأقام عنده مدّة ...» (7/520-521) وعندما يطلعنا ابن خلدون على أخبار هذا البطن من قبيلة مصمودة، فإنه يشير إلى امتناع المصامدة بمنطقة جبليّة صعبة المنال، رفضت الدخول في طاعة بني مرين فيقول : « وأما هسكورة، وهم لهذا العهد في عداد المصامدة وينسبون إلى دعوة الموحدين، وهم أمم كثيرة وبطون واسعة، ومواطنهم بجبالهم متصلة من درن إلى تادلاً من جانب الشرق إلى درعة من جانب القبلة ... ولما انقرض أمر الموحدين استعصوا على بني مرين مدة، واختلفت حالهم معهم في الاستقامة والنفرة، وكانوا ملجأ للنازعين عن الطاعة من عرب جشم، ومأوى للثائرين منهم.» (6/271) أي إن هذه المنطقة تعتبر ملجأ لمن رفض الخضوع للسلطة المركزيّة أيّا كانت، وذلك ما فعله الآبلي بصفة أو بأخرى، إذ يضيف ابن خلدون بفصل آخر : « ... . ولما انقرض أمر الموحدين وتغلب بنو مرين على المصامدة أجمع، ... اعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم واعتزّوا فيه بمنعتهم، فلم يغمسوا في خدمتهم يداً، ولا أعطوهم مقاداً ولا رفعوا بدعوتهم راية، إنما هي منابذة لأمرهم وامتناع عليهم سائر الأيام.» (6/354)

كما يشير صاحب العبر إلى أن أحد قادة هسكورة وهو « ... عبد الواحد، وكان له في الاستبداد والصرامة ذكر، وهلك سنة ثمانين وستمائة، وكان منتحلاً للعلم، واعية له، جمّاعة لكتبه ودواوينه، حافظاً لفروع الفقه... محباً في الفلسفة، مطالعاً لكتبها، حريصاً على نتائجها من علم الكيمياء والسيمياء والسحر والشعوذة، مطلعاً على الشرائع القديمة والكتب المنزّلة بكتب التوراة ويجالس أحبار اليهود حتى لقد اُتهم في عقيدته ورُمي بالرغبة عن دينه.» (6/354-355)

نستنتج من النصّ السّابق بأن المعرفة الفلسفيّة والكتب في مجال العلوم العقليّة كانت متوفّرة بهذه المنطقة الجبليّة الممتنعة، ومن الممكن أن يكون الآبلي قد اطّلع عليها خلال إقامته لدى شيخ الهساكرة علي بن محمد بن تروميت (7/521) لا سيما وإن الفاصل الزمني بين وفاة عبد الواحد المذكور آنفا ( سنة 680 ه‍ 1281 م ) وإقامة الآبلي بالجبل (سنة 710 ه‍ 1310م)، لا يعتبر ذو أهميّة بالغة، ثم أن ابن خلدون يشير إلى أن هذه الإقامة دامت أعواما : « ... ثم صعد إلى جبل الهساكرة بعد وفاة الشيخ باستدعاء علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، فأفاده، وبعد أعوام استنزله ملك المغرب، السلطان أبو سعيد، وأسكنه بالبلد الجديد والآبلي معه .» (7/514) فماذا كان يفعل الآبلي طيلة هذه الأعوام؟ هل كان بمقدوره الخنوع والاستسلام إلى أمره دون مطالعة، والاكتفاء بالعبادة، أو بدروس يقدّمها لبعض الشباب من أهل الجبل؟

لقد كان الآبلي على وعي تام بخطورة الاتجاه الفكري الذي انتحله. لذلك لم يترك لنا أثرا كتابيّا، وفضّل ممارسة نشاطه العلمي مباشرة مع تلامذته. وقد سبق أن ذكرنا أن المقّري الجدّ نقل عنه قوله : « إنما أفسد العلم كثرة التواليف » فقد اختلق رواية الكافور وفقدانه لتوازنه العقلي خلال رحلته إلى الشرق كي لا ” يُتّهم بالرغبة عن دينه. “

نظرا لشهرته التي بدأت تنتشر لدى الأوساط العلميّة، قام السلطان أبو الحسن المريني بدعوة الآبلي « ... من مكانه بفاس ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه، وعكف على التدريس والتعليم، ولزم صحابة السلطان، وحضر معه واقعة طريف، وواقعة القيروان بإفريقية.» (7/521) فكان من بين القلائل الذين نجوا من الطاعون.

تعرّف ابن خلدون على شيخه خلال هذه الأحداث، فلزم مجلسه و« عكفت على القراءة عليه ثلاث سنين إلى أن شدوت بعض الشيء» (7/532) ويبدو بأن العلاقة بينهما أصبحت متميّزة لا سيما بعد فقدان صاحب العبر لوالديه من جرّاء الوباء وقبول الآبلي الإقامة ببيت ابن خلدون، إذ يقول صاحب العبر : « ... وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا، فأشرنا عليه بالمقام وثبطناه عن السفر، فقبل وأقام وطالبنا به السلطان أبو الحسن فأحسنّا له العذر، فتجافى عنه.» (7/521)

ما الذي شجّع الآبلي على القبول بدعوة آل ابن خلدون وتفضيلهم على مرافقة السلطان أثناء عودته إلى المغرب الأقصى؟ هل يكون لتونس هذا الدور الهام في جلب اهتمامه حتّى أن ظروف إقامته بها جعلته لا يفكّر في العودة إلى مسقط رأسه؟

أم أن واجبه التربوي وربّما الأبوي والعاطفي إزاء ابن خلدون وأخيه يحيى جعله يضحّي بمنزلة السلطان المريني وبالعودة إلى وطنه؟ هل كان له أمل في فطنة الشاب ابن خلدون فأراد متابعة تكوينه العلمي والفلسفي؟

إن هذه التساؤلات تفرض نفسها علينا لا سيما وأن الآبلي لم يرجع إلى المغرب الأقصى إلاّ بدعوة صريحة ورسميّة من أبي عنان الذي أرسل في طلبه رفقة سفير خاص قدم على سفينة خُصِّصت للغرض. يقول ابن خلدون في هذا الصدد : « ... فلما هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتانة وفرغ ابنه أبو عنان من شواغله، وملك تلمسان من بني عبد الواد، كتب فيه يطلبه من صاحب تونس ... فأسلمه إلى سفيره. وركب معه البحر في أسطول أبي عنان ... »(7/521) ثم يُرسي الأسطول ببجاية حيث يقيم الآبلي شهرا بطلب ملحٍّ من طلبة العلم بها، فيدرس معهم مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، ويصل أخيرا إلى تلمسان ويَقدم على السلطان أبو عنان الذي « أحلّه محل التكرمة ونظمه في طبقة أشياخه من العلماء.» (7/521)

ما الذي دفع بأبي عنان حتّى يرسل سفيرا في طلب الآبلي من السلطان الحفصي؟ ألا يكفيه أعضاء مجلسه العلمي الذي يعجّ بالعلماء وبأشباههم؟ هل كان السلطان المريني في حاجة أكيدة للآبلي؟ أم كان يعتقد بأن هذا العالم يمثّل رمزا من الرموز التي يجب التشبّث والتجمّل بها والحفاظ عليها وبالتالي فهو أولى بها من الحفصيين؟

لقد فرّ الآبلي من أبي حمّو أمير تلمسان لكنّه لم يستطع تفادي دعوة أبي الحسن ولا دعوة ابنه أبي عنان، ولا نستطيع تفسير قبوله البقاء بتونس في ضيافة آل ابن خلدون إلاّ برغبته في الابتعاد عن أهل الشوكة والقهر. لقد فشل في الانعزال بجبل الهساكرة عندما أراد أن يكون كالرهبان في خلوته، ذاك للعبادة وهو للقراءة والعلم، وفشل في البقاء بتونس رفقة طلبة العلم لأن السلطة السياسية أرادت أن يكون تحت مراقبتها، داخل منظومتها، وإلاّ فإن مصيره سيكون الاتهام بالزندقة والجنوح عن الدين.

إن الآبلي يمثّل في الحقيقة نموذجا من النماذج الشاذّة، المعزولة التي لازالت تتخبّط دون جدوى من أجل الحفاظ على استقلاليّة تفكيرها وممارساتها في زمن تكلّست فيه كل الأفكار والمعتقدات، وتعطّلت فيه كل الصور، وأضحى الحلم محظورا والتنقّل ممنوعا والكتابة في غير المديح كفرا؛ وسيصبح ابن خلدون صورة مصغّرة من شيخه وسنلاحظ بأن مسار حياته يشبه إلى حدٍّ بعيد مسار الآبلي. فالنظام الذي طوّق فكر وتحرّكات الشيخ، سينجح في احتواء التلميذ مبكِّرا.
إنّنا نعتقد أن ابن خلدون لم يستوعب الأفكار الرئيسيّة لشيخه الذي مكّنه من إمكانيّة فتح آفاقه على حقول جديدة للمعرفة لم تكن متوفّرة له بمحيطه العائلي ولا حتّى بحلقات الدرس التي كان قد تلقّاها بالجامع.

لقد انبهر ابن خلدون بشيخه لأن هذا الأخير كان مختلفا في طريقة تبليغه للمواد المدروسة ولمواضيع المواد المجترّة، وكان حضوره إلى جانبه خلال فترة حرجة من حياته وهي فترة انتقاليّة بين نهاية مرحلة التلقّي والشباب وبداية مرحلة العطاء والمسؤوليّة وهذا الحضور هو الذي حجب نوعا ما غياب والديه الفجئي. ولعلّ الآبلي كان يسعى من خلال اتصاله بتلميذه، إلى دفعه نحو ما عجز هو فعلا عن تحقيقه، وهو الابتعاد قدر المستطاع عن أصحاب الشوكة والسلطة، لأنه لا أمل في أي فكر مُدَجِّن من أن يجد له صدى داخل المجتمع، مهما بلغت عبقريّة هذا الفكر وتفرّده. وذلك ما عبّر عنه صراحة أبو البركات البلفيقي عندما قال : « من اقتصر على التعيّش من مرافق الملوك، ضاع هو ومن له، وشمله القِلُّ وخامره الذُلُّ.»
2) البلفيقي : محمد بن محمد بن إبراهيم ابن خلف السلمي، أبو البركات والمعروف بابن الحاج ( 708-770 / 1308-1369م )، التقى به ابن خلدون سنة 756 (1355م) بفاس (7/686) وذكر بأنه : « من أهل المرية شيخ المحدثين والفقهاء والأدباء والصوفية والخطباء بالأندلس، وسيّد أهل العلم بإطلاق، والمتفنن في أساليب المعارف، وآداب الصحابة للملوك.» (7/535-536) كما يصفه بالكتاب الأول من أنه كان « من أهل البصر في اللسان والقريحة في ذوقه»(1/802) لكنّه كان من بين الذين يُعارضون التفنّن في ” البديع “ فكان يحذّر بذلك تلامذته ويدعوهم إلى عدم تعاطي « هذه الصنعة فيكلَفون بها ويتناسون البلاغة»(1/802) فقد اعتبر ابن خلدون شيخه من « أصحاب الأذواق في البلاغة [الذين] يسخرون من كلفهم بهذه الفنون [المطبوع] و[المصنوع] ويعدّون ذلك من القصور عن سواه.» (1/802)

استفاد ابن خلدون من لقائه بشيخه هذا في عديد المجالات المعرفية وذكر بالخصوص بأنه كان سنده في موطأ مالك برواية يحيى بن يحيى الأندلسي وحضر حلقات درسه بجامع القرويين بفاس في مناسبة أخرى سنة 762 هجري (1361م). وكان يستشهد به أمام تلامذته بمصر، إذ يشير العسقلاني إلى أن ابن خلدون كان «عظيم الإجلال له لا يقدم عليه أحدا»

لقد أجمع المترجمون لحياة البلفيقي على مكانته الرفيعة في العلم والقضاء والأدب والشعر والفقه، ويقول النبهاني بأنه دأب على الأخذ من « المعارف كلها والتكلّم في أنواعها والإكثار من ملح الحكايات وطُرف الأخبار وغرائب الآثار... وشهر بالصّرامة في أحكامه والنزاهة أيّام نظره... » ويصفه ابن الخطيب بتحفة الدهر التي يقِلّ لها الكفاء... أمّا لفظ السيادة فهو مدلوله ... زاحم الثريّا بمناكبه...»

