الاثنين ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم ميادة مهنا سليمان

استطلاع رأي عن أدب السّجون

أدب السّجون هو نوع أدبيّ موضوعه الاضطهاد، والقمع، والحرّيَّات المسلوبة، وفيه وصف للسّجناء، والسّجون، وعذاباتها.
من أدب السّجون الكتب التَّالية:

العصفور الأحدب/ محمّد الماغوط

شرف/ إبراهيم صُنع الله

شرق المتوسّط/ عبد الرّحمن منيف

طيور العتمة/ ماجد سليمان

تلك العتمة الباهرة/ الطّاهر بن جلّون

تجربتي في سجن النّساء/ نوال السّعداوي.

القوقعة/ مصطفى خليفة.

ديوان العرب تستضيف عدّة أدباء، لتعرف آراءهم فيما يلي:

هل ترى هذا الأدب استطاع إيصال صوت الأسير، ومعاناته بالكلمات؟

حتَّامَ تستمرّ مقاومة الكلمة أمام تعذيب السّجَّان؟

- هل ما يُكتب بعد خروج السَّجين، لا يصحّ أن نسميه "أدبَ سجون"، بل "أدبًا عن السّجون" كما يرى النُّقَّاد؟

نبدأ بأوَّل رأيٍ، من أسيرٍ ذاقَ طعمَ مرارةِ الظّلم، وحلمَ بنور الشَّمسِ كثيرًا، ثمَّ حوَّلَ حُلمهُ إلى عزيمةٍ، وإصرارٍ، ومقاومةٍ رغم استشهاد ابنه، نبدأ مع الأسير الفلسطينيّ المُحرَّر المحامي محمَّد عليَّان، يقول:

معروفٌ في الحركة الأدبية الفلسطينية أن أدب السجون يتمثل بالأعمال الأدبية الإبداعية بمختلف أصنافها (رواية، قصة قصيرة، قصائد نثرية، قصائد منظومة، نصوص وغيرها) التي كتبها الأسرى، سواء أكانوا داخل الأسر أم خارجه. وتشكل أعمال الأسرى ثروة أدبية ثقافية ونضالية للمكتبة الفلسطينية، التي تزينت بأعمال الكتّاب الفلسطينيين الأسرى، والتي تزداد غزارةً يومًا بعد يوم، نوعًا وكمًا.

ويتميز "أدب السجون" في الحركة الأدبية الفلسطينية، بكونه الشهادة الأكبر والأقوى على ما يجري في ظلام السجون من قمع وتنكيل وتعذيب وتجويع وامتهان للكرامة، وانتهاك لكل الحقوق التي كفلتها الشرائع السماوية والوضعية. وهو وثيقة هامة لكل ما يجري في أروقة التحقيق والأساليب البشعة المستخدمة لنزع الاعترافات وإدانة المعتقلين (وليد الهودلي في "الغرفة الزهراء" و"ستائر العتمة").

ويُعد أدب السجون فعلًا مقاومًا بالغ الأهمية في صقل الوعي الفلسطيني ومواجهة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة، في الأسر وخارجه (حسام شاهين في "زغروتة في فنجان" و"رسائل إلى قمر"). وهو أيضًا يبرز معاناة آلاف العائلات الفلسطينية التي تحاول زيارة الابن أو الزوج الأسير في رحلة تحمل معها العذاب والوجع والتنكيل، ويظهر العلاقة الوشيجة بين الأسرى خلف القضبان والمجتمع الفلسطيني (الشهيد الأسير وليد دقة في "حكاية سر الزيت"، وعادل سالم في "عناق الأصابع").

ولا يجب أن نغفل اهتمام أدب السجون بـ "أنسنة" الأسير، ووصفه باعتباره إنسانًا لديه مشاعر: يحب ويكره، يضحك ويبكي، يغضب ويفرح، قد يقوى على مواجهة ظلمة الأسر وقد يضعف (المتوكل طه في "الأبواب المنسية").

وهذا الإنسان له أحلام صغيرة وكبيرة، وشغف بحياة حرة كريمة (محمد عليان في "ساعات ما بعد الفجر")، وله سيرة ذاتية ثرية بالمواقف البطولية والتجارب المضيئة (عائشة عودة في "أحلام بالحرية" و "ثمنا للشمس").
كما يشكّل أدب السجون مساحة واسعة للبوح والكشف عن مكنونات النفس، وقول ما لم يستطع الأسير قوله في الواقع (ناصر أبو سرور في رائعته "حكاية جدار").

وربما لا يتسع المقام للإشارة إلى أعمال أدبية رائعة ومتميزة لكتّاب مبدعين ساهموا وما زالوا يساهمون في الفعل الفلسطيني المقاوم وصقل الوعي، رغم حلكة السجن واشتداد القيد على المعصمين.

وخلاصة القول: إن أدب السجون كان وما زال جزءًا أصيلًا من الفعل الفلسطيني المقاوم، وأداة من أدوات الصمود وشحذ الإرادة، ونافذة ضوء في عتمة السجن الحالكة.

وهذه قائمة نماذج مُختارة من كتاب أدب السجون:

الأسير باسم خندقجي: قناع بلون السماء، مسك الكفاية، نرجس العزلة.

الأسير ناصر أبو سرور: حكاية جدار.

الأسير المحرر سائد سلامة: رواية العاصي، للحلم بقية (مجموعة قصصية)، عطر الإرادة (مجموعة قصصية).

الأسير المحرر عصمت منصور: رواية الخزنة، رواية سجن السجن.

الأسير المحرر نافذ الرفاعي: قيثارة الرمل.

الأسير المحرر المرحوم عزت الغزاوي: رسائل لم تصل بعد.

الأسير المحرر وليد الهودلي: مدفن الأحياء، ستائر العتمة، وغيرها.

الأسير المحرر محمد عليان: ساعات ما قبل الفجر، عزيزتي البيضة (رواية قيد النشر).

الأسير رائد الشافعي: رواية معبد الغريب.

الأسيرة المحررة عائشة عودة: أحلام بالحرية، يوم مختلف، ثمنًا للشمس.

الأسير المفكر الشهيد وليد دقة: حكاية سر الزيت (رواية للفتيان)، صهر الوعي، حكاية سر السيف.

الأسير المحرر حسام شاهين :رواية زغروتة في فنجان / رسائل الى قمر

هذه نماذج فقط من عشرات الكتّاب الفلسطينيين الذين ذاقوا مرارة ووجع الأسر، ووثّقوا تجاربهم بأعمال أدبية متنوعة (رواية، شعر، قصة، نصوص). وما زال الكتّاب الأسرى يتحفون المكتبة الوطنية بأعمال مبدعة ومميزة.

*شارَكَتْنا الرَّأيَ النَّاقدة سُهيلة حمَّاد من تونس، وقالتْ:

أدب السجون: شهادة حية على الظلم والقمع

أدب السجون هو صرخة ألم تستعطف الرأي العام، وهو أدب مقاومة مستمرة يصدح من داخل المعتقلات. يمكن أن يكون على شكل شهادات حية، مثل "تجربتي في سجن النساء" لنوال السعداوي، أو سرد تخييلي، مثل "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف.

أدب السجون هو رسالة ثورية صارخة مضمخة بالألم. يمكن أن يبث الرعب في قلوب الظالمين أو يثني العزائم جراء التخويف من هتك الأعراض.

والنقاد يميزون بين أدب السجون وأدب عن السجون، حيث أن أدب السجون يُكتب أثناء التجربة أو بعدها مباشرة.
والفترة القادمة ستكون فترة ازدهار لأدب السجون نتيجة الحروب واعتقال المفكرين والكتاب. استخدام مصطلحات مثل "شهادات من السجون" أو "قصص من المعتقلات" قد يكون أكثر فعالية في إيصال المعاناة والظلم.

