

الجسد بوصفه مرآةً للوعي الجمعي في رواية الليلة الأولى

صدرت رواية "الليلة الأولى" للأديب المقدسي جميل السلحوت عن مكتبة كل شيء في حيفا. وقد صمّم غلافها ومنتجها وأخرجها شربل الياس.
ترجمتها إلى الفرنسية الكاتبة المغربيّة فاطمة أكوراي، وصدرت عام 2023 عن دار فكرة كوم للنّشر والتّوزيع في الجزائر.
وترجمها إلى الانجليزيّة البوفيسور جمال أسدي، وستصدر قريبا عن إحدى دور النّشر.
مدخل: بين التنوير والسرد
في عالمٍ يهرب من مواجهة ذاته، يطلّ علينا الأديب جميل السلحوت بروايته «الليلة الأولى» كمن يضع المرآة أمام مجتمعٍ يقدّس الصمت ويعبد المظاهر. إنّها رواية الصدمة، رواية الحقيقة التي تنزف ببطء، حيث يتحوّل الجسد إلى ساحة معركة بين الخرافة والعقل، بين الفطرة والقيد، بين الإنسان وما ورثه من عادات تكلّست حتى صارت دينًا بديلًا.
يكتب السلحوت من داخل المجتمع الفلسطيني، لا ليحاكمه، بل ليحرّره من نفسه. فهو لا يهاجم التراث، بل يكشف عن العفن المتراكم في زوايا الوعي الجمعي حين يُختزل الشرف في غشاء، والحب في واجب، والأنوثة في عار.
الرواية: من ليلة العرس إلى مأساة الوعي
تبدأ الليلة الأولى من لحظة فرحٍ متوقّعة: زفاف موسى وليلى. غير أنّ الكاتب ينسف هذا الفرح في أول الصفحات؛ فبدلًا من طقوس الحب، نجد القلق، والخوف، والتوجّس، وكأنّ النص يعلن منذ البداية أنّ هذه “الليلة الأولى” ستكون أيضًا “الليلة الأخيرة” في براءة الشخصيات.
يفشل موسى في أداء “المهمّة” التي ينتظرها الجميع، فتبدأ سلسلة من التفسيرات الغيبية، والسحر، والعيب، والعار. وهكذا، يُختزل
الزواج في امتحان للرجولة، وتُختزل المرأة في شاهد على فحولة الرجل. من هذه المفارقة البسيطة ينسج السلحوت مأساة اجتماعية كاملة، تكشف كيف يمكن لليلة واحدة أن تفضح قرونًا من الكبت والخرافة.
البنية السردية: واقعية تتجاوز الواقعية
يكتب الشيخ السلحوت بلغةٍ تنبع من قلب الحياة الشعبية. الحوار بين الأمهات، الهمسات، الشتائم، وحتى الدعاء، كلّها تشكّل نسيجًا لغويًا حيًا يذكّرنا بأننا أمام سردٍ “مسموع” أكثر منه “مقروء”.
لكن تحت هذه البساطة الظاهرة، تكمن بنية سردية معقّدة. فالكاتب لا يكتفي بتوثيق ما يحدث؛ بل ينسج شبكة من الرموز:
• ليلى ليست امرأةً بعينها، بل رمز للأنثى المقهورة التي تُحمَّل خطايا الرجال.
• موسى ليس عريسًا خجولا فحسب، بل هو ابن النظام الأبوي الذي ربّاه على الخوف من جسده.
• أمّ موسى وأمّ ليلى تجسيدان للسلطة الاجتماعية الأنثوية التي تُعيد إنتاج القمع بوعيٍ أو دونه.
• ومبروكة الفتّاحة هي الرمز المكثّف للدين الشعبي، حيث يُستبدل الإيمان بالجهل، والروحانية بالسحر.
هكذا تتحول الرواية إلى مسرحٍ اجتماعيّ متكامل، كل شخصية فيه تمثل زاوية من المأساة الكبرى: مأساة الإنسان العربي حين يُربّى على الخوف من الحياة نفسها.
اللغة والرمز: بلاغة الصمت
لغة جميل السلحوت لا تتوسّل الزخرفة، بل تشتغل على الاقتصاد التعبيري والدقّة الشعورية. الجمل قصيرة، مكثّفة، لكنها مشحونة بطاقة درامية عالية. خلف كل كلمة جرح، وخلف كل صمت سؤال.
في أحد المقاطع، تُختصر المأساة في صمت العروس أمام سؤال أمّها "كيف كانت ليلتك؟" ذلك الصمت الذي يقول أكثر من ألف كلمة. هنا، تتحول اللغة إلى مساحةٍ للمسكوت عنه، إلى جغرافيا للعار والخوف.
الكاتب يعرف أنّ أخطر ما في المجتمع ليس ما يُقال، بل ما يُمنع قوله، ومن هنا تأتي بلاغة الرواية: إنّها تصرخ بالصمت، وتعرّي القبح بلغة الحياء.
التحليل النفسي للشخصيات
الرواية، في عمقها، دراسة نفسية دقيقة في آليات الخوف والوصاية.
• موسى ضحية تربيةٍ تربط الذكورة بالأداء الجسدي. ففشله الجنسي ليس ضعفا في الجسد، بل انهيارا في المفهوم الثقافي للرجولة.
• ليلى ضحية النظام نفسه، الذي يحمّلها عبء “العار” رغم كونها البريئة الوحيدة. جسدها يتحول إلى مسرح لامتحان شرف الآخرين.
• الأمهات يمثّلن الذاكرة القمعية التي لا تعرف الرحمة؛ فهنّ مرآة لجيل تربّى على الخوف من رغباته.
• مبروكة تمثّل التحايل المقدّس: امرأة تستغل إيمان الناس، وتستبدل العلاج بالوهم، لتؤكد أن السلطة يمكن أن تتجسّد حتى في منبوذة تدّعي البركة.
من خلال هذه الشخصيات، يفضح السلحوت كيف يتحوّل الدين الشعبي إلى أداة للهيمنة على الجسد والضمير معًا.
الرمزية الاجتماعية للجسد
الجسد في الليلة الأولى ليس كيانا بيولوجيا، بل نظام معنى.
فحين يعجز موسى عن أداء “الواجب”، لا يُدان هو وحده، بل يُدان الجسد الفلسطيني بأكمله، الجسد المحاصر بالخوف من الاحتلال الخارجي والخضوع الداخلي. الجسد هنا استعارة للأرض، للهوية، وللحق المسلوب في الفرح.
وفي المقابل، جسد ليلى هو النصّ الآخر للرواية: نصّ المقاومة الصامتة، الذي لا يصرخ لكنه لا يستسلم. جسدها هو الأرض التي يخطئ الجميع في قراءتها، لأنهم لا يرون فيها إلا “العذرية”، لا “الإنسان”.
البنية الدرامية: من الحدث إلى الأسطورة
يمتلك السلحوت قدرة نادرة على تحويل الحدث اليومي إلى أسطورة معاصرة. فمشهد الفتّاحة "مبروكة" التي تدخل بيت العروسين ليس مجرد حدث، بل طقس ديني بديل، يعكس كيف يصبح الجهل ميثولوجيا جديدة.
من خلال هذا المشهد، تتجلّى المأساة الكبرى: حين يصبح العجز الإنساني مادة للمتاجرة الروحية. هكذا تتحول الرواية إلى مأتم للعقل، وإلى إنجيل صغير للوعي المسلوب.
القضية الكبرى: العجز الثقافي لا الجسدي
الرواية لا تتحدث عن العجز الجنسي، بل عن العجز الثقافي عن مواجهة الذات. فكل ما يحدث في النص ناتج عن منظومة ترفض السؤال.
العريس لا يسأل عن نفسه، العروس لا تسأل عن حقها، والأمهات لا يسألن عن خطئهنّ، لأن السؤال في ثقافة القمع خطيئة.
بهذا المعنى، الليلة الأولى ليست رواية عن رجل وامرأة، بل عن مجتمع بأكمله في ليلته الأولى مع الوعي.
الأسلوب والرؤية: واقعية نقدية بروح صوفية
على الرغم من موضوع الرواية الصّادم، إلّا أن الكاتب يتعامل معه بروح صافية لا تبتذل الجسد. لغته متطهّرة من الفجور، وإن كانت تغوص في أدق تفاصيل العلاقة الزوجية.
إنها كتابة متزنة توازن بين الجسارة الأخلاقية والسّمو الإنساني. ولعلّ هذا هو سرّ قوّة الأديب جميل السلحوت: إنّه يكتب عن العار دون أن يكون فاحشا، وعن الخطيئة دون أن يخطئ في التعبير عنها.
الرسالة الإنسانية للرواية
في النهاية، لا يدين السلحوت شخصا بعينه، بل بنية ثقافية بكاملها. يريد أن يقول إنّ الجهل المقدّس أخطر من الكفر الصريح، وإنّ الحب لا يُقاس بامتحان، بل بقدرة الروح على التحرر من الخوف.
الرواية تضع القارئ أمام مرآة لا ترحم: مرآة تسأله عمّا إذا كان هو أيضًا يشارك في إنتاج القهر بصمته أو تبريره.
خاتمة: أدب للجرأة والضمير
الليلة الأولى ليست مجرد نصّ أدبي، بل وثيقة أخلاقية عن مجتمعٍ يقتل الحب باسم الشرف، ويستدعي الجنّ ليتجنب مواجهة ذاته.
يستحق الشيخ جميل السلحوت كل التقدير لأنه تجرّأ على فتح الجرح الذي نخاف النظر إليه. لم يكتب رواية للتسلية، بل كتب مرثية للعقل العربي الأسير بين الخرافة والحياء الكاذب.
هذه الرواية تمثل علامة فارقة في الأدب الفلسطيني المعاصر، لأنها تذكّرنا بأنّ التحرر الحقيقي يبدأ من الجسد، من “الليلة الأولى” التي لا تنتهي إلا حين يولد الإنسان من جديد.