الأربعاء ٧ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم أحمد فضل شبلول

السينما والحياة في مجموعة قصصية جديدة

هذه مجموعة قصصية مختلفة، يدور أغلبها في دور العرض السينمائي، أو يدور حول السينما وتأثيرها على الشخصيات سواء الموجودة فعلا أو المتخيلة

وعدد كبير منها يمثل جزءا من السيرة الذاتية لكاتبها وهو القاص والروائي المصري السكندري مصطفى نصر. سبق لمصطفى نصر أن أصدر عددا من الروايات والمجموعات القصصية بلغ عددها سبع عشرة مجموعة ورواية، ومارس الكتابة الدرامية لإذاعة الإسكندرية، وكتب أيضا قصصا للأطفال.

ويدور أغلب أعماله في الأحياء والأماكن الفقيرة والمهمشة أو العشوائية في مدينة الإسكندرية، مثل غربال وغيط العنب وكرموز وسوق عقداية وجبل ناعسة وكوم الشقافة وغيرها من الأماكن التي خبرها الكاتب وعاش فيها وتفاعل مع شخصياتها والناس المهمشين بها. وقد اختار في مجموعته الجديدة الصادرة عن سلسلة "الكتاب الفضي" بنادي القصة بالقاهرة أن يتحدث عن عالم السينما في الإسكندرية وتأثيرها الطاغي أو الساحر عليه شخصيا وعلى شخصيات قصصه من ناحية أخرى. وذلك من خلال الأفلام العربية والأجنبية التي تعرضها دور عرض الدرجة الثـــــــالثة، أو الدرجة الثانية إن كان مع شخص القصة أو بطلها مزيد من النقود. أما دور عرض الدرجة الأولى فغير مسموح الاقتراب منها أو التصوير فيها. وهو بذلك يؤرخ فنيا لحقبة من أهم حقب الثقافة والفن في الإسكندرية خلال سنوات الستينيات والسبعينيات في القرن المنصرم، إذ أن معظم دور العرض السينمائي التي تحدث عنها مصطفى نصر قد اندثر الآن، أو تحول إلى خرابات أو جراجات أو محلات وبوتيكات ومعارض وأنشطة تجارية أخرى. ولما كنتُ قريبا من جيل مصطفى نصر فقد عاينت معظم دور العرض السينمائي التي تحدث عنها بطريقته الفنية المبسطة والموحية والمدهشة والمفاجئة أحيانا، والتي تجعل القارئ يترحم على أيام السينما المصرية. البطل الرئيسي في هذه المجموعة القصصية المتميزة هو المكان، أو دار العرض السينمائي نفسه الذي يُتخذ أحيانا مكانا للقاء العشاق، وطالبي المتعة، وأحيانا مكانا يلوذ به الشواذ جنسيا، وأحيانا يكون دخول دار العرض من أجل الفيلم نفسه، وقيمته الفنية وتأثيره.

سينما المفلسين

فبعد أن يتحقق شخوص القصة من نجاح فيلم ما في دور عرض الدرجة الأولى، أو بمدى الزحام أو إقبال الناس عليه، فإنه سرعان ما ينتشر الخبر بأن سينما الجمهورية مثلا، أو سينما بلازا أو سينما بارك أو غيرها بها فيلم كذا، ليتجمع الشباب، المفلس غالبا، ويقررون مشاهدة الفيلم. ولأن أغلب شخوص القصص من التلاميذ أو من شباب الأسر الفقيرة فإن المشكلة دائما ما تكون في ثمن التذكرة، التي يدلنا الكاتب على أساليب كثيرة ومتعددة يتغلب بها التلميذ أو الشاب على توفير ثمنها، وهو في معظم الأحوال تسعة مليمات، وليس قرشا كاملا للتمتع بالإعفاء من ضريبة الملاهي. سبع عشرة قصة عن السينما أهداها الكاتب إلى صديقه محمد عبدالغني الذي شاهد معه هذه الأفلام وارتاد معه هذه السينمات، وكان يود أن يكون أول من يقرأ ما كتبه عنها، ولكن يد الموت كانت أسرع. سبع عشرة قصة تحمل تاريخ سبعة عشر دار عرض سينمائي في الإسكندرية، ومنها واحدة في القاهرة (سينما رويال)، وواحدة في الصعيد (سينما الوجيه) حيث الجذور العائلية للكاتب، ومعظم هذه الدور غير موجود حاليا. لذا تأتي هذه القصص السينمائية شاهدا حيا، أو اعترافات فنية على مسيرة زمنية كان للفن السينمائي فيها سطوته الكبرى وغوايته العظمى، وعلى تأثير فيلم معين على المشاهدين، حتى أثناء النوم، حيث تتراقص خيالات الفيلم ومشاهده في اللاوعي.

سينما التتويج وحمام الملاطيلي

أول هذه السينمات، سينما التتويج بشارع السيد محمد كريم (شارع التتويج سابقا وسمي بهذا الاسم لأن الملك فاروق مرَّ به في طريقه إلى رأس التين وتم تتويجه ملكا هناك.(كان يعرض في سينما التتويج فيلم "حمام الملاطيلي" (1973 سيناريو وحوار محسن زايد، ومن إخراج صلاح أبو سيف الذي اشترك في كتابة السيناريو أيضا) والكاتب بهذه الطريقة يوثق للفيلم أيضا ويعطينا معلومات أو بيانات عنه، فيتحقق للقصة شيء من المعلوماتية والتوثيق. ومرجعه في تلك المعلوماتية وذلك التوثيق، إما ذاكرته القوية اللاقطة الحافظة الواعية، أو إحدى موسوعات السينما المصرية التي قد يكون رجع إليها لتوثيق المعلومة. لا يكتفي الكاتب بالحديث عن فيلم "حمام الملاطيلي" في سينما التتويج فحسب، ولكن يجعلنا نشاهد فيلما آخر أو مشهدا آخر يدور بين المشاهدين في الصالة، أو على كراسي المتفرجين. فهناك إلى جانب شمس البارودي ومحمد العربي ويوسف شعبان بالفيلم، عيدة وسيد بصالة السينما اللذان يتواعدان ليمارسا الحب بعد أن فشلا في ذلك بالخارج، بسبب رقابة الأهل والجيران. ويفشلان أيضا بداخل الصالة المظلمة، بسبب خوف سيد الذي أمسكت عيدة بيده ووضعتها فوق فتحة الفستان في جانبها، فارتعشت يده وتوقفت على فتحة الفستان. ويستثمر الكاتب مشاهد دالة من الفيلم ويدمجها بالقصة، من خلال عنصر التوازي، ليستنهض بذلك همم بطلي قصته، ولكن خوف سيد يطغى على جميع المحاولات، رغم مداعبته لعيدة أثناء زيارتها المستمرة لمنزل أسرته. في الفيلم، أحمد يقبِّل نعيمة على صوت أم كلثوم (في أغنية فكروني) فتستثار عيدة وتنحني لتلمس فم سيد، ولكن سيد لا يطور من أدائه معها. وتحاول عيدة أن تستثمر بعض اللقطات المثيرة بالفيلم من خلال تعليقاتها الشفوية الدالة، إلا أن سيد لم يتجاوب معها، وعند غضبها منه تقول لها "فتحتلك فتحة في الفستان على الفاضي." وخلال هذه المحاولات ينقلنا الكاتب عن طريق المونتاج، وكأنه يكتب قصصه بتكنيك السينما أو لغتها، إلى جوانب أخرى من حياة عيدة مع زوجها الذي يعمل في البحر وقَّادا السفن، فيسافر كثيرا ويتركها نهبا للجوع الجنسي، كما يحدثنا عن أختها التي تعمل ممرضة في مستشفى الصدر. وعلى طول القصة نجد هذا التداخل بين الفيلم وشخوص القصة، ونرصد انعكاس لقطات الفيلم على شخوص القصة، وكأننا نشاهد فيلمين معا. وينهي الكاتب قصته عن سينما التتويج بقوله "أُغلقت السينما بعد سنوات قليلة من عرض الفيلم. تحولت إلى جراج كبير. وانتقل المرض الصدري من المريض الذي أحبته الممرضة إليها، ثم إلى أختها عيدة. وماتت عندما كان زوجها الزناتي في رحلة من رحلاته الكثيرة والبعيدة." وهي نهاية درامية، تناسب نهاية حياة سينما التتويج نفسها التي تحولت إلى جراج كبير. بذلك لا يؤرخ الكاتب لفيلم "حمام الملاطيلي"، ولا للعلاقة بين سيد وعيدة، فحسب، ولكنه يؤرخ أيضا لتاريخ سينما "التتويج" التي كانت إحدى دور العرض المشعة والكبيرة في مدينة الإسكندرية.

ليست رواية

على هذا المنوال تسير معظم قصص هذه المجموعة، تختلف الشخصيات وتختلف الأحداث والمبررات وتختلف الأفلام وتختلف دور العرض السينمائي مع كل قصة، الأمر الذي ينفي تماما صفة الرواية على هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو ما جاء خطأ على الغلاف.

سينما ماجستيك وسر طاقية الإخفاء

في سينما ماجستيك بشارع شكور يعرض فيلم "سر طاقية الإخفاء" لعبد المنعم إبراهيم، وتتماهى شخصية حسني مع شخصية عبدالمنعم إبراهيم (عصفور)، وشخصية توفيق الدقن مع ابن عم الحبيبة خميسة الذي يريد أن يتزوجها بالغصب. يحس حسني بالسعادة بعد انتهاء الفيلم متوهما أنه سينتصر على غريمه ابن عم الفتاة، ويصفعه على قفاه كما كان يفعل عصفور في الفيلم، وتحلق بعض الخرافات الشعبية وحكايات العفاريت في أجواء القصة، وتتداخل أجواء الفيلم مع أجواء حسني النفسية، حتى بعد خروجه من سينما ماجستيك. ولكن في النهاية، وبعد سيطرة الأوهام على شخص القصة، يقرر حسني ترك خميسة لابن عمها، مستسلما لقدره.

سينما الهمبرا ورابعة العدوية وستيف ريفز

فيلم "رابعة العدوية" عرض في سينما الهمبرا عام 1963 بشارع صفية زغلول وكان يمتلكها إلياس جورج لطفي وأممتها حكومة الثورة، وأصبحت تابعة لمؤسسة السينما، وكان السارد، الذي هو الكاتب في الوقت نفسه، وقتها في الإعدادية. ويكشف السارد الذي يتحدث بضمير المتكلم بأنه مع زملائه يتركون المدرسة (أو يزوغون منها) لمشاهدة الفيلم في الحفلة الصباحية التي تبدأ في الثامنة والنصف صباحا. وهنا تتماهى رابعة العدوية مع فتاة تسكن مع أسرتها في إحدى حجرات بيت أو شقة السارد. بعد عرض مشاهد من فيلم رابعة العدوية يقول السارد "أحسست بشيء غير عادي يسري في كياني، تذكرت الفتاة التي كانت تسكن بيتنا، وتشاركنا الشقة التي نسكنها. كانت تقف أمام باب حجرتنا، وتحكي لي عن الأفلام التي تراها مع أبيها وأختها الوحيدة." مرة أخرى يدخل السارد سينما الهمبرا وكان الفيلم أجنبيا في هذه المرة، بطولة ستيف ريفز الشاب الوسيم ذي الجسد الجميل الحاصل على بطولة العالم في كمال الأجسام، واشتهر بتمثيل سلسلة من الأفلام عن البطل الأسطوري "هرقل". وكان هناك فئة من الشباب في ذلك السن يعشقون أبطال الرياضة العالميين، ويعلقون صورهم على الحائط، وخاصة في كمال الأجسام. ومن المفارقات العجيبة في قصة مصطفى نصر أن "سلامة الجربان" ذا الجسم الضحل يعجب بستيف ريفز ويحاول أن يقلده وينزع من على الحائط صورة عبدالحميد الجندي البطل المصري العالمي في كمال الأجسام، ويضع صورة ستيف ريفز بدلا منه. وبعد أن كانوا يلقبونه في الحي بسلامة الجربان لوجود ندبات صغيرة جراء إصابته بمرض الجرب وهو صغير، أصبحوا يلقبونه بسلامة هرقل. يلتقي سلامة بحمامة الأعرج ذي الساقين الرفيعتين اللتين تشبهان ساقي أمه (وكأن السارد العليم دقَّق في ساقي أم حمامة من قبل)، ويتدربان معا، وعندما عرفا بعرض فيلم ستيف ريفز في سينما الهمبرا، قررا أن يصطحبا تلاميذ المدرسة إلى السينما، ولكن الفيلم لم يعرض بسبب عدم وصول بكراته، فهاجوا وماجوا داخل صالة العرض. وتنتهي القصة بالقبض على سلامة الجربان وحمامة الأعرج وحجزهما في قسم شرطة العطارين لعدة أيام.

سينما النيل وعدم مشاهدة الوسادة الخالية

سينما النيل في كرموز كانت تعرض فيلم "فاعل خير" وهو أول فيلم يشاهده السارد في حياته، بطولة صباح ومحمد فوزي. ويتداخل مع أحداث الفيلم لقطات ومشاهد من حياة السارد نفسه يذكر فيها المدرسة التي كان يهرب منها، وقهوة عبدالراضي، وبائع المكرونة في شارع 12، وواجهة سينما النيل أثناء عرض فيلم لإسماعيل يس وهو يرتدي ملابس النساء وماجدة بجواره (فيلم الآنسة حنفي ( وغيرها من الأفلام مثل فيلم "الوسادة الخالية" لعبدالحليم حافظ ولبنى عبدالعزيز وهما يطلان من "البلانشة" على مجموعة الصغار، أثناء لعب أحمد حسنين لعبة القمار (التلات ورقات) بجوار السينما فيخسر كل مليم معه، ويحطم آمال زملائه في دخول السينما ومشاهدة الوسادة الخالية. ويقول السارد في حسرة "أبوه أعطاه عيديته وأقاربه أعطوه أيضا، لكنه لعب القمار بنقوده ونقودنا." وهكذا تتوالى قصص السينمات أو دور العرض السينمائي في قصص مصطفى نصر، وفيها تتوالى الحكايات والمشاهد والتجارب، ويعود السارد بالذاكرة إلى الوراء، أو تتماهى قصص الأفلام مع قصص الواقع.

بلازا والدورادو ومحاكمة أفلام الدرجة الثالثة

وإلى جانب ما ذكر من قبل، هناك سينما بلازا وتذكرتها بثلاثة قروش وتعرض فيلمين أجنبيين، ولكنها عرضت ذات مرة فيلم "آخر كدبة" لفريد الأطرش وسامية جمال، وهو فيلم لم يشاهده حودة برم، فأحس بالحسرة والأسى.وهناك سينما الدورادو التي سميت المجموعة القصصية السينمائية بها، على الرغم من أنها ليست أهم السينمات في حياة السارد أو حياة الكاتب ولا حتى في مجموعة سينمات الكتاب، فهناك أهم منها في المجموعة مثل سينما الجمهورية وسينما النيل. ولكن من خلال قصة سينما الدوادو نلاحظ كيف يحاكم رواد الدرجة الثالثة الأفلام السينمائية، فالفيلم يعتبر ساقطا من وجهة نظر هذه الفئة من الجمهور إذا مات فيه البطل أو الولد. كانت سينما الدورادو تعرض فيلم رعاة بقر أميركي فـ "ضاق حنفي لموت الولد (بطل الفيلم) فصاح غاضبا لكل من في الصالة:

  الفيلم ده ساقط. إزاي يموت الولد فيه؟

فصاح رجل في الخلف: لو تبوَّل الحصان في الفيلم ما يبقاش ساقط.

فقال حنفي: بس أنا ما شفتش الحصان يتبول.

فصاح البعض فيه بأنهم رأوه يتبول، وعليه أن يصمت لكي يكملوا مشاهدة الفيلم." هذ الحوار الذي رصده مصطفى نصر جزء من الثقافة الشعبية السينمائية التي زرعتها السينما لدى مشاهديها البسطاء بسينما الدرجة الثالثة الذين يعتقدون أن موت البطل يعني سقوط الفيلم، وهذا ما كان شائعا فعلا في تلك السنوات. أما أن نجاح الفيلم يرتبط ببولة الحصان (لو تبوَّل الحصان في الفيلم ما يبقاش ساقط) فهو الشيء العجيب والمدهش لدى هذه الفئة من البسطاء. والحوار الذي دار وغيره الكثير داخل القصص أو داخل مثل هذه النوعية من دور العرض، يكشف عن ضمير الجماعة الشعبية وتصورها لفن السينما عموما. ومن ناحية أخرى يأتي صورة معاكسة لحالة الصمت التام أو التأمل الصامت أو المشاهدة الصامتة في دور العرض ذات الدرجة الأولى مثل: مترو وأمير وراديو وفريال وريو وريالتو بالإسكندرية، والتي لم يقترب منها الكتاب وقصصه السينمائية.

سينما بارك والمفاجآت الشاذة

في سينما بارك، وهي من سينمات الدرجة الثانية، كان يُعرض فيلم " لوكاندة المفاجآت" لإسماعيل يس وعبد المنعم إبراهيم وهند رستم. وفي القصة يوضح الكاتب أو السارد أن الفرق بين سينما الدرجة الثانية وسينما الدرجة الثالثة، أن الأولى يجلس فيها كل مشاهد في مقعده وحده، بينما في الثانية فالمشاهد يجلس على دكك طويلة في نصف الصالة الأول، أما النصف الثاني فمقاعد منفردة.
في هذه السينما يقابل السارد أحد الشواذ جنسيا الذي يجلس بجواره ويطلبه في دورة المياه، في حين يعلن السارد عن قلقه على إسماعيل يس خشية أن يقع الصندوق المخبأ فيه من أعلى اللوكاندة العالية جدا، فيتفتتان: إسماعيل يس والصندوق. لكنه عندما أحس برغبة الشاذ وقوله الصريح "الأمر لن يكلفك شيئا، وسأشتري لك ما تريد." يخرج من السينما إلى الشارع ويجري "أخذت أجري وأنظر خلفي خشية أن يكون ذلك الدميم يتبعني."

رد قلبي وحصة السينما في محرم بك

سينما محرم بك كان تعرض فيلم "رد قلبي" لشكري سرحان في رداء الضباط والأميرة إنجي (مريم فخرالدين) بقامتها المديدة الرشيقة ووجهها الجميل. ويتذكر السارد أنه "أيامها كانت مدارس المنطقة التعليمية تدخل تلاميذها السينما. كل مدرسة لها يوم يحددونه مع إدارة السينما، فالفيلم يسجل قيام ثورة يوليو/تموز 1952."

أم إبراهيم في سينما الجمهورية

أما سينما الجمهورية، وكنت أرى أن يسمى الكتاب باسمها، لأنها أهم سينما تعرض لها الكاتب، وفيها يذكر بضمير المتكلم تاريخ بناء السينما، ودخول أم إبراهيم السينما لأول مرة في حياتها بعد أن كانت تنعت داخليها بالعيب. شاهدت أم إبراهيم الفيلم الأجنبي بعد أن أُخذت عنوة إلى السينما، فظلت لأيام عديدة والممثلين أمام عينيها، تراهم في صحوها ونومها، وكلما رأت رجلا تذكرت شبيهه في الفيلم الذي رأته. بعد ذلك تقفز فاتن حمامة إلى فضاء المجموعة القصصية السينمائية، ويستعرض السارد أفلامها التي رآها وأدمنها: أنا الماضي وابن النيل ووداعا يا غرامي والطريق المسدود وغيرها. لقد أحب جارته في الشقة لأنها تشبه فاتن حمامة، وحزن لدور فاتن حمامة في فيلم "لا أنام" عندما قامت بدور الشريرة. وتتماهي في نظر السارد جارته مع صورة فاتن حمامة فيقول "حبيبتي التي تشبه فاتن حمامة، لا تأتي إلى باب حجرتنا أبدا، هي جادة وتلك سمة من سمات فاتن حمامة."

سينما ريتس والوعي النقدي

هناك أيضا سينما ريتس، ومن خلال قصة هذه السينما يتضح الوعي النقدي للسارد، فمن كثرة دور العرض التي دخلها، ومن كثرة الأفلام التي شاهدها، أصبح هناك وعي نقدي يستطيع من خلاله الحكم على الأفلام ونوعيتها وعلى أهمية الإخراج. وعلى سبيل المثال يدهش السارد عندما يرى فيلم "امرأة في الطريق" الذي عرض عام 1958 سيناريو عبدالحي أديب، ومن إخراج عزالدين ذو الفقار. ويتساءل "كيف أخرج عزالدين هذا الفيلم الذي لا يتفق مع مدرسته ومزاجه؟ إنه من نوعية أفلام صلاح أبو سيف التي تعتمد على الواقعية." ثم يضيف "الغريب أن عزالدين قدم فيلما، في رأيي، من أهم الأفلام العربية. كأنه أراد أن يقول إنني قادر على تقديم كافة الأنواع بجدارة." وفي صفحة أخرى يذكر أن "الحب في أفلام عز الدين ذو الفقار في حاجة إلى دراسة نفسية." ثم هناك سينما فؤاد التي يقولون عنها "إن عم جمال عبد الناصر اشتراها وغير اسمها، لأنه لا يليق أن يمتلك سينما تحمل اسم ملك مصر، وابن أخيه قد قام بالثورة وحررها من الإنجليز ومن ابن الملك فؤاد التي تحمل السينما اسمه."

اختيار الفيلم طبقا لمخرجه أم لأبطاله؟

وهناك سينما الكوزمو، وبها كشف لوعي الشخصية باختيار الأفلام، فسعد يعرف أسماء المخرجين وكتاب السيناريو، يتحدث عنهم في جلساته مع أصدقائه، يختار الفيلم الذي سيشاهده طبقا لاسم المخرج. بينما رجب ومعظم شباب غربال يختارون الفيلم طبقا لأبطاله: شكري سرحان، عمر الشريف، تحية كاريوكا. ثم يبدأ السارد في حكاية فيلم "حنا التلامذة"(1959 من إخراج عاطف سالم) ويبدأ المزج بين الحقيقة والخيال السينمائي.

غواية السينما

ويظهر طغيان السينما على شخصيات المجموعة القصصية وقراراتها المصيرية أو الحياتية في قصة "دموع الحب" التي لا تحمل اسم دار عرض سينمائي، وإنما حملت اسم فيلم عرض في سينما "رويال" بالقاهرة لمحمد عبدالوهاب ونجاة علي. تقرر فتاتان من مشاهدي الفيلم (عام 1935) دراسة السينما والإخراج السينمائي بأميركا، نتيجة غواية السينما لهما، ولأنهما يعرفان مقدما عدم موافقة أسرتهما تقرران الهروب، وتكتب درية ورقة تقول فيها "ذهبت إلى أميركا لدراسة السينما وسأغيب أربعة أعوام." ولنا أن نتخيل، سينمائيا، ما سوف يترتب على ذلك في عام 1935. ويختم مصطفى نصر كتابه المتميز بالحديث عن فندق البوريفاج بالإسكندرية، الذي مُثلت فيه مشاهد بعض الأفلام الشهيرة: فيلم "موعد غرام" لعبدالحليم حافظ (أو سمسم) وفاتن حمامة (أو نوال) وفيلم "الزوجة 13" لرشدي أباظة وشادية. وفيلم "مراتي مديرعام" لشادية وصلاح ذوالفقار. وفي قصة مصطفى نصر تتعرف إحدى الفتيات على مساعد مخرج أحد هذه الأفلام، فيأخذها للتمثيل وتتنكر لخطيبها الذي كان يأخذها من غيط العنب للجلوس بكافتيريا فندق البوريفاج. إنها قصص واقعية تختلط بقصص الأفلام نفسها، بقصص دور العرض، بوقع سحر السينما وغوايتها على الشخصيات وعلى الحياة، جعلنا مصطفى نصر نعيشها من خلال كتابه المتميز "سينما الدواردو".


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى