التربية الفنية وتفجير الفعل الإبداعي..
(أنا واثق من أن الطفولة تصنع من الإنسان كاتبا، كذلك القدرة في سن مبكرة على رؤية وملاحظة كل ما يعطيه الحق في الإمساك بالقلم بعد ذلك، إن التعليم والكتب والخبرة الحياتية تربي وتصقل هذه الموهبة في المستقبل، ولكنها يجب أن تولد في الطفولة)
الكاتب الروسي
فالنتين راسبوتين
هذا الرأي يندرج ضمن جملة الآراء التي يحويها مشروع كتاب حول التنشيط الثقافي، والذي أحاول من خلاله التأسيس لمشروع تنشيط مسرحي جديد لفائدة الأطفال والشباب
ما التربية؟
سيظل هذا السؤال مطروحا على ذوي الاختصاص بالرغم من كل الأطروحات والأفكار والرؤى التربية، والعلمية، والفلسفية التي سعت وتسعى بحثا عن الإجابة عليه، لكنني سأقتصر في هذه المقالة على الجانب التربوي الفني الذي يهمني، واعتقد أنه يمكنني المساهمة في إثراء هذا الفضاء الضيّق من الفضاءات المتنوعة لعالم التربية، وخبرتي المتواضعة في ممارسة الفعل الفني من كتابة مسرحية وسينمائية وأدبية، فضلا على الفعل التطبيقي الميداني في مجالي السينما والمسرح، مما يؤهلني للخوض في فضاء التربية الفنية..
معلوم أن المجال الاستثماري للعملية التربوية يصب جملة وتفصيلا في الاستثمار البشري، بمعنى السعي خلف تشكيل وإعداد الإنسان من كل النواحي النفسية، والبدنية والفكرية والجمالية تحقيقا لمستقبل واعد أمنا ورفاهية واستقرارا، وذلك من خلال تمكينه من مادة ثقافية واسعة وعميقة باحتوائها على تنوع التجارب الحياتية والمهارات والمعارف الإنسانية، وإعداد نفسي متوازن ومتوج بروح اجتماعية وعلمية ووطنية. وللوصول الى تجسيد مثل هذه الغاية النبيلة، يستلزم احتضان طفولة هذا الإنسان، أي التكفل به طفلا، وهذا الفضاء هو فضاء التربية بلا منازع...
والتعليم المجرد في مفهومه التقليدي البسيط المنحصر في تعليم القراءة والكتابة وتلقين الطفل بعض المعارف المحددة وقد تجاوزها الزمن أحيانا، لا يكفي لإعداد إنسان المستقبل لأن دور المدرسة لا ينحصر في نقل المعلومات للطفل، بل تنقل فضلا على ذلك، جملة من المهارات والخبرات الحياتية، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال مدرسة تتسم بالغنى النشاطي المتنوع الثقافي منه، والاجتماعي والحياتي. وهذه البيئة المتحركة والنابضة حياة وحدها الكفيلة بجعل المدرسة حياة أخرى يحياها الطفل، تفتح قبالته أفاقا مختلفة ومتنوعة تمكنه من إشباع حاجاته النفسية والوجدانية، هذا الفضاء التربوي المتحرك ثقافة وعلما وأنشطة مختلفة يشكل حافزا لا نظير له من حيث إثارة وتشويق الطفل، وبالتالي فتح شهيته على حب التعلم...
إن البيئة المدرسية الجامدة التي تفتقر الى كل العوامل المحفزة، والى الجانب المعرفي، والعاطفة المبدعة والمساعدة على الصقل المتكامل لشخصية الطفل، لا تتوفر على إمكانية إعداد الإنسان المثقف، فجملة المعارف التعليمية المتراكمة عبر سنين الدراسة لا تشكل وحدها العملية التثقيفية المراد تلقينها للطفل..الثقافة التربوية الحقة والفعلية هي التي تعمل على إعداده إعدادا متكاملا يراعي ترقيته من كل النواحي المادية والوجدانية، ففعل التربية البدنية مثلا، لا يقتصر على تعليم الممارس تمرينا معينا، بل يسهر على تهيئة وإعداد كل الجسم استعدادا للممارسة الرياضية من جهة، وخوض محك الحياة بجسم سليم من جهة أخرى. هي نفس الغاية التي تسعى الى تحقيقها التربية الفنية تعليما وتثقيفا وترقية للحس الجمالي..ولتحقيق ذلك يستوجب توظيف كل الوسائل التي يمكنها المساهمة في هذا الإنجاز، ومن بين أنجع هذه الوسائل، الوسيلة الفنية...هذا الفضاء هو فضاء التربية الفنية بلا منازع...
(إن الخبرة الفنية من حيث إبداع الأشكال والتمتع بالخيال تعد مع الخبرة العلمية، الطريقة الثانية التي يدرك بها العالم في تجدده المستمر. بالإضافة الى القدرة على التفكير الواضح، ملكة الخيال التي هي أساس الاختراع العلمي والإبداع الفني معا) هذه الفقرة جاءت في توصيات اليونسكو المرفوعة الى هيئة الأمم المتحدة- تعلم لتكون، ترجمة حنفي بن عيسى- لتؤكد للعالم بأن الخبرة العلمية وحدها لا تكفي لإدراك الركب العلمي من حيث تطوره في كل مجالات الحياة، لابد إذن من تعليم الطفل ملكة الخيال ورفع ذوقه الجمالي، ذلك ما تحققه التربية الفنية، هي الوحيدة التي تمكن الطفل من القدرة على التفكير والوصول الى فعل الاختراع العلمي والإبداعي من خلال تشجيعها للعاطفة المبدعة، بمعنى أن الطفل إذا تلقى تربية فنية، فالغاية الوحيدة من ذلك هي تفجير القابلية الفنية لديه وتنمية حسه الجمالي وقدرته الابتكارية، ولا أهمية لنجاحه أو فشله فنيا...