أدب السجون دلالة من دلالات القمع السياسي في الوطن العربي مثلما ألأدب المقاوم الذي كتب في مواجهة الاستعمار الأجنبي مثلما أدب المرأة هذا الثالوث صار من سمات الأدب العربي فيما عدا ذلك فهو مازال يتشكل في خارطة العالم باحثا عن الهوية وكان مثله مثل واقعنا الاقتصادي يعتمد على الأخر والدليل على ذلك أن كل المدارس الأدبية لم تكن نتاجا عربيا بل استوردناها من الخارج فمن الكلاسيكية إلى الرمزية إلى الرومانسية إلى الواقعية الاشتراكية إلى السوريالية كلها مدارس حاولنا أن نؤصل لها من تراثنا فقد سبقنا غيرنا إليها وهي من صميم مخيالنا لكننا لم نطورها ونكتشفها لأننا لم نكتشف أنفسنا في أي مجال من المجالات فأدب السجون نتاج يكاد أن يكون عربيا بامتياز أو لنقل في العالم الثالث عموما وهو أدب من سماته أن ينكفئَ الكاتب على ذاته ليعيد قراءتها من جديد فتطل الذاكرة مرجعية للزمان والمكان والحدث والشخصيات مبلورا الماضي بقراءة الراهن فهو أدب من سماته الصدق والعمق وأعتقد ن تجربة السجن تجربة تظل تطل بانعكاساتها على العمل الأدبي بعد مرحلة السجن لأنها تجربة ثرية ومؤثرة في وجدان الكاتب الذي استطاع تجسيد أبعاد الأسر وأثره في الأسيرما يعد قراءة أعمق للواقع العربي لأنها تجربة عاشها الكاتب وأصبحت جزءا فاعلا في تجربته ويظل الكاتب الصادق رهين المحبسين السجن الصغير والسجن الكبير ولأن الكلمة الصادقة ديدنه ورسالته في الحياة يظل في صدام دائم مع السلطة.

*أمَّا الكاتب السّوريّ نضال الخليل، فقال:

أدب السجون ليس مجرد سرد لتفاصيل القيد والمعاناة بل هو فعل شخصي ونقدي يعيد تأسيس الإنسان أمام آلة الإلغاء والسلطة القمعية

عندما قرأت بعض هذه النصوص شعرت بأن الكلمة نفسها تحمل صدى الصمت الطويل للسجن وتعكس صرخات لم تُسمع إلا على الورق.

السؤال عن قدرة الكتابة على إيصال رسالة الأسير يحتاج إلى تفكيك معنى "الوصول":

هل المراد تأثير سياسي مباشر أم شهادة أخلاقية تحفظ الوجود المضطهد؟

في بعده الأخلاقي الكلمة صادقة إذا استندت إلى الذاكرة والالتزام فهي تعيد الاسم وتكشف النسيان وتحوّل الألم إلى مطالبة بالمساءلة

مقاومة الكلمة مستمرة بطبيعتها حتى بعد التحرر تظل الكتابة شكلًا من أشكال المقاومة الثقافية تمد القضية عبر الأجيال وتذكّر العالم بأن الظلم لا يُمحى إلا بالكلمة الصادقة

التفريق بين "أدب السجون" و"أدب عن السجون" مهم تحليليًا لكنه ثانوي أخلاقيًا الجوهر يكمن في صدق الشهادة ومسؤولية الكاتب تجاه الحقيقة.

كل نص يكتب من الداخل أو عن السجن يظل مساحة لمقاومة النسيان واحتضان العدالة وتأكيدًا على أن الكلمة مهما قيدها السجان قادرة على البقاء صوتًا للإنسانية.

*سألنا الكاتبة الأردنيَّة الدُّكتورة سناء شعلان، فقالت:.

أعتقد أنّه ليس في الإمكان نقل معاناة الأسرى والمعتقلين والمسجونين بشكل أفضل وأصدق ممّا يكتبه الأسرى/ المعتقلين/ المسجونين ذاتهم عن هذه التّجربة البغيضة القاسية؛ لأنّ ما يكتبونه عن ذلك يستطيع أن يصف تفاصيل هذه التّجربة المؤلمة بدّقة يعجز أيّ طرف آخر عن نقلها بهذا الرّصد المنشود مهما بلغ من اطّلاع على هذه التّجربة من خارجها.

كما هي ترصد جوّانيّات الأسير ذاته التي لا يمكن لأيّ تغطية إعلاميّة أو توثيق تاريخيّ أو تقرير جهة حقوقيّة أو طبيّة أن تقوم بها على أفضل وجه كما يقوم بها الأسير ذاته؛ إذ إنّ هذه التّجربة هي معاناة داخليّة وخارجيّة للأسير، وهي تحمل وجوهاً كثيرة للوجع والاستلاب والقسوة، ولا يمكن رصدها لحظة بلحظة كما يقوم الأسير ذاته بذلك.

لا شكّ أنّ قدر الكلمة أن تستمرّ في رصد عذابات الأسر ما دام الكثير من البشر يمارسون هذا القهر على غيرهم من البشر، وما دامت المعتقلات تبتلع الأسرى الذين يدفعون أعمارهم وعذاباتهم ومعاناتهم نظير مطالبتهم بحقوقهم أيّاً كان نوعها.

لن تموت الكلمة الصّارخة بوجع الأسرى ما دام هناك ذواتاً إنسانيّاً تقبع خلف القضبان، وتحمل الحرّيّة في صدورها، وتشرئب عيونها إلى الحرّيّة والنّور والانطلاق خارج أسوار المعتقلات وبعيداً عن بشاعة السّجانين والمعتقلين.

هل ما يُكتب بعد خروج الأسير، أو المعتقَل لا يصحّ أن نسمّيه (أدبَ سجون) بل (أدبًا عن السّجون) كما يرى النّقّاد؟

أدب السّجون هو أدب التّجربة لا أدب المكان والزّمان الخاصّ بتجربة السّجن/ المعتقل، أيّ لا تنقضي التّجربة عند الخروج من السّجن/ المعتقل؛ لذلك الكتابة عنه من جهة الأسير أو المعتقل أو المسجون تنسحب على هذا النّوع من الأدب أكان قد قام بذلك داخل السّجن أم خارجه؛ إذ العبرة في الموضوع وفي توثيقه، وهو أمر ليس غريباً؛ إذ أدب السّيرة –على سبيل المثال لا الحصر- يُعدّ من هذا الجنس، وهو لم يكتب في زمنه، وأدب الرّحلات قد يسجّل بعد انتهاء الرّحلة كاملة لا أثنائها، وإن كان يصّح ذلك، حتى أدب اليوميّات والمذّكرات قد قام به البعض بعض انتهائه زمانيّاً ومكانيّاً، إلّا أنّه عُدّ في هذا الجنس؛ لأنّه التزم بأدبيّاته التّجنيسيّة، وهذا هو المهم.

بناء على ذلك أدب السّجون هو كلّ أدب كتبه المبدع/ الأسير/ المسجون أكاد قد كتبه داخل السّجن أم خارجه، بغضّ النّظر عن وقت المزامنة لذلك، أمّا الكتابة عن أدب السّجون فهي الكتابة الغيريّة عنه من الرّاصدين له أو النّقّاد أو الإعلاميين والحقوقيين وغيرهم من المهتميّن بالأمر، وليستْ كتابة المبدع/ الأسير ذاته عن ذلك، وهذا أمر يجب التّميز بين طرفيه؛ إذ هي قضيّة مصطلحيّة بحت.

أمَّا الكاتب الليبيّ سالم عليّ العبّار، فيقول:

أدب السجون دلالة من دلالات القمع السياسي في الوطن العربي مثلما ألأدب المقاوم الذي كتب في مواجهة الاستعمار الأجنبي مثلما أدب المرأة هذا الثالوث صار من سمات الأدب العربي فيما عدا ذلك فهو مازال يتشكل في خارطة العالم باحثا عن الهوية وكان مثله مثل واقعنا الاقتصادي يعتمد على الأخر والدليل على ذلك أن كل المدارس الأدبية لم تكن نتاجا عربيا بل استوردناها نت الخارج فمن الكلاسيكية إلى الرمزية إلى الرومانسية إلى الواقعية الاشتراكية إلى السوريالية كلها مدارس حاولنا أن نؤصل لها من تراثنا فقد سبقنا غيرنا إليها وهي من صميم مخيالنا لكننا لم نطورها ونكتشفها لأننا لم نكتشف أنفسنا في أي مجال من المجالات فأدب السجون نتاج يكاد أن يكون عربيا بامتياز أو لنقل في العالم الثالث عموما وهو أدب من سماته أن ينكفيء الكاتب على ذاته ليعيد قراءتها من جديد فتطل الذاكرة مرجعية للزمان والمكان والحدث والشخصيات مبلورا الماضي بقراءة الراهن فهو أدب من سماته الصدق والعمق وأعتقد ن تجربة السجن تجربة تظل تطل بانعكاساتها على العمل الأدبي بعد مرحلة السجن لأنها تجربة ثرية ومؤثرة في وجدان الكاتب الذي استطاع تجسيد أبعاد الأسر وأثره في الأسيرما يعد قراءة أعمق للواقع العربي لأنها تجربة عاشها الكاتب وأصبحت جزءا فاعلا في تجربته ويظل الكاتب الصادق رهين المحبسين السجن الصغير والسجن الكبير ولأن الكلمة الصادقة ديدنه ورسالته في الحياة يظل في صدام دائم مع السلطة.

*ومن اليمن سألنا الكاتب خالد برَّة، فقال:

هوَ ليس جنسًا أدبيًا بقدر ما هو طقس احتراق داخلي

حيث تتحوّل القيود إلى لغة، والعزلة إلى مرآةٍ للذات إنه الأدبُ الذي يُكتَب بالحبر والندم وتُعاد قراءته بالدموع والصمت الطويل

هو شهادةُ من عبروا الجحيم بأجسادهم وتركوا أرواحهم معلّقة في هوامش النص من "القوقعة" لمصطفى خليفة
إلى "شرق المتوسّط" لعبد الرحمن منيف

و"تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلّون
كلّ كتابٍ هو زنزانةٌ مفتوحة بحروف لا تموت

أدبُ السجونِ في جوهرِه صرخةٌ مكتومةٌ تحفرُ في جدارِ الزمن لا لتشتكي بلْ لتُخلِّد.

نعم، لقد استطاعَ هذا الأدبُ أن ينقلَ معاناةَ الأسيرِ لا كألمٍ جسديٍّ فحسب، بلْ كأزمةٍ وجوديّة يُسجنُ فيها الجسدُ، ويُختبرُ العقلُ، وتُنتزعُ الكرامةُ، ويبقى الوعيُ مشعلًا يتوهّجُ في زنزانةٍ معتمة.

مقاومةُ الكلمةِ أمام السجّانِ ليستْ مقاومةً متكافئة بلْ مقاومةٌ وجوديّة. السجّانُ يُعوِّلُ على الوقت على الانكسارِ البطيءِ، أما الكلمةُ فتُراهنُ على الذاكرة، على التاريخ، على الإنسانِ حينَ يستردُّ صوتَه الكلمةُ لا تنتصرُ في اللحظة، لكنها تبقى. يزولُ السجّانُ، وتفنى القضبان، لكن الكلماتِ تظلُّ شاهدةً لا تموت.

أما ما يُكتبُ بعدَ الخروجِ، فهو امتدادُ الجرحِ، صوتُ الرماد، وذاكرةُ الحديدِ البارد، من يدخلُ الجحيمَ لا يُدوِّنُ ملاحظاته هناك، بل حين يخرج حاملًا لعنته، ورماده في الكلمات

الأدبُ ليس في المكان، بل في الأثر، وأدبُ السجونِ ليس اعتقالًا للنص، بل تحريرًا لما جرى خلفَ القضبان
فلا فارقَ في جوهرِ المعاناة بين أن يُكتبَ داخل الزنزانة،
أو بعدها. المهمّ: أن يُكتَب.

*يقول الكاتب المغربيّ إلياس الخطَّابي:

أدب السجون.. مقاومة بالكلمة

لا شك أن الأدب العربي الذي يتخذ السجن موضوعا له، هو أدب فريد من نوعه، إذ يحمل في طياته أعمق معاني الألم الإنساني، ويصور أقصى درجات المعاناة التي يمكن أن يعيشها الإنسان الأخير- الذي يعيش في سردية منهكة، بتعبير التونسي فتحي المسكيني- المجرد من حريته، المعلق بين الحياة والموت، بين الأمل واليأس.

أعتقد أن أدب السجون نجح، إلى حد بعيد، في إيصال صوت الأسير ومعاناته إلى القارئ وإلى صناع القرار والسياسيين وللعالم، لا بالكلمات فحسب، بل بالحمولة الوجدانية والفكرية التي يزرعها في النص. في كل عمل من أعمال هذا الأدب، خاصة في رواية القوقعة للكاتب مصطفى خليفة، نجد نبضا إنسانيا يصرخ في وجه القمع والتعذيب، ونجد استعادة للكرامة وسط محاولات إذلالها. إذن الأدب هنا يتحول إلى مقاومة صامتة، ونافذة على الحرية، حيث الكلمة تقاوم العزلة والجدران السميكة، وتحول الألم إلى شهادة حية، ولم يكذب الكاتب المغربي محمد. شكري، حينما قال أن الكتابة هي مسيرة احتجاج. وكل كاتب لأدب السجون، هو يحتج، على ما وقع، وعلى ما يقع.

-أما حتّام تستمر مقاومة الكلمة؟

فأرى في اعتقادي أن الكلمة تقاوم ما دام الإنسان قادرا على الحلم والكتابة. قد تنكسر العظام، وقد تنطفئ الأجساد في الزنازين وتتلاشى، كما تلاشت في سجن تزممارت، الذي يحكي عنه الكاتب المغربي أحمد مرزوقي في سيرته تزممارت زنزانة 10. الكلمة تظل عنيدة، تهرب نفسها بين القضبان، وتخرج إلى العالم لتنتفض، ولتقول لكل المستبدين:

 نحن باقون رغم كل الفظاعة، وللحلم، ولمواصلة الحياة بقية، رغم أنفكم وتعذيبكم.

فالمقاومة بالكلمة لا تقاس بعمر السجان أو مدة الاعتقال، بل بقدرتها على البقاء شاهدة على الجريمة، ومنارة للحرية للأجيال القادمة.

وبالنسبة لما يكتب بعد خروج الأسير، أرى أنه لا يفقد صفة "أدب السجون"، بل يكتسب أبعادا جديدة حيث السجين يكتب عن التجربة ما بعد عيشها؛ فهو ليس مجرد "أدب عن السجون" بالمعنى الخارجي، بل شهادة استرجاعية توثق ذاكرة المعتقل وتجعلها قابلة للنقل والتحليل، وفي هذا الصدد، أذكر مثلا، الكاتب عبد الله منشوري، الذي عنون سيرته الذاتية، ب وعشتها مرتين، حيث يقول أنه عاش حياته مرة أولى، وعاشها للمرة الثانية حينما كتبها. إن الكتابة بعد التحرر ليست أقل قيمة، بل هي أكثر وعيا ونضجا، إذ تمنح القارئ فرصة لفهم التجربة بشكل أعمق في سياقها الكامل، بما فيها آثارها النفسية والاجتماعية على المدى البعيد.أخيرا:

يبقى أدب السجون أدب مقاومة بامتياز، يكشف الوجه الإنساني للسجين، ويعيد الاعتبار للكلمة بوصفها سلاحا في وجه الطغيان. وما دام هناك من يكتب، فستظل رسالة الأسير حية، تتردد أصداؤها في وجدان القراء، لتذكرهم أن الحرية حق لا يموت، وأن الحق ينزع من المستبدين كرها، وأن الديمقراطية لا يصنعها السجن، بل يصنعها ذلك الذي يسمى، بالعيش المشترك، أن نعيش معا، رغم اختلافات الحاكم والمحكوم.

*وتقول الكاتبة السُّوريّة مرشدة جاويش:

أرى أنَّ أدب السجون أكثر من كونه مجرد توثيق لمعاناة الأسيرز

أراه ساحة مقاومة للكلمة أمام بطش السجان، وصوت يعلن عن إنسانية مسلوبة، فيحول الألم إلى نص نابض بالحياة، والفكر.

فكتبٌ مثل(العصفور الأحدب)، وشرف، والقوقعة، ليست مجرد سرد لعذابات السجن.

بل محاولة لتسجيد الصمود النفسي، والكرامة المسلوبة، وتحويل الظلم إلى مادة أدبية حية تفضح القمع.
إن استمرار كتابة الأسير في زنزانته، أو بعد خروجه يثبت أن الكلمة مقاومة دائمة وأن الحرف يمكن أن يكون أقوى من الحديد.

أما مسألة تصنيف ما يكتب بعد الخروج، فليست سوى جدلية لفظية؛ فالنص الذي ينبع من تجربة الاعتقال سواء كان في اللحظة نفسها أو بعدها يظل أدب سجون لأنه يحمل توقيع المعاناة والحرية المقهورة، ويظل شاهدا على القمع وناطقا باسم أولئك الذين لم يسمع صوتهم بعد.

أخيرًا يقول الإعلاميّ، والكاتب العراقيّ عمران العبيديّ:

الأدب بشكل عام هو جزء مهم من وثائق التاريخ

فالعديد من الكتابات الأدبية بمختلف أجناسها رواية - قصة- شعر وغيرها تساهم في التوثيق وإن كانت تمزج بين الواقع والخيال،لكنها في النهاية جزء من قراءة التاريخ لأية مرحلة ومن هذا المنطلق فأنه أدب السجون هو جزء من هذا الحراك ويعطينا صورة مهمةمن صور الاضهاد التي يتعرض لها السجين.

وهذا النوع من الأدب سواء كتب داخل السجن أو خارجه أو من خلال إطلاع الكاتب على تفاصيل حياة السجين، فهو يعد من أدب السجون لأنه في النهاية يرسم صورة واضحة عن المعاناة داخل القضبان وكذلك الأساليب والممارسات.
الأدب بشكله العام مؤثر إن استطاع أن يكون قريبا من الناس، وأدب السجون له تأثيره بهذا الجانب، ويشكل حافزا للمقاومة من خلال سرد قصص عن بطولات استطاعوا المقاومة

وهذا ما يمكن للرواية أن تنقله لتظهر وحشية السلطات كما في (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف.

وكذلك أدب المذكرات فتلك تتحلى بالواقعية، وتجربة ذاتية في كون تأثيرها أعمق وأشد.

من هنا نكتشف أهمية هذا النوع من الأدب كونه يكشف المسكوت عنه وراء القضبان، ويفضح السلطات الغاشمة ليشكل دعامة مهمة لجانب التحفيز ولجانب إسناد التاريخ بالحقائق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى