مايا
– (زيديني عشقا زيديني ..يا أحلى نوبات جنوني)
صوت "كاظم الساهر" ينعش أجواء الشقة.."مايا" تدندن نشوى قبالة المرآة، يداها تتحركان بأناقة تضع أخر اللمسات الفاتنة على وجهها الطفولي..
– (زيديني عشقا زيديني ..يا أحلى نوبات...)
تشعر اليوم بإحساس مريح يزرع الفرح من حولها، حتى ذلك المشهد الكابوسي، أجساد زميلاتها وقد مزقتها القنبلة أشلاء، لم يعد يثير فيها الشعور بالفزع والغثيان، يبدو كمن صار بلا معنى..
– (زيديني عشقا زيديني ..يا أحلى...)
أبعدت علبة الماكياج بعدما وضعت نفحة من أحمر الشفاه تتلاءم ولون بدلتها..عويل سيارات الإسعاف يسمع من بعيد يشوش على النغم ويلوث هذه اللحظة الحالمة، لكن "مايا" سرعان ما تنسى وتلتفت الى المرآة، اليوم كل شيء يبدو جميلا، حتى الموت يبدو جميلا..حدقت في وجهها، حررت ابتسامة نرجسية كمن تكتشف نفسها لأول مرة ( يا إلهي، ما أجملني؟!) قالتها وأعادت تلك الخصلة الطائشة عن تسريحة شعرها المجنون..
– (زيديني عشقا زيديني ...)
رفعت زجاجة عطرها الباريسي " بوازون Poison"، عطر قاتل لا أحد يستطيع مقاومة جاذبيته، رشت ثيابها، اليوم ستنجح بالتأكيد وتدخل مدرسة الشرطة، منذ رأت أشلاء زميلاتها متناثرة اختارت الالتحاق بالشرطة كي تجابه مغتصبي الحيلة وستنجح بالتأكيد..
– (زيديني عشقا...)
تفقدت الساعة، تأملت وجهها لأخر مرة واندفعت تخرج بسرعة، لم يبق من الوقت إلا قليلا وتنطلق الامتحانات..شوارع المدينة تبدو جميلة رغم تلوث السماء بنواح الثكلى واليتامى ودوي الانفجارات ومنبهات الإسعاف لا تتوقف عن زرع أنباء الموت..المدينة تبدو جميلة و"مايا" ستنجح بالتأكيد..انطلقت الى حيث محطة الباص بأخر الشارع، تخترقها أنظار الفضوليين، حتى ذلك الملتحي الذي أغرق عينيه في الكحل، لم يتمكن من غض بصره، دنا منها، مدد رقبته نحوها وهمس بشكل هستيري ( نطلع للجبل على جالك)..ابتعدت ولم تنبس بكلمة، ليست هذه المرة الأولى، هذا الشخص يضايقها دوما حتى من قبل أن يلتحي..اليوم كل شيء يبدو جميلا وستنجح بالتأكيد.. يا إلهي كم هو مخيف ذلك الكلب، لا يتوقف عن التحرك بشراسة يريد الانفلات من القبضة القوية لصاحبه، ترددت "مايا" قليلا ثم واصلت سيرها..هذا الرجل يحترف تربية الكلاب ذات السلالة الألمانية، يخرج معه كلبا في كل يوم، هي حيلة يغازل بها النساء اللواتي تتجنبن الاقتراب من الكلب وتبتعدن بحركات أنثوية خجولة لا تتوقفن عن الضحك الذي يفضح فزعهن..
– كوشي..كوشي [1]
بهذا الأمر الرادع للكلب يشرع صاحبنا في استعراض عضلاته ومهاراته الكلبية..اليوم كل شيء يبدو جميلا وستنجح "مايا" بالتأكيد..حين تأهبت للصعود الى الباص، كان بعض الشباب يتزاحمون خلفها، منهم من يحاول الاحتكاك بجسدها ولو لثوان، "مايا" اليوم فاتنة ومجرد الانتشاء بعطرها الشرس كاف بإشباع كل الرغبات المكبوتة..اختارت مكانا وجلست..هي مجرد ثوان مرت، وتهالك بجانبها شاب يمسك علبة برفق وحرص شديدين، كان مضطربا، قلقا، يبدو عليه الخجل، أخرج عودا وأنكب على مضغه بشكل هستيري.. "مايا" لن تأبه به، اليوم كل شيء يبدو جميلا وستنجح بالتأكيد.. لفت انتباهها شاب أخر يقف في رواق الحافلة، شعره يلمع من أثر مرهم "قومينا"، يضع سماعتي جهاز "ولكمان" على أذنيه ويترنم وفق إيقاع الموسيقى، يحدق في "مايا" مغازلا، كلما التفتت نحوه يفرج عن ابتسامة الإعجاب، لا تتردد في مجاملته تبادله الابتسامة، لكن الذي بجانبها يقلقها، كان كثير التحرك والخوف على علبته.. يا إلهي، ما أزعج صراخ الرضيع المنبعث من خلف الباص لعله جائع وأمه فشلت في إرضاعه نتيجة خجلها المرضي؟
كل الركاب منزعجون إلا صاحب "الولكمان" مازال يترنم مغازلا "مايا" لعله يسمع الآن، موسيقى "سنتيمونتال" للشاب "حسني"..فجأة، اندفع "أبو عود" مفزوعا ليقف..دنا منها، أبعد العود عن فمه وخنخن (امسكي العلبة، سأنزل بعد حين..ناوليني إياها من النافذة)..وأعاد العود الى شراسة أسنانه.."مايا" وقد حاصرها الخوف، مسكت العلبة، وقبل أن يغادر زمجر بامتعاض ( إني أكره رائحة عطرك)وابتعد مسرعا..الشاب صاحب "الولكمان" اغتنمها فرصة وجلس بجانبها، مازال يترنم ولإيقاع الموسيقى ويدندن (زيديني عشقا زيديني ..) لا يسمع صوت الرضيع الذي زادت حدته..انتبهت "مايا" الى خفة وزن العلبة، ساورها الشك.."أبو عود" لم يظهر بعد..تحرك الباص..لم يظهر..راحت من خلال النافذة تترقب ظهوره..ابتعد الباص..لم يظهر..امتلكها الذعر، شلت حركاتها للحظات، اندفعت فجأة، واقفة، رمت العلبة في رواق الباص وانهارت مغشيا عليها..أحد الركاب وقد أصابه الهلع، أخذ يصرخ (اهربوا..اهربوا)..توقف الباص بشكل مباغت وعنيف..عواء الفرامل ودوي الاصطدام أيقظ الشارع..عمّ الاضطراب، ازدحم الركاب كل منهم يريد النجاة بجلده..هي مجرد ثوان عبرت، وتوقفت الحياة في كل أرجاء الشارع والباص.."مايا" مستسلمة لمخالب غيبوبة متقطعة تئن أحيانا..وحده صوت الرضيع مازال ينبعث من الخلف وقد هجرته أمه في لحظة أنانية..اقتحم شرطي مختص الباص يستطلع المكان، أذهله ما رأى، جرائد، هدايا، أحذية، خضر وفواكه،خبز، أكياس وحقائب من كل الأحجام منسية هنا وهناك تناثرت محتوياتها بالرواق ، وعشرات الأشياء الأخرى تعري أسرار الناس..تحرك وسط الرواق بحذر، صوت انكسار مخنوق انبعث من تحب قدمه، التفت ليتفقد ما سحقته صلابة حذائه العسكري، بقايا جهاز "ولكمان" بجانبها علبة محطمة بقايا ساعة وبعض القطع الإلكترونية المتناثرة..اقترب من الرضيع الذي مازال يبكي، احتضنه برفق بين ذراعيه واستسلم الرضيع لصمت مريب..دنا من "مايا"، كانت تبدو كالنائمة أنعشه عبق عطرها الباريسي (يا إلهي ما أجملها) انبهر في سره..ارتعشت شفتاها، حاولت التكلم، دنا منها أكثر ليسمه همهماتها، وبصعوبة همست (س..سأن..سأنجح بالتأكيد)...