تبدو شخصيّة البلفيقي متميّزة عن غيرها من الفقهاء والعلماء بإلمامه بعلوم شتّى، لكن المصادر لا تتعرّض لمعرفته أو اطّلاعه على العلوم العقليّة، فهو فقيه وقاض قبل كل شيء، ورغم انتمائه إلى ألمريّة الأندلسيّة فقد تجوّل كثيرا بالمغرب وزار بجاية ومرّاكش وسبتة كما أقام بمالقة التي تولّى بها القضاء، ثم بغرناطة حيث أصبح خطيب جامعها الأعظم واستدعاه أبو سالم المريني للأخذ عنه بحضور ابن خلدون، لكن علاقته العاديّة والطبيعيّة التي لم تشبها أيّة شائبة مع ذوي السلطة السياسيّة، لم تمنعه من أن يكون حذرا منهم، غير مطمئن لجانبهم، ويمكن أن نستشف ذلك من خلال ما أورده النبهاني في المرقبة العليا حيث يقول بأنّه « كان كثير الضبط لحاله، متّهما بالنظر في تثمير ماله ... ويقول : [ البلفيقي ] ... فقد شرط كثير من العلماء في القاضي أن يكون غنيّا ليس بمديان ولا محتاج ...» كما تتأكّد طريقة عيشه الحذرة هذه من خلال ما قاله عنه ابن فرحون : « ... حليف الانقباض، لا يُرى إلاّ في منزل من منازله أو حلق الأساتيذ أو في مسجد من مساجد خارج المدينة المعدّة للتعبّد. لا يغشى سوقا ولا مجتمعا ولا وليمة ولا مجلس حاكم.»

إن هذا الحذر لم يمنع البلفيقي من الدخول في خدمة السلطة والقبول بمختلف الوظائف التي أُوكلت إليه، ثم إن صرامته ونزاهته لم تمنع من وصفه بالظرافة [ ملح الحكايات ] والطّرافة خاصة خلال حلقات درسه. فحياده وحذره هو الذي مكّنه من المحافظة على مكانته المادية والأدبية والمعنوية لدى كل من يحيط به من زملاء ورجال سياسة وتلاميذ.
3) المقّري : ( 710-759 ه‍ / 1310-1358 م ) محمد بن محمد بن أحمد ابن أبي بكر القرشي يُكنّى أبا عبد الله وينسب إلى بلدة تُسمّى ” مقّرة “ من قرى منطقة الزّاب بأرض المغرب. ولد بتلمسان وتوفّي وقُبِر بفاس ثم تم نقل رفاته إلى مسقط رأسه بعد سنة.

ترجم له العديد وخاصّة حفيده أحمد بن محمد (ت : 1041 ه‍ / 1632 م ) صاحب كتاب نفح الطّيب فحظي بعديد الترجمات قديما، وبدراسات وافية حديثا نظرا لعدة أسباب أوّلها إنه كان جد أحمد المقّري المذكور الذي عرّف به تعريفا مسهبا في النفح مشيرا إلى العديد من مؤلّفاته ورسائله الضخمة التي لم يصلنا منها إلاّ كتاب ” القواعد الفقهيّة “ ونظّم به 1200 قاعدة، وكتاب ”الكليات الفقهيّة“ وضع به 525 كلية وكتاب ”الحقائق والرقائق“ في التصوّف وبعض الرسائل الأخرى في ميادين شتّى (لغة، نحو، منطق ...). والمهم بالنسبة لموضوع بحثنا هو علاقة ابن خلدون بالمقّري ضمن هذه المجموعة الكبيرة من الشيوخ. كيف كان ينظر إليه صاحب العبر وما مدى تأثّره به؟
يشير ابن خلدون إلى أنه كان عِصامي التكوين قائلا : « ...من أهل تلمسان ... ورد عليها من المغرب خلوا من المعارف. ثم دعته همته إلى التحلي بالعلم، فعكف في بيته على مدارسة القرآن فحفظه، وقرأه بالسبع. ثم عكف على كتاب التسهيل في العربية فحفظه، ثم على مختصر ابن الحاجب في الفقه والأصول فحفظهما.» (7/534-535) ويبدو بأن ابن خلدون يجهل تاريخ عائلة المقّري، ولا يعلم بأنه أصيل مدينة تلمسان، ولد بها ولم يرد عليها من أيّ مكان آخر، إذ أنّ نسبته إلى قرية مقّرة تعود في الحقيقة إلى أجداده. والمقّري هو سليل أسرة ثريّة اتّسعت أعمالها بالتجارة بين سجلماسة وتلمسان، ولا يمكن أن يكون المقّري عصاميّا في مثل هذه الأوساط الثريّة رغم تقلّص الثروة، وقد اعترف المقّري بأنه لم يستفد ماديّا من هذا الإرث والثراء العائلي فيقول : « فلم تزل حالهم في نقصان إلى هذا اليوم، فها أنا ذا لم أدرك في ذلك إلاّ أثر نعمة ... ومن جملة ذلك خزانة من الكتب وأسباب كثيرة تعين على الطّلب ... فاستوعبت أهل البلد لقاء وأخذت عن بعضهم عرضا وإلقاء سواء المقيم القاطن والوارد والظاعن.»

سلك المقّري المسلك التقليدي الذي يتوفّر لكل أصحاب العائلات الحضريّة الثريّة مثله مثل ابن خلدون، وربّما كان أوفر حظّا منه لأنه درس مباشرة على ابني الإمام الذّائعي الصيت ثم على الآبلي الذي وصفه بـ”عالم الدنيا“ ثم أن هذا الإرث المادّي يدفع أحيانا نحو الرغبة في طلب العلم والآداب، وذلك ما يفسّر خزانة الكتب التي ورثها المقّري عن والده، كما أن توجّهه العلمي هذا ليس شاذّا، فالمقّري هو خال لأحد كبار رجال الفكر والسياسة والعلم والأدب، وهو ابن مرزوق الذي أدرجه ابن خلدون ضمن شيوخه وسنستوفي الكشف عن علاقتهما فيما يأتي.

رغم الإشادة بالتكوين العلمي لشيخه، فإنّنا نستشفّ كأن ابن خلدون يسعى إلى التقليص من أهميّة بعض الجوانب الإيجابيّة في شخصيّة أستاذه. فهو يعتبره صاحبه وليس شيخه فيقول : « ومنهم قاضي الجماعة بفاس... صاحبنا...» (7/534) ويكرّر نفس الصفة بعد عدّة فصول فيقول : « ... سألت صاحبنا كبير الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقّري مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت له : ...» (7/649) والملفت للانتباه أن ابن الخطيب، عكس ابن خلدون يقول : «قال شيخنا أبو عبد الله المقّري ...» في حين أن المقّري هو أسنّ من ابن خلدون بأكثر من عقدين من الزمن، أمّا ابن الخطيب فهو من أنداده. كما يخطئ ابن خلدون في ذكر تاريخ قيام المقّري بالحج فيورده سنة 740 (1340م)، في حين أن المقّري عن طريق حفيده يقول : « شهدت الوقفة سنة أربع وأربعين وسبعمائة وكانت جمعة.» واحتمال قيام المقّري بحجّة سابقة يكون بعيدا لأن ”النفح“ و”الإحاطة“ لا يشيران إلى ذلك أبدا.

إن المكانة التي أصبح عليها المقّري بتلمسان واثر عودته من رحلته المشرقيّة واتصاله بأبي عنان بفاس، جعل هذا السلطان يبتني له مدرسة جديدة وهي المدرسة المتوكليّة يلقي فيها دروسه، فتخرّج على يديه العديد من طلبة العلم.

واجه المقّري محنة كبرى من قِبل أبي عنان، فعزل عن منصب القضاء بفاس واستغلّ فرصة تكليفه بمهمّة رسميّة من قبل السلطان واستقرّ بغرناطة ورفض الرجوع إلى المغرب طالبا الانعزال والخلوة والعبادة بالأندلس، إذ كان له توجّه صوفي عميق تدل عليه عديد مؤلّفاته في هذا المجال، لكن البلاط المريني اعتبر انقطاعه « خطرة وسواس وبناء على غير أساس وحيرة تردّى في مهواها وحظّ نفس اتّبع هواها وعمل عريّ عن الإخلاص وباعده من الخلاص.» ويشير ابن خلدون إلى هذه المحنة والعزل لكنه لا يذكر الأسباب فيقول : « ... . وارتحل مع السلطان إلى فاس، فلما ملكها عزل قاضيها الشيخ المعمر أبا عبد الله بن عبد الرزاق وولّاه مكانه، فلم يزل قاضيا بها إلى أن أسخطه لبعض النزعات الملوكية، فعزله، أدال منه بالفقيه أبي عبد الله القشتالي آخر سنة ست وخمسين وسبعمائة، ثم بعثه في سفارة إلى الأندلس فامتنع من الرجوع.» (7/535) ولم يرجع المقّري إلى فاس إلاّ بعد حصوله على عهد أمان كتابي من أبي عنان بفضل مساعي أمير غرناطة وخطيبها أبو البركات البلفيقي رفقة الشيخ أبي القاسم الشريف السبتي بالشفاعة في المقّري وطلب العذر له.

ظلّ المقّري فترة بفاس « عطلا من الولاية والجراية »(7/535) واختلق السلطان المريني قضيّة شخصيّة عائليّة لإحالته على القضاء وطُلب منه المثول أمام القاضي، فامتنع المقّري من الوقوف أمام عدالة السلطان، فأُجبر على الحضور وتم تنفيذ الحكم فيه، وإثر هذه المحنة الثانية تم تعيينه على رأس قضاء العسكر إلى أن توفّي.

إن هذه التقلّبات من السلطان أبي عنان ليست جديدة وممارساته لا تخفى على أحد، فقد استفتح سلطانه بالانقلاب على والده وقتله وتشريد اخوته ونفيهم، وعند استيلائه على تلمسان قتل أحد كبار فقهائها وعلمائها وهو أبو عبد الله الناصري السّلوي « ... قتل يوم فتح تلمسان، قتله بعض أشياع السلطان لذنب أسلفه في خدمة أخيه أبي علي بسجلماسة قبل انتحاله العلم، كان السلطان توعده عليه، فقتل بباب المدرسة...» (7/535) وأبو عنان هو السبب في تشريد ابن مرزوق الآتي ذكره، وهو الذي امتحن ابن خلدون وسجنه لمدّة سنتين، وقد كتب المقّري تأليفا في هذا السلطان السفّاك لم يصلنا بعنوان : ” المحرّك لدعاوي الشر من أبي عنان“
إضافة إلى تمكّنه من العلوم النقليّة، يمكن أن نستنتج أن للمقّري علما بالعلوم العقليّة والحكميّة والمنطق في عصره، إذ من المؤلّفات التي لم تصلنا أيضا والتي أشار إليها الدكتور بو الاجفان كتاب : ”اختصار المحصّل“ ويرجّح أنه يلخّص كتاب الفخر الرّازي المذكور سابقا والذي أعاد صياغته ابن خلدون بعنوان ”لباب المحصّل“.

ويعتقد ناصيف نصّار في مقالته بأن الآبلي كان يعتمد على أفضل الدين الخونجي في شرح المنطق لتلامذته، وبالتالي فإن المقّري أخذ عن الآبلي هذا التوجّه وكتب تأليفا لم يصلنا أيضا بعنوان ”شرح جمل الخونجي“ ثم أخذ ابن خلدون عن شيخه الآبلي والمقّري هذه الشروح لأنه يذكر في الكتاب الأوّل عند تحليله لعلم المنطق بأن المتأخّرين الذين نظروا في هذا المجال هما فخر الدين الرّازي والخونجي(1/674) وهذا ما ذهب إليه برنشڤيك عندما أشار إلى أن « دراسة المنطق كانت تعتمد على دراسة بعض عناصره في مختصر شرقي تابع للقرن الثالث عشر وهو ”الجمل“ للخونجي أكثر من كتاب الفرابي أو ابن سينا» ويعتقد ابن خلدون بأن كتب الخونجي هي التي أصبحت أكثر تداولا بالشرق : « ...وأوّل من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب ومن بعده أفضل الدين الخونجي وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. وله في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل واختصر فيها مختصر الموجز وهو حسن في التعليم، ثم مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفن وأصوله فتداوله المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به. وهجرت كتب المتقدمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه.» (1/647)

لكنني أعتقد بأن الآبلي لم يكن يعتمد على الخونجي وخاصة على كتابه ”الجمل“ فقط، أوّلا لأن ابن خلدون لم يشر إلى العلاقة بين شيخه الآبلي والكتاب؛ ثانيا لأن هذا الكُتيّب هو في الحقيقة عبارة عن رسالة في بعض الصفحات التي ليست لها أهمية كبرى، لا من حيث المحتوى ولا من حيث المضمون العلمي، ولا يمكن للآبلي الذي سنحت له فرصة تواجده بالشرق من الاطّلاع على أمهات الكتب في هذا المجال، أن يعتمد عليه لتدريس المنطق لتلامذته.

إذا كان المقّري قد كتب فعلا كتابا بعنوان ”اختصار المحصّل“، فإنّه من المفيد جدّا بالنسبة إلينا مقارنته بكتاب ابن خلدون ”لباب المحصّل“. أمّا الثابت فهو أن هذا التوجّه قد زرعه الآبلي في تلامذته بما أن ابن خلدون قد كتب كتابه الأوّل قبل تحوّله إلى المغرب الأقصى، لكن، لا بد من أن يكون للمقّري دور هام في التأثير على صاحب العبر، ومساهمة لا شك فيها في بلورة فكره ورؤيته للواقع، إذ نجد نفس التوجّهات لديهما فيما يخص الطريقة البيداغوجيّة لتلقّي العلم والمعرفة. ومثل المقّري، ينتقد ابن خلدون كثرة التآليف والمختصرات ويحضّ على الرحلة في طلب العلم وعدم الاكتفاء بشيخ واحد أو بمكان واحد لتلقّي العلوم. فيقول المقّري في هذا الصدد : « إن التأليف نَسَخَ الرحلة التي هي أصل جمع العلم... يشتري [طالب العلم] أكبر ديوان بأبخس الأثمان فلا يقع منه أكثر من موقع ما عوّض عنه، فلم يزل الأمر كذلك حتى نسي الأوّل بالآخر.» ويؤكّد ابن خلدون هذا التوجّه بقوله : « على قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها. والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين...» (1/744-745) وأن الرحلة « لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال، بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال.» (1/745)

للمقّري مواقف متقدّمة في مجالات كانت ولا تزال تُعَدُّ خطرة على صاحبها وهي التنديد بالتعصّب المذهبي والممارسات السياسيّة الظالمة أي بالمفهوم الحديث ”الحكم المطلق“ فرغم المناخ السياسي المرعب الذي جسّدته السلطة السياسية في شخص السلطان أبي عنان، لم يستنكف المقّري عن الهروب واللجوء إلى بني الأحمر بغرناطة حيث حاول الابتعاد عن دواليب الدولة دون جدوى، ولم يتراجع عن كتابة ما يعتقد فيه الصح والتنديد بالمظاهر المنحرفة.
إن الطريقة التي قدّم بها ابن خلدون شيخه المقّري دفعتنا إلى التساؤل عن سبب التقليل من شأنه بعدم ذكر مؤلّفاته مثلا والتي لا يمكن لابن خلدون أن يكون جاهلا بها، لأن المقّري توفّي سنة 759 (1358م) وظل ابن خلدون بالمغرب إلى سنة 780 (1378م)، كما إنه لا يتعرّض إلى المكانة المتميّزة التي حصل عليها المقّري عندما تم بناء وتخصيص المدرسة المتوكليّة لحلقات درسه.

لا يمكن تفسير هذه الطريقة المعتمدة من قِبل ابن خلدون في التعريف بالمقّري إلاّ برغبته الدفينة في ضرورة الاستفراد بإرث الآبلي والظهور بمظهر الوريث الشرعي لهذا العالم. إذ يجب التقليص من شأن المقّري للرفع من شأن الآبلي وابني الإمام، فيبرز ابن خلدون كحلقة مباشرة لا تعتمد على واسطة، وسنلاحظ بأنه سيستعمل نفس هذه المنهجيّة مع ابن مرزوق.

إنّنا لا نقصد بهذا الاستنتاج من أن ابن خلدون قد اعتمد هذه الطريقة عن نيّة مُسبقة ووعي تام، بل إن ذلك لا يمكن أن يكون إلاّ بواسطة منهج لا واعي في التفكير يصبو إلى إبراز الذات السّاعية إلى تحقيق مكانة متميّزة ضمن سلسلة العلماء والفقهاء التي من الأجدر إقناع الغير بالانتماء إليها.

لقراءة القسم الثاني - (بقية) الدراسة انقر أدناه

القسم الثاني


مشاركة منتدى

  • كل الاحترام للاستاذ معلومات وافية وعميقة، اخذت منه جهدا بالغا نشكره لأننا استفدنا كثيرا منها حسب مناهج البحث العلمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى