الثلاثاء ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

رائحة الحمص

على رصيفٍ ضيّقٍ لا يحتمل ازدحامًا، تنبعث رائحة حمصٍ مسلوق كأنها نداءٌ خفيّ لا يسمعه إلا الجياع والمتعبون. عند تلك العربة الخشبية الصغيرة يقف رجلٌ يُشعل نهاره ببطء، يفتح غطاء القدر ليترك للبخار طريقه، فيصعد كأنّه ضوءٌ منسيّ وجد فرصة ليظهر.

الرائحة تتقدّم خطوات عنه، تلامس المارّة قبل أن يلمحوه، توقظ فيهم ذاكرة وجبةٍ بسيطة أو لحظة دفءٍ من زمنٍ بعيد، فتدفعهم نحو العربة بلهفةٍ لا يعرفون سببها تمامًا. يقتربون واحدًا بعد آخر: طالبٌ يهرب من محاضرةٍ طويلة، موظّف يبحث عمّا يسند روحه قبل العودة إلى طاولةٍ مثقلة بالأوراق، امرأة تشتري لأطفالها ما يخفّف عن يومهم، وعابر سبيل يشتهي فقط أن يتوقّف قليلًا ليشعر بأن المدينة أقلّ قسوة.

الرجل يعمل بصبرٍ يشبه الهدوء الذي يسبق المطر.

يراقب غليان الماء كما لو كان يتأمّل طريقه في الحياة: خطوات ثابتة لا تتعجّل شيئًا. وبين من يصعدون ويهبطون في تجارةٍ لا تستقر، وبين من يسعون وراء المكاسب السريعة، بقي هو على وتيرةٍ واحدة، يعرف أنّ الرزق يحبّ من لا يركض خلفه، وأنّ يدًا خبيرة تستطيع أن تفتح الحياة كما تفتح غطاء قدرٍ يغلي—بحذر وبثقة وبقلبٍ يعرف الحرارة فلا يخشاها.

في بيته، كانت للأشياء إنارة أخرى.

أطفاله الأربعة يكبرون بملابس نظيفة ودفاتر جديدة وابتسامات لا تعكس ضيقًا. لم يكن ثريًّا، لكنه كان أبًا يعرف كيف يصنع الغنى من الطمأنينة، وكيف يضع خلف كلّ واحدٍ منهم ظهرًا لا ينحني. ومع السنوات، مضى الأولاد في طرقٍ علميّة واسعة، بينما ظلّ هو واقفًا في المكان نفسه، لا يتغيّر إلا في شيء واحد: ازدياد يقينه بأن التعب، حين يُعاش بصدق، يمنح للحياة معنى لا تمنحه وفرة المال.

عمله لم يكن سهلًا… لكنه تعبٌ يصنع قيمة.

تعبٌ يلتصق باليد ويمنحها احترامًا. ومن تلك العربة الصغيرة خرجت حكاية رجلٍ لم يطلب الكثير، لكنه عرف كيف يجعل القليل يكفي للعائلة وللأيام وللروح التي تحتاج إلى ما يعينها على الوقوف.

هكذا ظلّ حاضرًا في الشارع وفي ذاكرة كلّ من مرّ به.

والرائحة—رائحة الحمص التي كانت تصل من بعيد—بقيت شاهدةً على رجلٍ بنى حياته حبّةً بعد حبّة، وصبرًا بعد صبر، حتى أصبح القدَر الصغير قربه يشبه قلبًا مفتوحًا للناس… ودربًا مضاءً ببخارٍ بسيط يعرف طريقه نحو القلب.

في صباحٍ بدا أبطأ من الأيام السابقة، تمدّدت غيمة رمادية فوق السوق، كأنها تحاول أن تغطي على ضجيج المدينة. لكنّ العربة الخشبية كانت ما تزال في مكانها، تُشعل بخارها كما يُشعل البعض مصابيح الطرقات.

كان أبو طاهر، بوجهه الذي صار يعرف ملامح العابرين أكثر ممّا يعرف ملامح الزمن، يحضّر قدَره اليوميّ كعادته، إلا أنّ شيئًا صغيرًا كان مختلفًا: صمتٌ غير مألوف، كأن الشارع نسي أن يتنفس لحظة.

رائحة الحمص خرجت من القدر بخجلٍ أولًا، ثمّ استعادت قوتها. كان الهواء الذي يمرّ فوقها يبدو كأنه يحمل معه حكاية جديدة. اقترب أوّل زبون، لكنه لم يكن من الوجوه المعتادة. شابٌ لا يتجاوز العشرين، يحمل حقيبة قديمة ويمشي بحذرٍ من يخشى أن يوقظ شيئًا داخله.

سأله أبو طاهر بصوته الهادئ:

– أوّل مرة أشوفك هنا؟

ابتسم الشاب ابتسامة خفيفة:

– إي… سمعت عنك من واحد قال إن رائحة الحمص عندك تشبه "بيت ما عاشه".

لم يفهم أبو طاهر العبارة تمامًا، لكنه أدرك ما يقصده. بعض الروائح لا تأتي من الذاكرة… بل من الأمنية.

ناول الشاب صحنًا صغيرًا، وفي عينيه المتعبتين قرأ أكثر ممّا قيل. فهم أنه يقف أمام أحد أولئك الذين أنهكتهم الأيام قبل أن يبدأوا. جلس الشاب على طرف الرصيف وأكل بصمت. وعندما عاد ليسلّم النقود، دفع أبو طاهر يدَه برفق.
– اعتبرها ضيافة… أول مرة.

توقّف الشاب لحظة، وعيناه تهتزّان مثل بابٍ قديمٍ يريد أن يُفتح ولا يعرف كيف. قال:

– لو تعرف شكثر محتاج هالكلمة… مو الأكل… الكلمة.

ثم غاب بين المارّة.

في ذلك اليوم لاحظ أبو طاهر أمرًا آخر. كانت المدينة تمرّ عليه بوجوهٍ أكثر توترًا، كأن الضيق النفسي صار يسبق الخطى. وتكرّر مشهد الشاب مع آخرين: رجلٌ خمسيني يأكل ليشعر أن العالم لم يطرده بعد، امرأة تبكي ولا تريد كلمة عزاء، وبائع جوّال يشتهي وجبة دافئة لأنه لم يبع شيئًا منذ الصباح.

ولكلّ واحد منهم، كان أبو طاهر يقدّم شيئًا لا يُشترى…

مرّة كلمة، مرّة ابتسامة، مرّة صحنًا بلا حساب، ومرّة فقط رائحة تطمئن الروح.

هو لم يكن يعرف أنه يتحوّل تدريجيًا من “بائع حمص” إلى نقطة ضوء صغيرة في شارعٍ يمتلئ بالتعب. لكن الناس عرفوا… والشارع أيضًا عرف.

في المساء، حين عاد إلى البيت، وجد أبناءه الكبار يتحدثون بحماس عن فرص العمل والمشاريع والمستقبل الواسع الذي ينتظرهم. جلس بينهم يستمع مبتسمًا، والدفء يتسلل إليه ببطء. كان فخورًا بهم، لكنه أحسّ بخيطٍ خفيف من الغربة… كأنّهم أصبحوا أسرع من خطاه.

قال له ابنه الأصغر:– بابا… الناس تحجي عنك بالسوق. يقولون إنك مو بس تبيع حمص… تساعد. ترقّع قلب واحد، وتقوّي قلب واحد… شنو هالقدَر اللي تسويه؟

ضحك أبو طاهر وقال:

– القدر يغلي… وأنا أسمع.

– تسمع شنو؟

– الناس… ايضا لا الحمص فقط.

ساد صمت قصير. فهموا أن الرجل الذي علّمهم معنى القناعة كان يعيش كل يومٍ حكمة جديدة لا ينطقها إلا حين يُسأل.

وفي ليلةٍ باردة، بعد سنواتٍ من الوقوف خلف العربة، حدث ما لم يتوقّعه. جاء الشاب ذاته الذي تناول أول ضيافة، لكنه هذه المرة يرتدي ملابس أنيقة ويحمل ورقة مطبوعة. قال وهو يناوله إيّاها:

– ما نسيت يومك. ولا نسيت صحن الحمص اللي خلّاني أكمل يومي بدل ما أتهدّم. تذكرته بكل خطوة… وهاي نتيجة الخطوات.

كانت الورقة إعلانًا عن افتتاح مكتبة صغيرة تحمل اسمًا غريبًا: مكتبة البخار.

ضحك أبو طاهر وقال:

– ليش هالاسم؟

– لأن أول كتاب قريته… رائحته كانت من بخار قدرك، لم يكن الورق.

تركه الشاب ومضى، بينما ظلّ أبو طاهر واقفًا يتأمل الورقة، وشيء دافئ يصعد في صدره أشبه بالبخار… لكنه هذه المرّة لم يتبدد، بل تمدّد.

في اليوم التالي، كان القدر يغلي كعادته. لكن الرجل شعر أن شيئًا تغيّر:

رائحة الحمص لم تعد مجرد رزق، بل صارت ذكرى حية… وحكاية تمتدّ من القلب إلى الرصيف، ومن الرصيف إلى مكتبة وشارع ووجوه كثيرة.

وهكذا صار أبو طاهر يعرف أن الذي يبقى من الإنسان ليس ما يبيعه…

بل ما يزرعه في أرواح الذين يمرّون بالقرب منه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى