الأحد ٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

الضحك خوفًا

البيوت تُخفي أنفاسها حين يختبئ الخوف بين جدرانها.

هناك أبواب ترتجف دون أن تُفتح، ونوافذ تحدّق في العابرين دون أن يلحظها أحد. في مثل هذه اللحظات، يصبح الضحك أشبه بجرس إنذار، ليس فرحًا، بل علامة على أن شيئًا غير واضحٍ يقترب.

وفي بيتٍ عند حافة الليل، بدأ كل شيء بابتسامة صغيرة، ثم تحوّل إلى ظلٍّ يبتلع الضحك نفسه.

سيف يتوارى خلف الباب كأنّه يختبر حدود العالم. يضع كاميرته الصغيرة في زاوية الغرفة، كما لو كان يستدعي روحًا غائبة. قلبه يخفق بإيقاع غامض، كأن الشاشة التي بين يديه ليست مجرّد مستطيلٍ مضيء، بل بوابة سرّية تُغريه بعبورٍ لا عودة منه.

دخلت الأم تحمل صينية الشاي، وما إن خطت حتى انسكب الماء المخبّأ فوق الباب. توقّف الزمن لحظة؛ ملامحها تجمّدت بين الغضب والارتباك، بينما هو قفز ضاحكًا. لم يرَ أمَّه في تلك اللحظة، بل جمهورًا خفيًّا يصفّق خلف ستائر سميكة.
لكن لم يضحك أحد.

منذ تلك الليلة، بدأ البيت يزفر خوفًا بطيئًا.

الأب يفتّش كرسيه قبل أن يجلس، كأن المقالب تحوّلت إلى ألغام صغيرة. الأخت تضم حقيبتها المدرسية كما لو كانت حصنًا يحميها من الشبح الذي يتربّص. الأم تكتم أنفاسها بزفراتٍ متقطعة كلما سمعت ضحكاته تتناثر في الممرّ. الضحك صار كابوسًا متنكّرًا في هيئة لعب.

وذات مساء، عاد الأب منهكًا من العمل. جلس على الأريكة طلبًا لسكينةٍ قصيرة، لكن صرخة حادّة انبثقت من خلف الستارة، كأن الجدار نفسه قد صرخ. قفز مذعورًا، واتّسعت عيناه في فراغ أسود. عندها مدّ يده بعنف، وانتزع الهاتف من أصابع سيف، وصوته يتشقّق:

ــ "يكفي... هذا بيت، لا مسرح للأشباح."

تجمّد الطفل. يداه فارغتان لأوّل مرة. الهاتف ــ النافذة، الرئة، الصنم ــ اختفى. شعر أن الأرض انسحبت من تحت قدميه، وأن البيت صار غريبًا، أشبه ببناءٍ بلا أبواب.

الأيام التالية انسكبت ثقيلة، صامتة. لا ضحك، لا حيل، لا أصوات. جلس سيف في ركنه يحدّق بالجدار كأنّه شاشة مطفأة. لكن عند منتصف الليل، حين يغفو الجميع، كانت همهمة خافتة تنهض من العتمة: كأن الشاشة تناديه من خلف الجدار. أحيانًا يظنها صوته الداخلي، وأحيانًا يراها ضوءًا أزرق يتسرّب مثل شقٍّ في الظلام.

في أحلامه، تكبر الشاشة حتى تغطّي السقف. تنبض مثل قلبٍ معدني. يمدّ يده فيجد نفسه يغوص في داخلها، يركض وسط مقاطع لا تنتهي: وجوه بلا عيون تضحك، أيادٍ تصفّق بلا جسد، وحبال ضوء تلتف حول عنقه كخيوط دمية.
ويستيقظ مذعورًا، يتصبّب عرقًا، كأنّه خرج من حفلة لم يُدعَ إليها.

الأب يراقبه من بعيد، ويزداد إحساسه بالذنب: هل أنقذه من وحش الشاشة أم جرّده من آخر ملاذ؟ الأم تجلس قربه، تحكي قصصًا عن طفولتها، عن الأزقّة المليئة باللعب، عن الطائرات الورقية التي كانت تلمع فوق السطوح. لكنه لا يسمع. الكلمات تتفتّت قبل أن تصل، بينما الهمهمة من الجدار تزداد وضوحًا.

وذات مساء، وهو يحدّق في الفراغ، تمتم بصوتٍ مكسور:

ــ "كنت أضحكهم... مثل اللي بالهاتف."

اقتربت الأم وهمست، وهي تضع يدها على كتفه:

ــ "لكننا لم نضحك يا سيف... كنا نخاف."

كلماتها انغرست في حلمه مثل سكين. عندها انكسرت الصور التي تطارده: الضحكات تحوّلت إلى أقنعة، والفيديوهات إلى قبور مضيئة. لأوّل مرة، أحسّ أن الشاشة ليست صديقًا، بل كائنًا يتغذّى على خوف الآخرين.

لم تُعَد له الهواتف سريعًا، لكنهم جلسوا معه، لا كقضاة ولا كسجّانين، بل كرفاق يبحثون عن ضحكٍ مختلف. شيئًا فشيئًا، تراجع الضوء الأزرق من أحلامه، وخفتت الهمهمة من الجدار.

ضحكة جديدة تسلّلت إلى البيت، أقل صخبًا، لكنها تنبع من الداخل، لا من الشاشة.

والبيت استعاد إيقاعه، لكن شيئًا بقي في العتمة: ندبة زرقاء، وذكرى شاشة كانت يومًا ما تتنفّس من الجدار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى