

خطواتٌ مؤجّلة
في البدء، لم يكن الزقاق سوى شقٍّ في جسد المدينة، ضيقًا كأنه لا يتسع إلا لخطوة واحدة، لكن تلك الخطوة ظلت عالقة في الهواء، لم تكتمل أبدًا. هناك، حيث الجدران تتهالك وتتنفس غبار الطوب، جلس الأب على حافة الظل، كأنه يختبر معنى الانتظار في قلب المكان.
الصغار يتقافزون في الفضاء المتروك لهم، كرةٌ مهترئة تدور بينهم مثل شمسٍ صغيرة فقدت حرارتها، ومع ذلك تضيء. ابنه بينهم، يركض، يختنق التراب خلف خطواته، لكنه يضحك، يضحك كما لو أن الضحك هو أوكسجين الأزقة.
ابتسامة الأب تتشقق؛ نصفها فرح، نصفها جرح قديم. كان يعرف أن جسده في عمر ابنه لم يتعلم الركض، بل انحنى مبكرًا. كتفاه عرفتا الطابوق قبل أن تعرفا اللعب، ويداه كانتا تحفران مكانًا لبيتٍ لم يكتمل، بيتٍ صار مثل حلمٍ متروك على قارعة الطريق.
صرخة "هدف!" شقت الجدار الرمادي، ارتد صداها على النوافذ المغلقة، ودوّى ضحك الابن كأنه ماء يغسل الصدأ. عندها أغمض الأب عينيه، ولم يرَ سوى لقطات متكسرة: وجهه الصغير يلهث تحت الشمس، ظهره محمّل بالعبء، برودة شتاء بلا نار، صمتٌ طويل بلا أغنية.
فتح عينيه على حركة اليد الصغيرة تلوّح من آخر الزقاق. الإشارة لم تكن مجرد تحية، بل إعلان: "ها أنا ألعب عنك، أركض عنك، أضحك لك."
هنا انقلب الزمن، كأن اللعبة مؤجّلة لكنها لم تُمحَ. خطوات الابن كانت نسخة مؤجلة من خطوات الأب، لكن مضاعفة بالفرح. كأن الجسد الواحد انقسم إلى زمنين: زمنٍ عاش الانحناء، وزمنٍ يركض الآن، يعيد توزيع الهواء في الرئة ذاتها.
جلس الأب أبعد في الصمت، وكأنما أدرك أن حياته ليست وراءه فحسب، بل أمامه أيضًا، تمشي بأقدامٍ أصغر، وتضحك بأصواتٍ لم تتلوث بعد بالعمل المبكر. أدرك أن اللعبة لم تضع، بل تأجلت حتى وُلد لها جسد جديد، أكثر خفة، أكثر استعدادًا للطيران.