الثلاثاء ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

الصدى

في الصباح الذي بدا وكأنّ البحر خرج من نومٍ عميق، وقف سلمان على المرفأ.

لم يمارس الصيد بعد، بل كان يجرّ شباكًا من الذاكرة تُعيده إلى الوراء.

الريحُ كذلك تعيد ترتيب وجهه، والماء يتلو عليه مراثي الأسماك الغارقة في الحلم.

كان يظنّ أنّ الشباك، حين تمتدّ، تُمسك ما لا يُرى، لكنها كانت في كلّ مرة تعود وفيها رطوبةُ الوقت فقط، وبقايا خيطٍ يشبه ندمًا مؤجّلًا.

في ملوحة البحر، سمع صوته القديم يقول له:

«كلُّ شيءٍ يعود، إلّا الذين انتظروا طويلًا.»

على حافة جبلٍ لا نهاية له، كان ظافر يسير، ومع كلّ خطوةٍ يتبدّد صوت الأرض من تحته.

كان ذاهبًا إلى مكانٍ يسمّيه الآخرون "مدرسة"، بينما يراه هو نفقًا من الطباشير يقوده نحو ذاته البعيدة.

يكتب الحروف على السبورة كمن يحرث الوهم، ويحدّق في صغارٍ يتعلّمون كيف يتهجّون الغياب.

يقول لهم: «الكلمة تنبت إذا سقيناها بالحلم.»

لكنّه، في سرّه، يعرف أنّ التربة عطشى منذ قرون.

في الساحة التي تفوح منها رائحةُ البؤس والورق الرخيص، كان طرّاد ينقر على آلته القديمة، يكتب كما لو أنّه ينقّب في صخرةٍ عن نفسه.

يقول المارّون إنّه كاتبُ عرائض، لكنّهم لا يعرفون أنّه يوقّع على شكواه الخاصّة، في كلّ مرة، باسم رجلٍ آخر.

كلماته تنزف حبرًا يابسًا، وابتسامته نصفُ قناعٍ ونصفُ احتجاجٍ على الفراغ.

وحين يفرغ من آخر ورقة، ينفخ في الهواء كأنّه يبعث رسالةً إلى الغيب:

«اعذرني، لم أجد مَن يقرأ.»

وعلى الرصيف المقابل، يعزف المغنّي وترَه المقطوع، ويسمّي الصمت جمهورَه.

يغنّي للحجارة، ويقيس مدى الصدى في تجاويف نفسه.

وذات مرّةٍ اقترب منه صبيٌّ وسأله:

«لِمَن تُغنّي؟»

فقال وهو يبتسم كمن تذكّر موتًا قديمًا:

«للذين لم يُولَدوا بعد.»

في أقصى الريف، كانت صدى تسير بين الصفوف الطينية، تحمل في يدها كتابًا، وفي الأخرى ضوءًا خافتًا.

لم تكن تُدرّس، بل تستدعي حكاياتٍ عن نساءٍ كتبن أسماءهنّ على جدران الغيم.

كانت التلميذات يحدّقن إليها بدهشةٍ تشبه الصلاة، وهي تقول لهنّ بصوتٍ يختلط بالريح:

«اقرأن، فالكلمات هي الهواء حين ينسى العالم أن يتنفّس.»

أمّا الشابّ العاشق، فكان كالشبح يتحرّك بين الورش والأسواق.

لا أحد يعرف اسمه، لكنّه كان يُرى دائمًا وهو يحمل شيئًا لا يُرى — ربّما حلمًا، ربّما وعدًا.

كان يمرّ بجانب والده الجالس على الباب، يضع يده على كتفه دون كلام، وفي عينيه صورةُ امرأةٍ لم تتجسّد بعد.

يحاول أن يصنع من نهاره سلّمًا نحوها، لكنّ الخطوات كانت تتفتّت، والسماء تصمت.

وفي آخر اليوم، حين أخذ الضوء شكل الحنين، ظهرت حافلةُ جسّام.

لم تكن تسير على طريقٍ، بل على جرحٍ طويلٍ من الغبار.

تتوقّف، وتفتح بابها، فيصعد الجميع:

سلمان المبتلّ بملح الحلم، وظافر المرهق بالسبورة، وطرّاد المعلّق بورق الآخرين، والمغنّي الذي يُغنّي للغياب، وصدى التي تشبه نافذةً في ليلٍ كثيف، والشابّ الذي يحمل رغبةً لا اسمَ لها.

يجلسون متجاورين دون أن يعرف أحدهم الآخر.

تتحرّك الحافلة، تتماوج على الوجوه كأنّها لغةٌ لا تُترجم.

ومن مرآته، يرى جسّام وجوههم جميعًا في إطارٍ واحد، فيظنّ لوهلةٍ أنّه يقود لا مركبةً، بل زمنًا كاملًا نحو نهايته.

في الطريق، لا يُسمع إلّا صريرُ الإطارات على التراب، وصوتُ البحر البعيد.

وحين يتداخل الغروب مع الأفق، يخطر في بالهم جميعًا سؤالٌ واحدٌ لا يُقال:

هل نحن مَن يسافر... أم أنّ الطريق هو الذي يعبر بنا؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى