السبت ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم غدير حميدان الزبون

العربيّة تجمع شملها في حضن الجدات والأمهات

في اليوم الذي تُصافح فيه العربية شمسها، وتنتصب الحروف في هيبة المقامات، أستدعي أمي الفاطمة في حُجّة ناطقة، وأستحضر جدّاتٍ حكيماتٍ لو خُيّرن بين الصمت والكلام لاخترن الحكاية، لأنهنّ علمن أنّ اللغة التي تُحكى لا تُمحى. كنّ يجلسن على عتبة الذاكرة، يفتلن اللفظ فتل الصوف، ويغزلن من الموروث الشعبي أمثالًا وحكايا سترةً تقي اللغة والتراث من التشظّي والسرقة، وتشدّ المعنى بخيطٍ لا ينقطع.

كان البيت مقامًا، والمطبخ ديوانًا، والطابون منبرًا تتلى عليه بلاغة الحياة. أمي رحمها الله كانت إذا نطقت نطقت بمثل، وإذا غضبت غضبت بحكاية.

كانت تفصل الخصومة بيننا بالحكمة المختصرة، فتقول: "إيد لوحدها ما بتزقّف"، فتقوم الحجّة ويسقط العناد، ونتصالح اقتناعًا.
هكذا تعلّمنا، صغارًا، أنّ المثل قضاء عادل حين تعجز الخطابة.

أما جدّتي رحمها الله ، فكانت تحفظ اللغة في منديلها؛ كلّ عقدة مَثل، وكلّ غرزة حكاية.

إذا تعثّرتُ في اللعب قالت ضاحكة: "اللي ما يعرف يرقص، يقول الأرض عوجة"، فأتعلم قبل المشي أنْ أعتذر للأرض ولا أتهمها.

وإذا أكثرنا الضحك حذّرتنا ببلاغة لا تُدرّس: "كثرة الضحك بتقلّل الهيبة"، ثم تبتسم، كأنها تنقض حكمها بحُسن البيان، فتعلّمنا أنّ اللغة تُهذّب.

كنا أطفالًا نركض خلف الدجاج والقطط ونحسب الظلال أشباحًا، كانت جدّتي تحذّرنا من إيقاع الأذى بالقطط، فتقول: "خطية القط ما بتنط".

وكنّا نختبئ من القيلولة كأنها عقاب سماوي ونطالع حالة الطقس من الغيوم، فإذا ظهر الغيم في السماء قالت الجدة: "إنْ غيّمت باكر احمل عصاتك وسافر، وإنْ غيّمت عشية شوف لك مغارة دفية"، فنفرح ونتعلم أنّ للفرح أدبًا، وأنّ الطرافة ابنة الحكمة لا نقيضها.

كنّا نختبر الأمثال كما نختبر اللعب؛ نقع فنضحك، نخطئ فنُحاط بمثلٍ يرمّم الخطأ ولا يفضحه.

فإنْ سأل سائل: لِمَ المثل؟ قلنا: لأنه ذاكرة الجماعة حين تختصر حكمتها، وسلاح الفقير حين يعجز عن الإطناب.
وفي ليالي الشتاء، حين تنقطع الكهرباء، لم تنقطع اللغة؛ اشتعلت حكاية.

نلتفّ حول الجدّة كأنها نار الكنعانيين الأولى؛ تحكي عن الغولة التي تخاف من الذّكر، وعن الذئب الذي هُزم بالحيلة لا بالقوة، وتختم دائمًا: "اللي له أصل، ما بينقطع".

هنا تقوم البرهنة الكبرى: بأنّ الحكاية تعليمٌ متنكر، وأنّ السرد حجّة ناعمة تُقنع القلب قبل العقل، وأنّ اللغة التي تُضاء بالحكايات لا تخاف العتمة.

أقول لمن يزعم أنّ العربية نصٌّ جامد: مهلًا يا هذا، لقد رأيتها تمشي على أقدام الجدّات، وتُعجَن الخبز بيد الأمهات، وتضحك في أفواه الأطفال قبل أنْ تدخل المعاجم.

فأيُّ سرقةٍ تطال لغةً حُفظت في الصدور قبل السطور؟

وأيُّ تشظٍّ يصيب تراثًا إذا كان الأطفال حرّاسه؟

إنّ اللغة التي غنّتها الأمهات لا تموت في أفواه الغرباء.

وفي يومها العالمي، ألفّ العربية بهذه السترة المنسوجة من الذاكرة، أطرّزها بالأمثال، وأشدّها بخيط الحكايا، وأقول: هذه لغتي؛ لم أتعلمها فقط، بل عشتها. ومن عاش اللغة لا يفرّط بها، ولا يسمح بسرقتها، ولا يقبل لها التشظّي.

ما دامت الأمهات يحكين، والجدّات يسجعن، ستبقى العربية واقفة… تحرسها الطفولة، وتوقّعها مقامات السّرد والحكايا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى