استوديو بيروت
يمكن اعتبار رواية «استديو بيروت» فيلما سينمائيا مرويا بواسطة كاميرا تحملها الراوية من خلال تقنيات لغوية كان فيها ضمير المتكلم هو المسيطر على مجريات العمل الروائي وكأنه يجلس على كرسي المخرج يوزع الأدوار ويتحكم في ابطال الرواية وأدوات العمل من الوان وإضاءة وزمان ومكان ولعله من الواضح مافي العنوان من دلالة تنم عن مهنة البطلة والتي تعمل كمخرجة للأفلام السينمائية الوثائقية والتي توثق من خلالها صورا من حياة الناس في بيروت على أساس أن بيروت هي استديو كبير وهي تقف على باب هذا الأستديوا لتمارس مهنتها المحببة لها.
رغم أن الراوي أو المخرج يحمل كاميرته مسلطا الضوء على كل زوايا العمل وأحداثه إلا أنه متورط في تلك الأحداث ومشارك فيها، بل هو أكثر من ذلك حين تكون الرواية أو الفيلم الذي تصنعه هو انعكاس لحياتها كون الطابع الروائي هنا هو ضمير المتكلم أو الراوي الناطق من داخل النص وبلسان كل شخوصه مما يصبغ عليه صفة المصداقية والواقعية ويجعله أكثر قبولا لدى المتلقي، وهو بالتالي يتقاسم البطولة مع بقية الشخصيات أو لعله البطل الوحيد فيها منعكسا في كل مرة على وجة من وجوه هذه الشخصيات.
يبدأ الحدث ( السينماروائي) بمشهد سينمائي استدعت فيه البطلة الماضي البعيد المتمثل في صوت والدتها وطفولتها وحنين تبعثه الروائح القادمة من الذاكرة على شكل مشاهد مقصوصة ترغب في اكمالها وهو تأكيد من الراوية (البطلة) على أنها من خلال هذا الاستديوا الكبير (والذي يرمز إلى مدينتها العتيقة بيروت بكل متناقضاتها) تقف أمام شاشة سينمائية كبيرة وتتحكم هي بترتيب مشاهدتها وأقتصاص ما تشاء أو أعادة مشاهد مقصوصة ( ثمة شئ يشدني إلى العودة . حلم بعيد ورائحة دافئة وتوق إلى إحساس مالم أعرف وصفه، إحساس ينبع بين الحنين والرغبة في مواجهة المشاهد المقصوصة من أجل اكتمالها.....) .
ويمكننا من خلال مشهد سينمائي قصير استهلت به الكاتبة روايتها تؤكد هيمنة اللغة السينمائية فيه والتي لا تغفل أدق التفاصيل واضعة القارئ أمام الشاشة السينمائية اللغوية ليشاهد النص المكتوب عملاً حيا نابضا بالحياة (في لحظة سريعة جدا وقع الكتاب الأسود من يدي، سمعت دوي سقوطه، واندفعت نحوه بعدما أعدته إلي . لمحت وجها تستنكر قسوته حماقتي المزعجة . وحين مشيت نحو الضوء باتجاه المصعد شممت عطرا سكريا ....) وهذا المقطع الأول للرواية يمكن أن نعتبره إجادة استهلالية لبدء العرض السينماء روائي من خلال الوصف السريع والمتلاحق لبطلتها وهي تنطلق بكاميرتها نحو عوالم سردية كي تلتقطها وتقدمها كمشاهد سينمائية متصلة ببعضها ومفسرة لبعضها البعض وهي ( أي المشاهد) مرتبطة ببعضها من خلال صفتها بأنها حياة داخلية للبطلة كموضوع رئيس ارتبطت بالحياة الخارجية لبقية شخوص العمل سواء اولئك الغائبين بالموت أو الرحيل أو الحاضرين الأحياء الذين التقت بهم بعد عودتها وزوجها ربيع من مونتريال وربيع هو أحد الرجلين الوحيدين في هذا العمل حيث نتعرف على عماد لاحقا من خلال تعرفها بهيام احدى السيدات التي كان لها دور البطل الثاني بعد المخرجة .
من المؤكد أن القارئ سيلحط سيطرة العنصر النسائي بفئاته العمرية المختلفة في الرواية وكثرته مقابل العنصر الرجالي والمكون من ربيع وعماد . إذ أن الكاتبة ارادت أن تقدم بيروت الوطن والمكان والأرض من خلال اولئك النسوة ( ريما , هيام , أخت هيام والدة البطلة وبقية النسوة الأخريات. حيث تمثل ريما الوجة البيروتي الشاب والمتمرد الذي يعمد للهرب الدائم , وهيام هي الوجة الكلاسيكي الهادئ والوادع والجميل والصابر دوما على كل مصائبه ونكباته وانتظار الأمل دوما. أما اخت هيام فهي الثائرة والعنيدة والتي تريد تجريب كل شيء لأنها تعتبر الحياة تجربة تستحق العناء.
تتخذ الأحداث نهجا على وتيرة واحدة لا ارتفاع أو انخفاض فيها دون أن يُسرب ذلك الملل لنفس القارئ , وهذه الأحداث رسمت على شكل متتاليات يتداخل فيها الماضي بالحاضر في استدعاء ذكي من قبل المخرجة لتفسر حال الشخوص الحاضر بوصف لما جرى في الماضي . إن أكثر ما يميز هذه الرواية هي لغتها المباشرة والبعيدة عن التسطيح أو التعقيد ولعله ذكاء من الكاتبة حين أرادت وصف حياة بيروتية لم تكن بحاجة إلى لغة وصفية بالغة التعقيد ونجحت في جذبي كقارئة حتى أخر صفحة من الرواية المتوسطة الحجم والتي بلغ عدد صفحاحتها 117 صفحة في لغة سهلة مباشرة وأنيقة.