الثلاثاء ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم محمد محمود النجار

الحُطيئة، نُصحٌ من ذهب خالص

اختلاف الظروف: إذا كانت النفوس البشرية تتشابه في كل زمان ومكان، فإن المشاعر والآراء تتباين باختلاف الظروف والأحوال، وما الشعر إلا تعبير عن ذلك التباين، وإذا كان الجامع المشترك بين كل الشعراء هو القدرة على التصوير الانفعالي، والتعبير عن التفاعل النفسي بكلمات لها جَرْسٌ وتأثير، فإن هذا القَدْرَ المشترك الجامع بين كل الشعراء، إذا كان مع عقل وخبرة، أنتج حكمة، وإذا كان مع عطف ومودة أنتج مدحاً، وإذا كان مع إعراض وتجاهل أنتج هِجَاءً، وإذا كان مع ولع وإعجاب أنتجَ غزلاً، وإذا كان مع ألم وحرمان أنتج رثاءً، وإذا كان مع اعتداد بالنفس أو بالأهل أنتج فخراً وحماسةً، وإذا كان مع شغف وتعلق أنتج حُبًّا. ومهما كانت المشاعر التي حدت بالشعراء إلى ذلك الانفعال وتلك الحال، فإن السعادة التي تغمر نفس أيهم في أعقاب اكتمال خروج قصيده إلى النور، هي قدرٌ مشترك ثانٍ بين جميعهم، فالسعادة حينما نتحدث عن الشعراء دون سائر الناس، فإنها تكون مزيجاً حراً من المشاعر الإيجابية التي لا علاقة له بموضوع القصيد، إذ حتى في حالي الهجاء والرثاء ونحوهما من صور التعبير عن الهموم والمتاعب، فإن الذي يغمر الشاعر ويسيطر عليه من الأحاسيس قبل وأثناء بثه ونحته للقصيد شيء، والذي يغمره من تلك المشاعر بعد البث ربما شيء آخر في كثير من الحالات، فحاله ومشاعره قبل ولادة القصيد لا يعبر بالحتم عن ديمومة تلك الحال، كما لا يعبر عن استمرار وجود تلك الأحاسيس والمشاعر التي ولدت منها تلك القصيدة، فسرعان ما يتحول كل ذلك الوهج الذي نُحتت في ضوئه، وولدت فوق تنوره، إلى رماد رطب بارد، مخلوطٍ بخيوطِ نورٍ من قبسِ كوكبٍ دُرِّي، يلمع في عيني الشاعر، ويكسو بالبهاء ثغره وجبينه، حين تكتمل قصيدته، وتلوح في أعين القراء والمستمعين علامات الاستحسان لها، فتغمر إذ ذاك صدرَ الشاعر أكاليلُ الرضا والفخر فوَّاحةً بعبقِ السعادةِ، فلكأنه عند ذلك أمٌ حُرمت من الإنجاب أعواماً ثم ولدت طفلا بَهِيَّ المُحيَّا، فكم هي سعادته، وحبه، ورضاه وفخره إذ ذاك، وكيف هي السعادة قد تخللت نسيجه، فصارت في شهيقه وزفيره، وصحوه ونومه، لها أثر ظاهر، لا يَخفى على بصير ولا غيره، ويظل حال الشاعر كذلك إلى أن يتلبس بحال قصيد ثان، والشَّأنُ أنَّ السعادة عند الشعراء، مما يصعب ضبطه تحقيقاً من خلال موضوعات قصائدهم، ثم هي في قصائدهم مما يصعب اصطياده إذا وجدت!، لأن سعادتهم ليست مرتبطة بجذر السعادة في كلمات قصائدهم، ولا بموضوعاتها، وما نتحصل عليه في أشعارهم منها، إنما هو ومض خاطف لا قرار له، لعله مثل الفجر الكاذب، يأتي معترضاً في سماء معتمة، فيمكث قليلا، ساطعاً جداً لكنه ضعيف في مواجهة الظلام، فسرعان ما يتلاشى؛ هكذا هي السعادة في الشعر، وميض خاطف، أما سعادة الشعراء فلعلها أعمق من ذلك، لأنها ذات أبعاد إنسانية أشمل، فأسباب السعادة في الشعر محدودة، لكنها في حياة الشاعر ذات أبعادٍ غير منحصرة وروافد.

حياة الحُطيئة العبْسي: ذلك شاعر كبير أدرك الجاهلية والإسلام، ولد عبداً، واسمه جرول، دميم، ضعيف، تقتحمه العيون، ولذلك أطلقوا عليه الحطيئة، أي القصير، أو القبيح، فنشأ مغموزاً، مضطرباً قلقاً، مما هيج في قلبه غُصَّةً ظهرت مرارتها في أشعاره التي غلب عليها الهجاء، حتى أنَّه من شِدَّةِ ما كان يَشْعُرُ به من ظلم مجتمعي هجا أباه وأمه ونفسه، فهو يقول:

أَبَتْ شَفَتَايَ الْيَوْمَ إلا تَكَلُّم
بِسُوءٍ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُ
أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ
فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ

وقد كان تعلَّمَ قول الشعر على يد زهير بن أبي سُلمى، حتى صار عَلَمَاً فيه، لكنْ لكل منهما شخصيته، فبينما يتميز شعر زهير بالحكمة، فقد طغى الهجاء على شعر الحطيئة، فاتخذ من هجاء الخصوم مطية لمدح من يريد من رؤساء القبائل والأمراء، فحين أراد مدح بغيض بن عامر بن شماس لم يجد وسيلة لذلك سوى هجاء الزبرقان بن بدر، فقد كان جاوره، فلما شعر بملاله منه تحول عنه إلى بغيض فأكرمه فقال:

ما كان ذنب بغيض أن رأى رجلا
ذا حاجة عاش في مستوعر شاس
جارًا لقوم أطالوا هون منزله
وغادروه مُقيما بين أرماس
ملّوا قراه وهرّته كلابهم
وجرّحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي

فهو يمدح بغيض بأنه حين رآه ذا حاجة يعيش في أرض وعرة خشنة في جوار قوم أهملوه فلكأنه عندهم يقيم بين القبور بسبب أنهم ملوا ضيافته حتى نبحت عليه كلابهم وجرَّحوه، فلذلك هو ينفض يده منهم ثم يتحول إلى خطاب سيدهم فيقول له لا داعي للتظاهر بالمكارم وتجشم العناء في ادعائها، يكفيك أن تعيش لتأكل وتلبس، هذا هو حدك، وقد أطلق اسم الفاعل: الطاعم ـ الكاسي، وأراد اسم المفعول: المطعوم ـ المكسي، وهذا كثير عند العرب، كنوع من المجاز العقلي. فشكاه الزبرقان إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فلما سأل عمر فيه حسان بن ثابت رضي الله عنهما، قال له إنه سَحَلَ عليه، يريد أنه هجاه هجاء شديداً، فحبس عمر الحطيئة، ثم إنه رق له بعد أن استشفع لديه بقصيدة قال فيها:

فامنن على صبيةٍ بالرَّمْلِ مسكنُهم
بين الأباطح يغشاهم بها القدرُ
نفسي فداؤك كم بيني وبينَهُمُ
من عَرْضِ واديةٍ يعمى بها الخبرُ

فهو يقول له أن في إطلاق سراحه فضل كبير على أبنائه الصغار الذين يسكنون بين الرمال في أرض منخفضة وعرة وهو الآن بينه وبينهم مسافة بعيدة، مما يعني أنه لا يستطيع نجدتهم وللأسف فإن الوشاة يعمون عن ذلك.

وكان قد أسلم الحطيئة قبل ذلك في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يلقه على الأرجح، ثم ارتد في زمن أبي بكر، ثم عاد إلى الإسلام، وكان يتنقل بين القبائل، ويتردد على مجالس حكام بني أمية يمدحهم، وكانت حياته قليلة مضطربة، فلم ينعم براحة ولا استقرار، وظلتْ نفسه معذبَّة، وحياته مليئة بالمعاناة حتى آخر لحظة فيها، فهو ليس فقط شديد دمامةِ الوجه، ولا ظاهرَ القِصَرِ فحسب، ولكنه أيضاً مجهول النَّسَب، فلذلك اشتد سخطه على ما هو فيه، سخطٌ فلسفي عميق ممزوج بسخرية احتجاجية وجودية، تنم عن نفس كانت ترغب في الأفضل، ولعلها ماتت وهي تبحث عنه، فلا أحسب الحطيئة ذلك البائس اليائس الذي يرفض لمجرد الرفض، بل وراء هجائه نفس مرهقة مرهفة تواقة إلى السعادة، تفتش عنها ولكنها لا تجدها في الغالب، ومن يقرأ قوله:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس

ثم يطلع على سيرته وحياته وموته يدرك حقيقة ذلك الشاعر، وإنَّ هذا البيت هو الذي قال عنه الإمام أبو عمرو بن العلاء: لم تقل العرب بيتا قط أصدق من بيت الحطيئة.

السعادة عند الحُطيئة: برغم الحنق الممزوج بالهزل أحياناً وبالبذاءة أحياناً، نرى الحطيئة حين يعمد إلى الحكمة فإنه يصيبها من أقرب المسالك، فحين يتحدث عن السعادة، يقول إنها ليست في الدنيا وأموالها ومتاعها الزائل، وإنما هي في الآخرة ونعيمها ومتاعها الخالد الذي لا يُنال إلا بالتقوى، هذه هي السعادة الحقيقية، ولعمري ما أصدقه، فحين يقول لك من هو مثل الحطيئة أن السعادة في التقوى، فذلك نصح من ذهب خالص، تُطوى عليه أهداب الجفون، فهو خلاصة تجارب شقي، عانا وكابد الحياة، وتاقت نفسه إلى جميع ما فيها من قليل وكثير، حتى لم يوصف شاعرٌ قط بدناءة نفس كما وصف الحُطيئة، ثم هو في نهاية الأمر يقول:

ولستُ أرى السعادةَ جمْعَ مال
ولكنَّ التقي هُوَ السعيدُ
وتَقوَى اللهِ خيرُ الزادِ ذخْرًا
وعندَ اللهِ للأتقى مَزِيدُ
وما لا بدّ أن يأتي قريبٌ
ولكنّ الذي يمضي بعيد

إن الآخرة هي امتداد حتمي للدنيا، وعلى ذلك فليست السعادة في حطام الدنيا الزائل، ولكن في التقوى بمفهومها الواسع الذي يشمل عمل كل خير ورفق وبر، ثم لا تنتظر عوائد ذلك في الدنيا، بل هي ذخر في الآخرة، والآخرة قريبة، لأن ما لا بدّ أن يأتي قريبٌ، وإنما البعيد حقاً هو ذلك الوقت الذي يضيع بغير تزود من التقوى، فالسعادة الحقيقية عند الحطيئة هي أن تعمل في الدنيا بالتقوى لتحصل النعيم في الآخرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى