الثلاثاء ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

أصوات مكسورة، وجوه معلقة

«أصوات مكسورة، وجوه معلقة»… سرد يرمم الصمت ويفضح الاغتراب

في زمنٍ باتت فيه الأصوات تذوب في ضجيج العالم، وتختنق الوجوه خلف أقنعةٍ من ابتساماتٍ بلا روح، تأتي مجموعة «أصوات مكسورة، وجوه معلقة» للكاتبة متيلدا عواد كصرخةٍ جمالية وفكرية في وجه هذا التيه الإنساني الطويل. ليست هذه النصوص مجرد قصص قصيرة، بل هي رحلة تأملية في هشاشة الكائن الإنساني، في صمته، في صراعه مع ذاكرته، ومع الزمن الذي لا يمرّ بل يعيد نفسه في دوامةٍ من الوجع.

تكتب متيلدا عواد كما لو كانت ترسم بالرماد على جدارٍ من الغياب. لغتها تنبض بحرارةٍ لا تُقال، وتتحرك ككائنٍ مائيّ بين الشعر والفلسفة، بين الواقع والحلم، بين السؤال واللاجواب. كل قصة في هذا العمل هي مرآةٌ صغيرة تتشظّى فيها صورة الإنسان المعاصر: تائه، متعب، يسكنه الفراغ رغم امتلاء العالم من حوله.

منذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أنه أمام كاتبة تؤمن بأن الأدب ليس ترفًا لغويًا، بل فعل نجاة. ففي قصة «صوت لم يخرج» مثلًا، تتجسد المأساة الإنسانية في عجز الكلمة عن الوصول، في انكسار الصوت قبل أن يُولد. الكلمة هنا ليست وسيلة تواصل بل صراع وجودي، تمامًا كما أن الصمت ليس سكونًا بل امتلاء خفي بالأسئلة. هذه الثنائية – بين الصمت والصوت – تتكرر عبر صفحات الكتاب لتصبح رمزًا جوهريًا في مشروع الكاتبة، كأنها تقول لنا إننا لا نحيا إلا حين نُصغي لما لا يُقال.

في قصص أخرى، تبرز المدن ككائناتٍ حيةٍ متعبة، تتنفس ببطء وتموت ببطء. في «مدينة أكلت ظلها» تتحول المدينة إلى استعارة عن الذات الممزقة التي تستهلك ما تبقى منها كي تستمر. هذه المدن لا تُشبه الأمكنة التي نعيش فيها، بل تلك التي نُخفيها في دواخلنا: مدن الذاكرة، مدن الطفولة، مدن الخيبة. ومع ذلك، يبقى ثمة خيط خفيّ من الأمل يمرّ بين السطور، كما لو أن الكتاب بأكمله محاولة للقول إن الجمال ما زال ممكنًا رغم كل هذا الخراب.

اللغة في هذا العمل مفعمة بالشعرية دون أن تفقد تماسها مع الواقع. فكل جملة تضيء كالبرق ثم تختفي، تاركة أثرًا في وجدان القارئ. لا تُغري الكاتبة بالزخرف اللغوي بقدر ما تمارس نوعًا من الاقتصاد الجمالي المكثف، حيث تُختصر العوالم في جملٍ قصيرة لكنها مشبعة بالإيحاء: «النهر يسير إلى الخلف»، «المدينة فقدت ظلها»، «الكلمة تكسرت قبل أن تولد»… مثل هذه العبارات تُعيد تعريف المعنى، وتدعو القارئ إلى مشاركة الخلق لا مجرد القراءة.

وراء هذا البناء اللغوي الشفيف تكمن فلسفة الاغتراب والوعي التي تسكن النصوص كلها. أبطال متيلدا عواد لا أسماء لهم، ولا أوطان، ولا ملامح محددة، لأنهم ببساطة نحن جميعًا: كل إنسان يبحث عن نفسه وسط جموعٍ لا تعرفه. من خلال هذا التجريد، تنجح الكاتبة في تحويل الخاص إلى كونيّ، والوجع الفردي إلى تجربة إنسانية شاملة. هنا تكمن قوتها: في أن تجعل القارئ يرى نفسه في المرايا التي تنكسر أمامه.

من الناحية الفنية، تتسم المجموعة بتماسك داخلي رغم تنوع النصوص. فهناك خيط سردي غير مرئي يوحّدها: إيقاع الصمت، حضور الغياب، والبحث عن المعنى في اللايقين. حتى عندما تتباين القصص في الموضوع أو الزمن، يبقى صوت الكاتبة هو البوصلة — صوتٌ يكتب من الألم لا عنه، ويحوّل التجربة إلى بصيرة.

في البعد الوجداني، لا تُخفي متيلدا عواد انحيازها للإنسان، للضعف النبيل في داخله، للحنين الذي لا يهدأ. إنها لا تُدين، بل تُحبّ رغم كل شيء. في قصة «آخر غفوة»، حين يقف الموت على تخوم الحلم، نكتشف أن النهاية ليست موتًا بل نوع من الانبعاث الهادئ، وكأنها تقول لنا إننا نموت كل يوم قليلًا لنولد من جديد في كلمة، أو في ذاكرة، أو في قصة تُكتب في الظل.

ما يميّز هذا العمل أنه لا يكتفي بأن يكون تجربة أدبية، بل يتحوّل إلى تجربة وجدانية تأملية تجعل القارئ يبطئ إيقاع قراءته ليتنفس بين الفقرة والأخرى. كل نص يفتح جرحًا صغيرًا، لكنه في الوقت نفسه يضع عليه بلسمًا من الجمال، من الحكمة، من الحنين. إنها كتابة تنقذ ما تبقّى في الإنسان من إنسانية.

من الناحية الفكرية، ينتمي هذا النص إلى أدب ما بعد الصدمة، حيث تتفكك اللغة كما تتفكك الذات. غير أن متيلدا عواد لا تغرق في العبث، بل تُعيد بناء العالم من شظاياه عبر ما يمكن تسميته بـ«الكتابة كفعل مقاومة صامت». فهي تقاوم بالمعنى، بالذاكرة، بالقدرة على تسمية الألم. والجميل في كتابتها أنها تمنح الهشاشة قيمة مقدسة، كأنها تقول: لا عيب في أن نكون مكسورين، فالكسر هو ما يجعلنا نضيء.

في هذا السياق، يمكن النظر إلى «أصوات مكسورة، وجوه معلقة» بوصفها وثيقة إنسانية شعرية ضد الصمت الجماعي الذي يعيشه العالم. فهي تُعيد الاعتبار لصوت الفرد، لوجعه، لقدرته على تحويل الألم إلى لغة. وكأن الكاتبة تخاطب القارئ بقولها: “تكلم ولو بصوتٍ مكسور، فالصمت هو الوجه الآخر للموت.”

ختامًا، لا يمكن قراءة هذا العمل إلا بوصفه مرثية للإنسان الحديث، ومحاولة لإنقاذ ما تبقّى من جماله الداخلي. إنه كتاب لا يُقرأ مرة واحدة، بل يُعاد قراءته كما يُعاد الإصغاء إلى لحنٍ قديمٍ نحبه رغم الحزن الذي يسكنه. ومع كل قراءة، يكتشف القارئ زاوية جديدة من الضوء في العتمة.

بهذا المعنى، تضع متيلدا عواد نفسها في مصافّ الكتّاب الذين لا يكتفون بكتابة الأدب، بل يصنعون منه مساحة للتأمل والشفاء.

في زمنٍ تتكاثر فيه النصوص وتختفي الأصوات، تأتي متيلدا لتقول بهدوءٍ يشبه الحكمة:

ليس المهم أن يُسمع الصوت، بل أن يكون صادقًا.

ولعل هذا ما يجعل «أصوات مكسورة، وجوه معلقة» عملاً لا يُنسى، لأنه ببساطة يكتب ما لم نجرؤ على قوله، ويُنصت لما لم نعد نسمعه في داخلنا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى